وعيتُ الحياة في بداية الثمانينيات في قرية صغيرة، تحضر نساؤها بكثافة شاسعة، بينما يغيبُ أغلبُ رجالها خارج الصورة، لعملهم في دول مجاورة. هكذا كقصّة بالغة السريالية، توكلُ مشاقٌ لا آخر لها لنساء في مقتبل العمر أو عجائز. ورغم أنّ أكثرهن لا يقرأنَ ولا يكتبنَ فإنهنّ أدرنَ شؤوننا على أحسن ما يكون.

وليست نساء قريتي العزيزات سوى ارتداد مُتناسل لصور نساء عُمان في القرى المجاورة، اللاتي نشأنَ بين وديان أو جبال صلدة، جاورنَ البحر أو غاصت أقدامهنّ في طيات من الرمل الكثيف.

وعيتُ في طفولتي الباكرة استيقاظ الكهرباء في أوردة «موتور» يعمل لساعات قليلة، وما إن ينطفئ ونغرقُ في ظلمة لا نهائية، حتى تتحول الأمهات لمصابيح من أجلنا. أتذكّرُ أمّي وهي ترفعُ عجوزين للمبيت فوق سطح البيت، أمّها وأمّ أبي. جدة عمياء -الضوء المطفأ في عينيها جعل لونهما مائلا للزرقة الباهتة وراء الغشاوة الشفافة- والجدّة الأخرى مُبصرة لكن الجدري أكل أصابع يديها وقدميها. ومعهما ترفع أمّي رضيعا جديدا ينمو بين ذراعيها كلّ عامين، ترفعنا جميعا نحن وفراشنا، آنذاك تصورتُ أنّ لها يدين خارقتين وإلا فكيف أمكنها أن تفعل ذلك؟

تدخلُ الجارات بيتنا في غياب أمّي في المستشفى، يصنعنَ لنا الطعام ويعتنين بنا كأنهنّ أمهاتنا أيضا. ذلك الاطمئنان الشفاف كأنّ أمّنا لم تغب للحظة، إذ تتجسد المؤازرة الطيبة في الأعراس والمرض وواجبات العزاء. يُناضلنَ في الوصول باكرا ليس ليقلنَ أنّهن موجودات بل ليُحدثن أثرا، كذاك الذي أستعيده الآن من ألبوم الذاكرة.

يشربنَ القهوة صباحا ومساء متجاورات في حلقة، تشدني حرارة الألوان وصخب الأزهار في ثيابهن والضحك الذي يثني مشقة اليوم جانبا. وأراقب من كثب ولادة الأحاديث بين شفاههن، ثمّ الخروج المتعجل ما إن يسمعنَ صوت جدي يؤذن للصلاة.

يضعنَ أبقارهن ومواشيهن ودجاجاتهن بمنزلة الأبناء، ولذا لا تتورع إحداهنّ عن أن تدمع عينها لو فقدت إحداها، وقد تؤجل بعض أعمالها في انتظار ولادة إحدى مواشيها، يبعن ويشترين ويجادلن بخبرة يقظة، ويدرنَ مصاريف بيوتهن باقتدار.

وبعد صلاة العصر يجلسن، يُنجمّن الكميم، يطرزن السراويل، ويخطن ثيابنا وهنّ يستندنَ بظهورهن إلى جذوع شجر البيذام، الأعين تلاحق الإبر والشفاه تلاحق الكلام.

لطالما رغبتُ أن أدخل غابة أرواحهن المتشابكة كأشجار مُعمرة، أن ألمس جذور حياتهن الخطرة والآمنة في آن، لطالما شعرتُ أنّهن جديرات بكتابة تجعلهن خالدات.

شاهدتُ العديد منهن يتكبدن مشقة مجيء أحدنا إلى الحياة، فالأوفر حظا بينهن تلك التي ستسوق لها الأقدار من يقلها إلى المستشفى ليولد طفلها فوق سرير من الرعاية الطبية، إلا أنّ ذلك لم يكن يحدث بيسر.

لم يكن طعامنا كثيرًا على أي حال، نقسمُ الدجاجة الواحدة على يومين، وفي أعياد ميلادنا الأولى، تُرسلُ دجاجة لكل بيت من بيوت القرية. لم تعرف أكثرهن آنذاك شيئا عن كعك أعياد الميلاد!

جدتي التي بلا أصابع، تُؤكد أنّ البركة في القليل، فنشبع من الندرة، رغم أنّ أقدامنا لم تكن لتهدأ يوما في تعاريج حقولنا، كنا نُمشطها دون اكتراث لما تأكله الشمس من وجوهنا وأيدينا. أتذكّر أيضا قبضة يد جارتنا التي تضغط بها على راحة أيدينا، تاركة بعض المكسرات والحلاوة كلما عاد زوجها من سفر بعيد. فكل شيء في قريتنا كان مُعدا للاقتسام بيننا. يصنعن لنا المشاريب الطازجة من ثمار الحقل، فنطيرُ فرحا لو طفت فوقها مكعبات من الثلج.

أستعيد نساء قريتي، كمن يدخل في حالة حُلمية. لقد كبرن الآن، فتلك الأيدي التي لم يكن يُوقفها شيء، منذ السباق الأول لجني طرح النخيل في حُلكة الفجر، الأيدي التي تشتبك بسخونة «الطوبج»، أو تغرس بذرة في رحم التربة، أو تفتح المذياع صباحا، أو تسرّح شعورنا وتحلب أضرع الأبقار، وترضع المواليد الجُدد.. تلك الأيدي توقف بعضها بذهابها إلى الموت، والبعض الآخر يتقلبُ على فراش الآلام..

ربما لم تكن حياة مثالية كما أكتبها الآن ولكنها حياة تركت ذكرى مثالية. وفي وقت كهذا، أظن أنّهن الأكثر استحقاقا لكي نقول:

لقد أحدثتن فرقا في حياتنا، لقد رأينا بصحبتكن حياة لا تتكرر كل يوم.

هدى حمد كاتبة عمانية ومديرة تحرير مجلة نزوى