إنّها ليست قصّة «الساندويش» الذي لا يحوي كمية كافية من قطع الدجاج، كما أنّها ليست قصّة الفصل المتعنت من المدرسة لطالبٍ قال رأيه وما شاب الحكاية من ملابسات، بل هي قضية المكان الذي يُدعى «المدرسة» والذي نُعول عليه أن يمنح أبناءنا أصواتهم الشخصية، ليُشكلوا رأيا إزاء ما يدور حولهم، ليمتلكوا الحساسية الأولى لما يمكن أن نسميه «النقد» بمعناه البسيط، دون أن يدفع ثمنا غاليا جرّاء ذلك!

فالحرية التي لا تُحمى بصلابة تُصاب بحالة من الذبول والإمحاء التدريجي، لاسيما عندما تسلبُ ممن هم في مقتبل العمر، أولئك الذين لم تصفعهم الحياة بعد بقوالبها وأدلجتها الجاهزة.

لم نكن في السابق نجرؤ -إلا في استثناءات نادرة- على أن نُجاهر بأشياء تُعذبنا عميقا، لم نكن نجرؤ حتى على مصارحة والدينا بتفاصيل بالغة الدقة، تفرض علينا دوما أن نُظهر الامتنان، فقد تمثلت الأشياء آنذاك في درجة من القداسة التي لا تُمس ولا تُخدش. حتى في تلك اللحظات التي تُقمع فيها أسئلتنا، أو تُفنى فيها المؤشرات الأولى التي تدل على مباهج اختلافنا البدائي، كنا نُربي الخشية العارمة ممن سيغرسون مخالب عقابهم في أجسادنا وهشاشة أرواحنا. بينما يمتلكُ جيل اليوم خيارات شاسعة لقول آرائهم بغض النظر عن صوابها من عدمه.

لستُ على يقين إن كانت المدارس على وعي جيد بتمايز الطلاب، ذلك التمايز الذي لا يمكن أن يُحد بمعايير مُؤطرة تسحق اختلافهم أيما سحق، لا سيما لو علمنا بأنّ «التطور الحر للفردية هو أحد المكونات الأساسية للازدهار»، كما يقول جون ستيورات ميل في كتابه «الحرية».

لكن ليست المدرسة وحدها من تُخمد روح الفرد، إذ يمكن للمجتمع أيضا أن يكون طاغيا مُتسلطا بصورة جماعية على الأفراد الذين يتألف منهم، «فيُمارس طغيانا أشد من العديد من أنواع القمع السياسي، ليُجبر الجميع على أن يتكيفوا مع نموذجه الواحد» على حد تعبير ستيورات.

تساءلنا عقب حادثة «الساندويش» حول إن كانت المدارس تُقدر الآراء المستقلة للطلاب، الأفكار التي تخصهم ويُدافعون عنها، خيالهم الخصب غير المُشوه بالجمود، هل يُسمح لهم بأن يدخلوا في جدل مع الأساتذة متشبثين بقوتهم الداخلية ومعارفهم مهما ظننا أنّها ضئيلة وهشة، من غير أن يحتد المعلم، ومن غير أن يُمارس سلطته، بإرهاب العصا أو بإرهاب الحجم الكبير الذي يربو على أجسادهم الغضة؟!

يشير د.هايم جينو، إلى أن الأجداد مارسوا تأديب أبنائهم بثقة عارمة وبفعل السلطة التي امتلكوها، بينما نحن جيل الآباء الجدد نتصرفُ بشكٍ كبير تجاه فكرة العقاب بالفصل أو الضرب، وذلك بسبب علماء نفس الأطفال الذين حذرونا من العواقب الوخيمة، ولذا فنحن قلقون للغاية من فكرة تدميرهم! ويرى د.جينو أنّ: «جوهر الانضباط هو إيجاد بدائل فعّالة للعقاب وليس العقاب بحد ذاته»، كما أنه يدعو لاستخدام «الحكمة» بدلا من التهديدات، فليس علينا عندما نغضب «أن نمتلئ بحقد الانتقام، وأن نُظهر التصريحات الهدامة».

في حقيقة الأمر، ليس لنا أن نلوم أحدا بشكل مباشر، إذ تحدث الأشياء بحسن نوايا غالبا، فلا يرغب أحد بتدمير طالب بقصد، فالأساتذة مثقلون بنصاب فوق طاقتهم، ومهمومون بالأنشطة، والصفوف مكتظة عن آخرها بالطلبة، ولذا تتبدى فكرة إقامة علاقة استثنائية بين المعلم وطلبته فكرة بالغة الصعوبة، ضمن نطاق مدارس تُقدم نفسها باعتبارها «غارسة للقيم»، ومستحوذة على مصادر المعرفة.

هنالك مهارات لتصدير عقاب ما، وبالتأكيد العنف ليس أفضلها، لأننا قبل أن نرد الطالب عن فعل ما فإننا سنكسر في أعماقه أكثر مما نظن.

ولذا قلما سنجد ولدا يقول عقب عقابه: «سأتحسن سأكون أكثر مسؤولية، لأني أريد أن أرضي هذا البالغ الذي يُعاقبني» كما يقول د.جينو، ولذا فقبول الطلاب كأشخاص يتمتعون بحقوق قانونية، ويمتلكون مختلف المشاعر والرغبات والتصورات والآراء واحترام خيالهم هو ما يجلب الثقة بين الطالب وبيئته المدرسية.

فالمدرسة التي يقضي فيها أبناؤنا ١٢ عاما من حياتهم، ليست مكانا لتلقي العلوم وحسب لاسيما في وقت كهذا تتعدد فيه مصادر المعرفة، بل هو مكان يمكن أن تزدهر فيه الشخصية الفردية أو تموت، يمكن أن تُصطاد فيه المواهب أو تُفلت، يمكن أن تُضيء فيه الأفكار الجديدة أو تُعدم.

هدى حمد كاتبة عمانية ومديرة تحرير مجلة نزوى