خمسون عامًا مرت على حرب ٦ أكتوبر ١٩٧٣، نصف قرن هي فترة مناسبة لدراسة التجربة من كل جوانبها، رغم ما كتب عنها من كتابات، تناولها المؤرخون والعسكريون والساسة، إلا أن الكثير عن هذه الحرب لم يُكتب بعد، فعلى الرغم من الاستعدادات التي أعدها المصريون قبيل الحرب وإعادة تسليح الجيش المصري الذي تعرض لضربة قاضية في حرب ٥ يونيو ١٩٦٧، لكن إسرائيل كانت تملك من العداد العسكري ومن بينها الطائرات والصواريخ ما يفوق إمكانات الجيش المصري بنسبة ٤ إلى ٩، على حد تقدير معظم الخبراء العسكريين، إلا أن الطاقة الهائلة للمقاتل المصري، وإعادة تدريبه وتأهيله ودقة الخطة العسكرية، التي كان يعرف فيها كل جندي مصري موقعه ودوره، وخصوصًا بعد إن التحق بالجيش جميع خريجي الجامعات، وجميعهم كانوا يرغبون في الثأر من الهزيمة التي لحقت بجيشهم في حرب ١٩٦٧، لذا كان المقاتل المصري بطل هذه الحرب بكل اقتدار.

شاهدت منذ عدة أيام فيلما روائيًا عن رئيسة وزراء إسرائيل خلال فترة الحرب «جولدا مائير» من إنتاج فبراير ٢٠٢٣، للمخرج الإسرائيلي «جاي ناتيف»، والمؤلف البريطاني نيكولاس مارتن، من إنتاج إحدى الشركات الإنجليزية، وقد قامت بدور جولدا مائير الممثلة البريطانية هيلين ميرين التي سبق لها الحصول على جائزة الأوسكار عن دورها في فيلم الملكة The Queen، وقد أدت هيلين الدور الذي تقمصت فيه شخصية جولدا باقتدار فائق.

يبدأ الفيلم بمثولها أمام لجنة أجرانات وهو رئيس القضاة الإسرائيلي، وهي اللجنة التي شكّلتها إسرائيل عقب الحرب لمعرفة ماذا حدث؟ ثم تدور أحداث الفيلم من خلال الفلاش باك والعودة إلى اليوم السابق لحرب أكتوبر، عندما استقبلت جولدا موشي ديان وزير الدفاع برفقة بعض قادته، وعندما سألتهم عن المعلومات التي وصلتها بتحرك مصري سوري على الجبهتين مع غروب يوم السادس من أكتوبر، وقد أجابوا جميعا بأن معلوماتهم تقول بأن المصريين رغم الحشود على الجبهة المصرية إلا أنهم ليسوا على استعداد لخوض هذه المغامرة التي قد تبيد جيشهم! ثم تتوالى أحداث الفيلم حينما عبر الجيش المصري بوسائل عبقرية لم ينتبه إليها الإسرائيليون، وخصوصًا لحظة اقتحامهم خط بارليف، الذي كان بمثابة جدار ركامي حصين بطول قناة السويس.

تترنح العجوز جولدا وهي تتلقى خبر الحرب وعدد القتلى وتدمير أكثر من ٤٠٠ دبابة في اليوم الأول و٣٠٠ طائرة، وانهيار الجيش الإسرائيلي على كل مواقعه في الجبهة المصرية، بينما الجيش السوري يتقدم على الجبهة الشمالية وأصبح قريبًا من تل أبيب. تجلس العجوز في غرفتها عقب يوم دامٍ وهي تشعل سيجارتها وأمامها كومة كبيرة من أعقاب السجائر، وفي مشهد حزين تسأل مرافقتها: ماذا لو دخلوا علينا في بيوتنا، ثم تواصل حديثها: لا أريد أن أكون على قيد الحياة في هذا اليوم، وأنت المسؤولة عن هذه المهمة!

تتوالى أحداث الفيلم وكأننا أمام عمل توثيقي لأحداث الحرب، وخلال أسبوع كامل عاشت فيه إسرائيل حالة من الرعب، إلا أن شيئا جديدًا قد حدث على الجبهة المصرية، حينما قاد شارون عملية عسكرية مباغتة أقرب إلى العمل الانتحاري، بعد أن التف خلف الجيش الثالث المصري، واستطاع أن يضرب عليه حصارًا صارمًا، بينما كان ذلك يحدث على جبهة الحرب، كانت الولايات المتحدة الأمريكية تقيم جسرًا جويًا لنقل الأسلحة والذخائر والطائرات التي ملأت سماء إسرائيل، وبقيادة طيارين أمريكيين، لذا قبل الرئيس أنور السادات بمبادرة وزير الخارجية الأمريكي كيسنجر بوقف إطلاق النار، والدخول في مفاوضات فض الاشتباك بين الجيشين، وقد اضطر الرئيس السادات لقبول هذه المبادرة، قائلا إنه لا يستطيع محاربة أمريكا. وأيا ما كان الحكم على هذه المبادرة، وما أحدثته من تباين في رأي المحللين السياسيين والعسكريين، إلا أن مصر لم تكن تملك أكثر من هذا، وخصوصًا أن الرئيس السادات كان عازمًا على حل القضية سياسيًا.

الفيلم «جولدا» يُسجل قدرة هذه العجوز -كما كان يسميها الرئيس السادات- على إدارة هذه الأزمة رغم أنها لم تكن تملك من الوقت إلا القدر الذي تتلقى فيه علاجها الإشعاعي، وهي تقاوم مرض السرطان، بينما تقود أكبر أزمة في تاريخ إسرائيل.

على الرغم مما جاء في الفيلم من مغالطات وخيالات في محاولة لتقديم صورة إسرائيل القوية، إلا أن الكثير منها يتهاوى أمام الحقائق التي وردت في الوثائق الإسرائيلية التي استطاع فريق من أساتذة اللغة العبرية بجامعة عين شمس اختراق الموقع الإلكتروني لوزارة الدفاع الإسرائيلية، وحصلوا على كمٍ كبير من الوثائق وقد ترجموها إلى العربية، وأشرف عليها المرحوم الدكتور إبراهيم البحراوي، وقد نشرت في أربعة مجلدات بدعم من المركز القومي للترجمة، والكثير منها جاء في ترجمات دقيقة لتحقيقات لجنة «أجرانات»، وهي تسجل أحداث الحرب بكل تفاصيلها، والواقع العسكري والاجتماعي الذي واجهته إسرائيل من خلال شهادات القادة العسكريين. وأعتقد أن هذه الوثائق في حاجة إلى الدراسة والتحقيق لنعرف ماذا حدث وكيف حدث؟

المشهد الذي يستحق التسجيل، تلك الخطة الدقيقة التي أعدها العسكريون بقيادة الفريق سعد الدين الشاذلي، رئيس أركان الجيش المصري، التي نفذها الضباط والجنود بكل دقة واقتدار، كما أن أمرًا آخر شديد الأهمية، وهو قدرة الرئيس السادات وكل معاونيه على التكتم على مفاجأة العبور، رغم أن إسرائيل كانت تسجل لحظة بلحظة كل ما كان يحدث على الجبهة المصرية، من خلال أجهزة تنصت عالية الدقة وضعتها في سيناء.

يبقى المقاتل المصري من أبناء الشعب هو البطل الحقيقي لهذه الحرب، التي خاض فيها الجنود والضباط حربا ضارية كانت محفوفة بالمخاطر، وخصوصًا أن نكسة ١٩٦٧، كانت ماثلة أمام أعينهم، كما كانوا على بينة من التباين الواضح ما بين المعدات العسكرية الإسرائيلية مقارنة بالمعدات العسكرية المصرية، وكان مفتاح الحرب من خلال وسيلة غير تقليدية لاختراق خط بارليف، الذي أجمع العسكريون على استحالة اقتحامه، حتى باستخدام القنبلة الذرية، إلا أن فكرة الضابط الشاب المهندس «باقي زكي يوسف»، كانت عبقرية لدرجة أنها أبهرت العالم.

ستبقى حرب ٦ أكتوبر ١٩٧٣، بمثابة درس ملهم وعظيم، يمكن استعادته لكي تتجاوز الشعوب هزائمها، ويبقى البطل الحقيقي هو الإنسان القادر على صنع المستحيل.

د. محمد صابر عرب أستاذ التاريخ بجامعة الأزهر ووزير الثقافة المصرية سابقا ورئيس مجلس إدارة الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية سابقا.