يجلس الواحد منا - وقد أصبحت الشتوية وشيكة- مستمعا إلى الموسيقى الشجنة، وإذا بنا ونحن نُدرك ضربات العود في متتالية آسرة، أو صعود الصوت وهبوطه، نجد أجسادنا تختلج.
يصعب أحيانا تحديد ما يحدث أولا: شعور المرء بقشعريرة وهو يستمع إلى الموسيقى (يشاهد فيلما أو يقرأ شعرا) أم توصله لأن الشيء الذي يسمعه/ يُشاهده/ يقرأه يعجبه. وحتى لو كانت تنبه المرء لأن النغمة تمسه وتعجبه، يبقى أن تلك الرجفة -بما فيها من مادية وحسية- دلالة إضافية على أن تلك المقطوعة تروق له، تروق له جدا. ومثل ذلك نتنبه إلى إعجابنا بشخص ما عبر قلوبنا التي تخفق بسرعة، ونتنبه عبر مغص المعدة، أن الحدث المرتقب يُقلقنا ويُوترنا.
عندما نتحدث عن اتخاذ القرارات، تكوين رأي حول موضوع أو شخص، نعرف أننا لا نفعل ذلك معتمدين على قدراتنا المنطقية والتحليلية وحدها، بل أيضا على أجسادنا. تُخبرنا أجسادنا إن كنا نثق بشخص ما أو لا، أن موضوعا يُثيرنا، أن خيارا ما سيهلكنا. نحن نعرف كل هذا، ونعرف أن أجسادنا -على عكس أقوالنا- لا تكذب. لذا نهتم بقراءة لغة الجسد، والاستشفاف من الإشارات غير المنطوقة مواقف الآخرين منا ومن العالم.
يُخبرنا علماء الوعي أننا نُدرك الأشياء ونكون آراءً عنها قبل أن نعي إدراكنا لها. إنهم يستندون إلى التجارب العديدة التي يُمكن وصفها على نحو تجريدي كالآتي: يُطلب من المشاركين في التجارب تحديد موضوع، أو الشعور الذي تُثيره صورة تظهر لأجزاء من الثانية. لا يكاد يُدرك المشاركون ما رأوا، لكنهم ينجحون في التخمين على نحو ملفت. أو يصفون شعور الراحة أو عدم الارتياح دون القدرة على تبرير شعورهم، إذ أن الوقت أقصر من أن يسمح لهم بإدراك ما رأوا.
أحيانا نقول إن حدسنا يُخبرنا أن هذا شيء علينا اجتنابه، أو شيء يستحق العناء. من جهة نعلم أن الحدس تقوده تجاربنا السابقة، وبهذا المعنى فهو أداة حكيمة يُمكن الوثوق بها. من جهة أخرى نعرف أننا مبتلون بأنماط تفكير معيبة، تُوقعنا في الفخاخ نفسها. ربما علينا إذا الاحتكام إلى الوقائع -والوقائع وحدها- وعدم الانقياد لمشاعرنا التي تُخبرنا أن نهلع حين لا يكون ثمة داعٍ للخوف، وأن نندفع حين لا يكون لدينا الأسباب الكافية لتبرير المخاطرة. إنها تُوقعنا في شباك أقدم الحيل الخبيثة التي تضمن بؤسنا: التوق للبعيد الذي لا يمكن الوصول له، الرغبة في الأشياء متى ما أصبحت خارج متناولنا، السعي المستميت للقبول والاعتراف. وغيرها من العلل التي تستديم تعاستنا.
ثمة مسائل أخرى لا تتعلق بالسلوك واتخاذ القرارات، أو تكوين آراء (يُمكن أن تُدان، أو يُطرى عليها)، أعني مسائل الذوق. فالإعجاب بقطعة موسيقية ليس أمرا مستحقا لا للوم ولا الثناء. لكن القول أن مسائل الذوق لا تحتاج إلى تبرير، يعني أننا نأخذ الموضوع بشكل سطحي. فحتى مسائل الذوق يُمكن أن تنطوي على أحكام أخلاقية. ثمة موسيقى فاحشة، وكلمات تذكي الكراهية، وفنانون لا نتفق مع مواقفهم السياسية. وفي الحالات التي يحصل فيها النفور، يُمكن أن يتجلى النفور جسديا. لكن لا تعنينا كثيرا المواقف التي تتفق فيها ردات الفعل الجسدية مع التأملات الذهنية. يعنينا عدم اتفاقهما: ماذا أفعل عندما لا يتفق حدسي مع الوقائع؟ أو حين لا يكون بمقدوري دعم مشاعري بأدلة ملموسة؟
يُمكن القول أن ثمة سيناريوان لذلك. الأول، هو أن يكون لدى الإنسان مشاعر لا تستند إلى وقائع، هذه المشاعر مدعومة بنمط تفكير متكرر، هذه المشاعر تُعرقل حياة صاحبها، وتمنعه من أداء بعض الوظائف «الطبيعية». مثل أنواع الفوبيا المختلفة. في هذه الحال يتوجب تغيير الطريقة التي يشعر بها المرء، عبر العلاجات النفسية المتخصصة. السيناريو الثاني، يتمثل في أن يكون لدى الإنسان مشاعر لا تستند إلى وقائع، لكن ذلك لا يعود إلى كون المرء عالقا في نمط تفكير معيب، ولكن لأن المرء يفتقر إلى المعلومات التي تؤهله للتفكر في الموضوع. أعني أن السيناريو الأول يتفق مع الثاني في عدم الاستناد إلى وقائع، لكن الفارق أن الحالة الأولى تأتي من تجاهل المرء للحقائق، مثلا يُمكن لمن لديهم وساوس التفكير بأن عالمهم سينهار إذا لم يلتزموا بروتين معين (يغلقون الإضاءة عددا معينا من المرات). بينما الحالة الثانية تأتي من افتقار المرء للمعلومات بالأساس، ومن انعدام الطريقة للتأكد، كأن يُحس المرء أن المكان الذي هو فيه مشبوه، أو الشخص الذي يتعامل معه مشبوه. عادة ما يكون ثمن الخطأ في هذه الحالات مرتفعا، فإذا صدق الإحساس أن المكان مشبوه قد يعني هذا تعرض المرء للأذى.
حين يرتجف الجسد، يقشعر، أو يتألم، يستحق أن نستمع إليه. تُوفر لنا المشاعر، ويُوفر لنا الحدس طريقة بديلة لسبر العالم. التجاهل التام لهذه الأدوات قد يعود على المرء بعواقب غير محمودة. دعونا إذا نُشرك أجسادنا في صناعة القرار، فقد يكون معها الحق هذه المرة.
يصعب أحيانا تحديد ما يحدث أولا: شعور المرء بقشعريرة وهو يستمع إلى الموسيقى (يشاهد فيلما أو يقرأ شعرا) أم توصله لأن الشيء الذي يسمعه/ يُشاهده/ يقرأه يعجبه. وحتى لو كانت تنبه المرء لأن النغمة تمسه وتعجبه، يبقى أن تلك الرجفة -بما فيها من مادية وحسية- دلالة إضافية على أن تلك المقطوعة تروق له، تروق له جدا. ومثل ذلك نتنبه إلى إعجابنا بشخص ما عبر قلوبنا التي تخفق بسرعة، ونتنبه عبر مغص المعدة، أن الحدث المرتقب يُقلقنا ويُوترنا.
عندما نتحدث عن اتخاذ القرارات، تكوين رأي حول موضوع أو شخص، نعرف أننا لا نفعل ذلك معتمدين على قدراتنا المنطقية والتحليلية وحدها، بل أيضا على أجسادنا. تُخبرنا أجسادنا إن كنا نثق بشخص ما أو لا، أن موضوعا يُثيرنا، أن خيارا ما سيهلكنا. نحن نعرف كل هذا، ونعرف أن أجسادنا -على عكس أقوالنا- لا تكذب. لذا نهتم بقراءة لغة الجسد، والاستشفاف من الإشارات غير المنطوقة مواقف الآخرين منا ومن العالم.
يُخبرنا علماء الوعي أننا نُدرك الأشياء ونكون آراءً عنها قبل أن نعي إدراكنا لها. إنهم يستندون إلى التجارب العديدة التي يُمكن وصفها على نحو تجريدي كالآتي: يُطلب من المشاركين في التجارب تحديد موضوع، أو الشعور الذي تُثيره صورة تظهر لأجزاء من الثانية. لا يكاد يُدرك المشاركون ما رأوا، لكنهم ينجحون في التخمين على نحو ملفت. أو يصفون شعور الراحة أو عدم الارتياح دون القدرة على تبرير شعورهم، إذ أن الوقت أقصر من أن يسمح لهم بإدراك ما رأوا.
أحيانا نقول إن حدسنا يُخبرنا أن هذا شيء علينا اجتنابه، أو شيء يستحق العناء. من جهة نعلم أن الحدس تقوده تجاربنا السابقة، وبهذا المعنى فهو أداة حكيمة يُمكن الوثوق بها. من جهة أخرى نعرف أننا مبتلون بأنماط تفكير معيبة، تُوقعنا في الفخاخ نفسها. ربما علينا إذا الاحتكام إلى الوقائع -والوقائع وحدها- وعدم الانقياد لمشاعرنا التي تُخبرنا أن نهلع حين لا يكون ثمة داعٍ للخوف، وأن نندفع حين لا يكون لدينا الأسباب الكافية لتبرير المخاطرة. إنها تُوقعنا في شباك أقدم الحيل الخبيثة التي تضمن بؤسنا: التوق للبعيد الذي لا يمكن الوصول له، الرغبة في الأشياء متى ما أصبحت خارج متناولنا، السعي المستميت للقبول والاعتراف. وغيرها من العلل التي تستديم تعاستنا.
ثمة مسائل أخرى لا تتعلق بالسلوك واتخاذ القرارات، أو تكوين آراء (يُمكن أن تُدان، أو يُطرى عليها)، أعني مسائل الذوق. فالإعجاب بقطعة موسيقية ليس أمرا مستحقا لا للوم ولا الثناء. لكن القول أن مسائل الذوق لا تحتاج إلى تبرير، يعني أننا نأخذ الموضوع بشكل سطحي. فحتى مسائل الذوق يُمكن أن تنطوي على أحكام أخلاقية. ثمة موسيقى فاحشة، وكلمات تذكي الكراهية، وفنانون لا نتفق مع مواقفهم السياسية. وفي الحالات التي يحصل فيها النفور، يُمكن أن يتجلى النفور جسديا. لكن لا تعنينا كثيرا المواقف التي تتفق فيها ردات الفعل الجسدية مع التأملات الذهنية. يعنينا عدم اتفاقهما: ماذا أفعل عندما لا يتفق حدسي مع الوقائع؟ أو حين لا يكون بمقدوري دعم مشاعري بأدلة ملموسة؟
يُمكن القول أن ثمة سيناريوان لذلك. الأول، هو أن يكون لدى الإنسان مشاعر لا تستند إلى وقائع، هذه المشاعر مدعومة بنمط تفكير متكرر، هذه المشاعر تُعرقل حياة صاحبها، وتمنعه من أداء بعض الوظائف «الطبيعية». مثل أنواع الفوبيا المختلفة. في هذه الحال يتوجب تغيير الطريقة التي يشعر بها المرء، عبر العلاجات النفسية المتخصصة. السيناريو الثاني، يتمثل في أن يكون لدى الإنسان مشاعر لا تستند إلى وقائع، لكن ذلك لا يعود إلى كون المرء عالقا في نمط تفكير معيب، ولكن لأن المرء يفتقر إلى المعلومات التي تؤهله للتفكر في الموضوع. أعني أن السيناريو الأول يتفق مع الثاني في عدم الاستناد إلى وقائع، لكن الفارق أن الحالة الأولى تأتي من تجاهل المرء للحقائق، مثلا يُمكن لمن لديهم وساوس التفكير بأن عالمهم سينهار إذا لم يلتزموا بروتين معين (يغلقون الإضاءة عددا معينا من المرات). بينما الحالة الثانية تأتي من افتقار المرء للمعلومات بالأساس، ومن انعدام الطريقة للتأكد، كأن يُحس المرء أن المكان الذي هو فيه مشبوه، أو الشخص الذي يتعامل معه مشبوه. عادة ما يكون ثمن الخطأ في هذه الحالات مرتفعا، فإذا صدق الإحساس أن المكان مشبوه قد يعني هذا تعرض المرء للأذى.
حين يرتجف الجسد، يقشعر، أو يتألم، يستحق أن نستمع إليه. تُوفر لنا المشاعر، ويُوفر لنا الحدس طريقة بديلة لسبر العالم. التجاهل التام لهذه الأدوات قد يعود على المرء بعواقب غير محمودة. دعونا إذا نُشرك أجسادنا في صناعة القرار، فقد يكون معها الحق هذه المرة.