بظهور صندوق الدنيا تغيرت أشياء كثيرة جدا، شعرنا بها أو لم نشعر.. نتسمر أمام الشاشة منذ بدء البث بالسلام السلطاني الذي يظهر فيه العلم العماني خفاقا، وصورة جلالة السلطان ممتطيا خيله الأصيلة، إلى السلام الثاني الذي يختتم به البث اليومي، وكم سمعنا من أقراننا الصغار -وما أبرئ نفسي- من ترديد محرف، غير متعمد، لكلمات السلام، مثلما يحدث كذلك في الأغاني، لدرجة أن تسمع من يردد كلمات هي (ليست كالكلمات) ولكنها كيفما وقعت على الأذن. ونخشى في أوقات المشاهدة أن يكلفنا الأهل بأي شيء حتى لا يفوتنا شيء.. وكأي جديد يلامس حياة الناس بشكل مباشر فقد ظهر بعض الرافضين له، فالقاعدة العريضة من الناس رحبت وسعت إلى اقتنائه، إلا أن فريقا من الناس رفض إدخال هذا (الشيطان) إلى بيته، وشعر بخطر داهم على أسرته، وخاصة على نسائه وبناته بما يعرضه من مشاهد وخطاب لم يعتد عليه هذا المجتمع. فبعض الناس يسألون: هل يوجد في بيت سماحة الشيخ المفتي تلفزيون؟، وقد يشترط دخوله إلى بيته بتأكده من اقتناء المفتي له.. والبعض ينتقد التلفزيون في إشارة إلى الأفلام والمسلسلات وبعض الأعمال الرومانسية والعبارات الجديدة الصادمة لكثيرين: (ما شفنا من ذا التلفعيون غير حبيني واحبش).. وفريق اعتبره شرا لا بد منه، فحاول سن القوانين داخل أسرته للمشاهدة، وفئات وأوقات المشاهدة. وطبيعي أن هذه القوانين ستتلاشى بالتقادم. أما المحرومون منه وخاصة الأطفال إما أن يستسلموا لقرار رب الأسرة وينتظروا يوما يأتيهم الفرج باقتناعه واقتنائه، أو أن يخططوا يوميا لكيفية المشاهدة في بيت الجيران (المحظوظين)، خاصة إذا تعلق أحدهم بمسلسل معين. فكم سيتحمل الجيران هذه الاستضافة، والتبعات الواردة في حال علم ذلك المعاند بخططهم، وكم سيذهب البعض ليتشفعوه بالموافقة..

في العام التالي (1975/م) افتتحت استديوهات صلالة، وفي عام 1979/م تم ربط محطتي مسقط وصلالة ضمن قناة واحدة.. كما كان يُبث من صلالة برنامج أسبوعي خاص باللغة الجبالية/ الشحرية (البرنامج الريفي) فتنفصل محطة صلالة مؤقتا، فلا نشاهد هذا البرنامج في الشمال؛ لأنه موجه للمتحدثين بهذه اللغة في الجبل والريف..

نشاهد وجوها عمانية تشبهنا، ولكن بصور أخرى.. بدءا من قرّاء القرآن الكريم، الذي يُستهل به البث التلفزيوني مثل الشيخ القارئ سالم الراسبي، والشيخ القارئ والمنشد حسن الفارسي، الذي سأتشرف لاحقا أن أكون من تلاميذه لمادة التفسير، وقارئ آخر لا أتذكر اسمه ، فضلا عن قرّاء نشرات الأخبار، ومقدمي البرامج الذين تجولوا في عمان من أقصاها إلى أقصاها.. ولقلة الكوادر العمانية ظهر في البدء المذيع المصري الوسيم أحمد سمير وزوجته الحسناء سهير شلبي، حتى أصبحت عبارة (أعزائي المشاهدين) التي تستهل بها تقديماتها عبارة شعبية محببة. كما ظهر تباعا جيل من العمانيين المؤسسين، مثل الأساتذة ذياب صخر ومنى محفوظ وعبدالعزيز السعدون وعلي المجيني وحمد البلال وإبراهيم اليحمدي، ورحمة حسين وفتحية محمد، وفي استديوهات صلالة غانم الدعن وسعود الخالدي وآخرون لا أتذكرهم أو لم أعرفهم، غير متخيل أنني سأتشرف بمزاملتهم بعد حوالي ثماني سنوات.

الجميع ينتظرون نشرة الأخبار الرئيسية ويتحفزون للمتابعة. فقبلها بحوالي دقيقتين تظهر الساعة على الشاشة، مصحوبة بموسيقى ملائمة لإيقاع وتكّات عقاربها، فيضبط الناس ساعاتهم عليها، ويتأكدون من جودتها، تتبعها شارة النشرة المصممة بشكل يعكس هيبة النشرات والسياسة من خلال ظهور شعار الدولة على ألوان العلم، يليه مشهد دوران الكرة الأرضية، في دلالة على عالمية الأخبار، مؤطرا برمزية العين أو ما يسمى عدسة عين السمكة (Fish eye lens) وكأن لسان الحال يقول: هذه عيننا على العالم.. عندما ذهبت ورفاق الصغر في زيارة مدرسية للتلفزيون كان يهمنا جدا أن نرى الساعة، لنجدها ساعة حقيقية وليست افتراضية، موضوعة على قاعدة أفقية، محمية بصندوق تعلوه كاميرا خاصة بها، إضافة إلى نسخ منها في بعض المداخل والاستديوهات.. حرص التلفزيون على إبقاء واحدة منها تذكارا على مدخله الرسمي في المبنى الجديد.. أخبار العالم في الغالب كعادتها تحمل الدمار بكل صوره، ويمكن أن تختم ببعض المنوعات. أما أخبار البلاد فتحمل البشائر والأفراح بأنواعها، فمشروع هنا وآخر هناك، قوانين وتشريعات في كل مناحي الحياة تمهد لدولة المؤسسات والقانون بنفس طويل.. كثيرة هي الأعمال التي عرضها التلفزيون في سنواته الأولى خاصة قبل ظهور القنوات الفضائية، والتي حتما أعادت صياغة أفكار وتوجهات وأذواق الناس، وأدخلت مفردات جديدة لا تحصى في حياتنا اليومية. ولا يخفى الدور الذي لعبه في التنوير، وفي إبراز منجزات الحكومة، والحرب الإعلامية لما يجري عند الحدود الجنوبية للبلاد حتى نهاية عام 1975م، والمشروع النهضوي للسلطان قابوس -رحمه الله- بشكل عام، بل وتسنى للشعب أن يتعرف على سلطانه الذي لم يكن الأغلب يعرفون حتى بوجوده قبل أن يحكم، فالسلطان الأسبق لم ير الشعب صورته إلا من خلال صورة يتيمة في تلك المنظرة (المرآة) التي تتوسطها صورة صغيرة في أعلاها، أو تملء جانبيها رسمة لطاووسين متقابلين..

كل ما يظهر في التلفزيون هو حالة من الدهشة والإبهار.. تعبئة غير عادية للأدمغة والأمزجة، وإعادة صياغة لأمة بأكملها أرضا وشعبا.. فتدفق كل ما هو أجنبي يفتح نافذة واسعة جدا للتعرف على الآخر.. وعلى الصعيد الوطني عمان تتقارب وتتلاحم أكثر وأكثر.. نشاطات جلالة السلطان بشخصيتيه المدنية والعسكرية تجعل الجميع مشدوها أمام الشاشة. فيوما يضع حجر أساس لمشروع طموح، وآخر يعتلي منبر المسجد، وثالث يسلم راية جديدة لكتيبة عسكرية.. يتقبل أوراق اعتماد السفراء، ويستقبل زعماء دول أخرى فتدهشنا المراسم والبروتوكولات والسجاد الأحمر، والبزات والموسيقى العسكرية، ونشاهد في حفلات العشاء الرسمية، ملابس لم نألفها، ولم نكن نعلم أنها من موروثات البروتوكولات والمظاهر السلطانية التي توارثها سلاطين الدولة البوسعيدية.. احتفالات العيد الوطني في ذلك الوقت في استاد الشرطة بالوطية، تبعه ميدان الفتح بجواره، والذي قدمت فيه عروض التاتو القادمة من الخارج. كانت مثيرة جدا بقياسات ذلك الوقت على الأقل، ولاحقا أصبحت هذه العروض من مهارات الحرس السلطاني العماني، وبعض القطاعات. أصبح بإمكان من لا يتمكن من الحضور للاستاد وخاصة من خارج العاصمة أن يتابع من خلال التلفزيون.. بعض الناس يحملون معهم أجهزة راديو صغيرة لمتابعة المشهد بصريا في الميدان ومتابعة التعليق صوتيا على اللوحات من الإذاعة، ويتجلى ذلك أكثر في متابعة المباريات التي أتوقع أن البعض يمارسها إلى اليوم خاصة مع وجود الراديو ضمن تطبيقات الهواتف الذكية.

ظل التلفزيون سنوات طويلة يمتنع عن تقديم الإعلانات التجارية. فلا شيء يقطع المشاهدة إلا رفع الأذان بتوقيت مسقط، حتى ظهر أول إعلان تجاري يروج لزيت يعبأ في عمان، فيردد الناس أغنيته، وتشاكس ربة البيت زوجها بأشهر عبارة في الإعلان: (إن خلص الزيت، أنا سايبه البيت).