كوب من مشروب ساخن أو بارد أو مُتخيَّل أمام البحر أو في قُلة جبل ما، سهرة مع أصدقاء هم مرآة لذاتك القصية التي لا تعدو أن تكون شبحا هلاميا يختبئ خلف سحابة من الضباب الهائل ينقشع فور لقائك بهم، العودة إلى المنزل بعد أسبوع عمل شاق.. العودة إلى «البلاد» يوم الخميس؛ جرعات من السعادة المجزأة التي نتمنى استمرارها لنستقر ذاتيا وتهجع نيران التشتت المضطرمة بدواخلنا، ويشعر بها كل إنسان في مرحلة ما من حياته.
تتجسد لحظات السعادة والبؤس في حياة كل إنسان، وتُعاد على مدى سيرورة حياته، ولا تمتد لحظة إلا وتنحسر عن نقيضتها متأرجحة بين الضفة والضفة المعاكسة لها. يعجبني في الأدب أنه خالد لا يتغير، وذلك لأن الأدب الذي يناقش ويوصِّف لحظات النفس الإنسانية بتقلباتها وتأرجحها وبنائها وانهيارها؛ هُوَ هُوَ مذ بدأت الخليقة حتى يومنا. الثابت في التاريخ البشري هو التغيُّر والتغيُّر المستمر، فما كان يعد فتحا طبيا، ينقلب خرافة وخزعبلات في الزمن الذي يليه. وما كانت نظرية علمية، تتهاوى أمام نظرية علمية أخرى مناقضة لها أو مكملة لنقصها. وما كانت فكرة فلسفية عبقرية تتحول إلى واقع عملي ملموس طافح بالبؤس والفشل، تتهافت أمام فكرة فلسفية أخرى تأتي بعدها وتهدم صرحها على رأسها. أما الأدب؛ فمنذ النصوص المنقوشة على الألواح الطينية لحضارة بلاد الرافدين، مرورا بالإلياذة والأوديسة الإغريقيتين، والشاهنامة الفارسية، والشعر السامق العالي فيما يعرف اليوم بالشعر الجاهلي، وصولا إلى الأدب الحديث عربيِّهِ ومترجمه؛ كلها تلامس شغاف قارئها، وتمثل بلسما خاصا لعذابات الروح القديمة والحديثة، أو لنقل لعذابات الإنسان القديم والحديث. وتقترب من مشاكله وهمومه الوجودية والنفسية، فبيت شعر جاهلي -أستدل به هنا لأنني أشد التصاقا بالشعر ولغته من النصوص الخالدة بلغات أخرى- يفجؤنا أمام نظريات علم النفس الحديثة التي تعب علماء النفس حتى يتوصلوا إليها، وجملة نثرية من كتاب قديم، تحلل مشكلة نفسانية كما لم يستطع الطب السلوكي فعله بتلك الدقة. فقول أبي الطيب المتنبي رغم كونه من المتأخرين عن مرحلة الشعر الجاهلي:
إذا ساء فعلُ المرء ساءت ظنونه
وصدّق ما يعتاده من توهمِ
وعادى محبّيه بقول عداته
وأصبحَ في ليلٍ من الشك مُظلمِ
نجد نظيرا له في قول معن بن أوس المزني المخضرم الذي عاصر العصرين الجاهلي والإسلامي:
كَأَنَّكَ تَشفي مِنكَ داءً مَساءَتي
وَسُخطي وَما في رِيثَتي ما تَعَجَّلُ
وهما يشرِّحان حالة المصاب بـ«مرض الشك» كما نعرفه اليوم في الطب السلوكي، قبل أن نعرف ما الطب السلوكي أصلا!. وهلم جرا من الدلائل الكثيرة التي لو جمعناها من الأدب القديم حتى يومنا لحصلنا على مجلد ضخم يربو على حمل بعير أو شاحنة عملاقة من نوع بيك-أب.
يتمثل جوهر الأدب في شموليته الإنسانية وتجاوزه للزمان والمكان على السواء، وتتمثل في هذا الأمر عظمته كذلك.
يقول لك الناصح، اقرأ كل شيء فستنتفع بما تقرؤه في يوم ما؛ أما الجاهل والمتجاهل فيقولان لك «احذر أن تقرأ» «احذر أن تعرف»، وما بين هذين النقيضين؛ تظهر شخصية وسطية، ذلك هو الصديق.
فالصديق الحقيقي، هو الذي تتجرد أمامه من الفذلكات اللغوية والمماحكات اللفظية وتصبح أمام المرآة الصافية التي لم يتيسر لك النظر إلى دواخل نفسك عبرها قبلُ.
تكمن مشكلة البشر في كونهم بشرا؛ فالإنسان مهما ادعى التجرد والحيادية، لا بد له من جانب يركن إليه ويميل بكلِّيَّته نحوه. وهنا تكمن فائدة الصديق أيضا، ذلك الآخر الذي لا يرجو نفعا ولا ضرا منك ويحب لك ما يحبه لنفسه.
السعادة حالة إنسانية عالية، قد نجنيها من حوار صادق، كتاب عذب، بيت شعري حالم، علاقة إنسانية صافية، صلاة خاشعة صادقة؛ فهي حالة ما في فترة ما، وليست خطا مستقيما لا اعوجاج فيه.
أما تلك التي تكون ثابتة مستقرة، فهي الطمأنينة. ويقع اللبس بينها هي الثابتة الراسخة وبين الحالة التي تشبه الانتشاء في لحظة ما وفق ظرف ما والتي نصطلح عليها باسم السعادة. من هنا يقع اللبس لقراء كتب التنمية البشرية ومراجعة الذات بين الحال الراسخة واللحظة التي تشبه الومضة الشعرية.
فالطمأنينة هي الرضا والرسوخ والتجلد أمام نوائب الدهر وحوادثه، كما في قوله تعالى: (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا). وكذا قول رَسُولُ الله: «عَجَبًا لأمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لأِحَدٍ إِلاَّ للْمُؤْمِن: إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خيْرًا لَهُ».
تتجسد لحظات السعادة والبؤس في حياة كل إنسان، وتُعاد على مدى سيرورة حياته، ولا تمتد لحظة إلا وتنحسر عن نقيضتها متأرجحة بين الضفة والضفة المعاكسة لها. يعجبني في الأدب أنه خالد لا يتغير، وذلك لأن الأدب الذي يناقش ويوصِّف لحظات النفس الإنسانية بتقلباتها وتأرجحها وبنائها وانهيارها؛ هُوَ هُوَ مذ بدأت الخليقة حتى يومنا. الثابت في التاريخ البشري هو التغيُّر والتغيُّر المستمر، فما كان يعد فتحا طبيا، ينقلب خرافة وخزعبلات في الزمن الذي يليه. وما كانت نظرية علمية، تتهاوى أمام نظرية علمية أخرى مناقضة لها أو مكملة لنقصها. وما كانت فكرة فلسفية عبقرية تتحول إلى واقع عملي ملموس طافح بالبؤس والفشل، تتهافت أمام فكرة فلسفية أخرى تأتي بعدها وتهدم صرحها على رأسها. أما الأدب؛ فمنذ النصوص المنقوشة على الألواح الطينية لحضارة بلاد الرافدين، مرورا بالإلياذة والأوديسة الإغريقيتين، والشاهنامة الفارسية، والشعر السامق العالي فيما يعرف اليوم بالشعر الجاهلي، وصولا إلى الأدب الحديث عربيِّهِ ومترجمه؛ كلها تلامس شغاف قارئها، وتمثل بلسما خاصا لعذابات الروح القديمة والحديثة، أو لنقل لعذابات الإنسان القديم والحديث. وتقترب من مشاكله وهمومه الوجودية والنفسية، فبيت شعر جاهلي -أستدل به هنا لأنني أشد التصاقا بالشعر ولغته من النصوص الخالدة بلغات أخرى- يفجؤنا أمام نظريات علم النفس الحديثة التي تعب علماء النفس حتى يتوصلوا إليها، وجملة نثرية من كتاب قديم، تحلل مشكلة نفسانية كما لم يستطع الطب السلوكي فعله بتلك الدقة. فقول أبي الطيب المتنبي رغم كونه من المتأخرين عن مرحلة الشعر الجاهلي:
إذا ساء فعلُ المرء ساءت ظنونه
وصدّق ما يعتاده من توهمِ
وعادى محبّيه بقول عداته
وأصبحَ في ليلٍ من الشك مُظلمِ
نجد نظيرا له في قول معن بن أوس المزني المخضرم الذي عاصر العصرين الجاهلي والإسلامي:
كَأَنَّكَ تَشفي مِنكَ داءً مَساءَتي
وَسُخطي وَما في رِيثَتي ما تَعَجَّلُ
وهما يشرِّحان حالة المصاب بـ«مرض الشك» كما نعرفه اليوم في الطب السلوكي، قبل أن نعرف ما الطب السلوكي أصلا!. وهلم جرا من الدلائل الكثيرة التي لو جمعناها من الأدب القديم حتى يومنا لحصلنا على مجلد ضخم يربو على حمل بعير أو شاحنة عملاقة من نوع بيك-أب.
يتمثل جوهر الأدب في شموليته الإنسانية وتجاوزه للزمان والمكان على السواء، وتتمثل في هذا الأمر عظمته كذلك.
يقول لك الناصح، اقرأ كل شيء فستنتفع بما تقرؤه في يوم ما؛ أما الجاهل والمتجاهل فيقولان لك «احذر أن تقرأ» «احذر أن تعرف»، وما بين هذين النقيضين؛ تظهر شخصية وسطية، ذلك هو الصديق.
فالصديق الحقيقي، هو الذي تتجرد أمامه من الفذلكات اللغوية والمماحكات اللفظية وتصبح أمام المرآة الصافية التي لم يتيسر لك النظر إلى دواخل نفسك عبرها قبلُ.
تكمن مشكلة البشر في كونهم بشرا؛ فالإنسان مهما ادعى التجرد والحيادية، لا بد له من جانب يركن إليه ويميل بكلِّيَّته نحوه. وهنا تكمن فائدة الصديق أيضا، ذلك الآخر الذي لا يرجو نفعا ولا ضرا منك ويحب لك ما يحبه لنفسه.
السعادة حالة إنسانية عالية، قد نجنيها من حوار صادق، كتاب عذب، بيت شعري حالم، علاقة إنسانية صافية، صلاة خاشعة صادقة؛ فهي حالة ما في فترة ما، وليست خطا مستقيما لا اعوجاج فيه.
أما تلك التي تكون ثابتة مستقرة، فهي الطمأنينة. ويقع اللبس بينها هي الثابتة الراسخة وبين الحالة التي تشبه الانتشاء في لحظة ما وفق ظرف ما والتي نصطلح عليها باسم السعادة. من هنا يقع اللبس لقراء كتب التنمية البشرية ومراجعة الذات بين الحال الراسخة واللحظة التي تشبه الومضة الشعرية.
فالطمأنينة هي الرضا والرسوخ والتجلد أمام نوائب الدهر وحوادثه، كما في قوله تعالى: (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا). وكذا قول رَسُولُ الله: «عَجَبًا لأمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لأِحَدٍ إِلاَّ للْمُؤْمِن: إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خيْرًا لَهُ».