في الوقت الذي لم تعد فيه أعداد كبيرة من تلاميذ المدارس الثانوية تتلقى سوى الحد الأدنى من التعلّم في مادة الرياضيات، أظهرت دراسة أن هذه المادة تنطوي على فوائد جمّة وغاية في الأهمية على مستوى نمو الدماغ. لقد نُشر مقال علمي مُؤخرًا في المجلة المرموقة «وقائع الأكاديمية الوطنية للعلوم» (Proceedings of the National Academy of Science) يقدّم مقارنة لدرجة النضج الدماغي بين مجموعتين من تلاميذ المدارس الثانوية، حيث قرر البعض مواصلة تعلم الرياضيات في سن 16-17 عاما، بينما فضّل الآخرون التوقف عن دراسة هذه المادة.

اهتمّ الباحث والأكاديمي جورج زاكاروبولوس (George Zacharopoulos) وزملاؤه من جامعة أكسفورد، في هذه الدراسة بمنطقة تقع في قشرة الفص الجبهي يتم ربطها غالبا بالرياضيات، وهي التلفيف الجبهي الأوسط (Middle frontal gyrus)، ووجدوا علامة ترجّح احتمال نضج أكبر لهذه المنطقة بين صفوف التلاميذ الذين اختاروا الاستمرار في تعلم الرياضيات مقارنة بأولئك الذين تخلّوا عن هذا التخصص. وذلك من خلال قياس درجة تركيز ناقل عصبي يسمّى بـ«الگابا» (GABA) (الذي يختلف استخدامه في قشرة الفص الجبهي اطّرادا مع هذا النضج) ...

ومن خلال الغوص مرة أخرى في ذكرياتي التي تعود إلى المرحلة الثانوية والاطّلاع على المقررات الدراسية الحالية، وبالاستناد إلى ما أظن أنني أكون قد استوعبته بخصوص الوظائف المتعددة لقشرة الفص الجبهي، حاولت فهم هذه الملاحظة، وفهم تأثير الرياضيات على تطور هذا الجزء من الدماغ لدى المراهقين بشكل عام. وتوصلت إلى نتيجة مفادها أن خيار التخلي تماما عن الرياضيات هو بلا شك خيار ليس من دون عواقب من وجهة نظر النضج المعرفي.

نحن نعلم أن الدماغ يمتاز بمرونته، ويعيد تشكيل نفسه مع مرور الزمن من أجل الاستجابة لمتطلبات بيئته على النحو الأمثل، خاصة حينما تكتسي هذه المطالب طابعا متكررا، ويكون لها تأثير كبير على صحة الفرد. وهذا صحيح بشكل خاص عندما تكون منطقة ما من الدماغ لم تصل بعد إلى مرحلة النضج، وهو ما ينطبق على قشرة الفص الجبهي لدى المراهقين. يدفع هذا إلى الاعتقاد بأن الأنشطة التي تُمارس في المدرسة الثانوية لها تأثير مهم على نمو هذه المنطقة من الدماغ، ويتجاوز الأمر مجرد التلفيف الجبهي الأوسط الذي ركّزت عليه الدراسة التي أجراها زاكاروبولوس وفريقه.

الوظائف التنفيذية الأربع الرئيسية للدماغ

ولكن هل بوسعنا القول بأن هذا هو الحال بالنسبة إلى الرياضيات؟ الجواب هو نعم، إذا نجحنا في إثبات أن الرياضيات تحفّز بشكل كبير وظائف قشرة الفص الجبهي. تتمثل هذه الوظائف «التنفيذية» -التي يعرفها جيدا قراء مجلة الدماغ وعلم النفس- أساسا في تثبيت الانتباه، والتثبيط (الذي يسمح للشخص بعدم الاستجابة بشكل اندفاعي وحدسي وإنما الشروع في عملية التفكير المنطقية والعقلانية)، وذاكرة العمل (التي تساعد على الاحتفاظ بالمعلومات في الذهن أثناء التفكير)، والتخطيط (الذي يرتّب الأفعال المختلفة في الزمن، وفقًا لهدف ما)، والمرونة العقلية (القدرة على تكييف الاستراتيجيات مع السياق والأهداف المنشودة).

وبفضل هذه الوظائف، تنظم قشرة الفص الجبهي سلاسل الأفعال الجسدية والعقلية التي تسمح لنا بالتفكير وتحقيق أهداف قصيرة أو متوسطة أو طويلة المدى. إنها تتيح لنا أن نأخذ في الاعتبار ليس فقط اللحظة الآنية ومكان تواجدنا، وإنما أيضا المستقبل والماضي والأماكن الأخرى من أجل توجيه سلوكنا في كل لحظة وفقًا لغاية معينة... مثل استهداف حل مشكلة رياضية. يؤدي تعلم الرياضيات إلى تطوير شبكات عصبية من شأنها أن تكون مفيدة في كل مرة يكون فيها من الضروري بناء مسار ذهني يقود إلى حلٍّ مع مراعاة الإكراهات القوية.

لنأخذ على سبيل المثال القشرة الجبهية الحجاجية (Orbitofrontal cortex)، التي قدّمت عنها عرضا هنا في مقال سابق، ولنرى ما يمكن أن يكون دورها في حل تمرين رياضي. يبدو أن هذه المنطقة من القشرة الجبهية تلعب دورا مركزيا على مستوى توجيه اختيارنا لأفعالنا في كل لحظة وفقا لأهمية كل فعل في علاقته بهدف ما، تماما كما توفر الخريطة معلومات بخصوص فائدة الذهاب في هذا المسار أو ذاك بُغية الوصول إلى مكان محدد. وبما أن القشرة الجبهية الحجاجية تهتم بكل أنواع الأفعال، جسدية كانت أم عقلية، طالما أنه يمكن تقييم هذه الأفعال فيما يتعلق بغاياتها النهائية، فمن المنطقي أن تتدخّل هذه المنطقة في توجيه اختيارات تلميذ في المرحلة الثانوية أثناء عمله على حل مسألة رياضية: «هل من مصلحتي اشتقاق هذه الدالة؟» غير أننا نرى من خلال هذا المثال أن الأفعال التي ستقوم القشرة الجبهية الحجاجية بتقييمها لا تتعلق بأشياء تنتمي إلى هذا العالم، وإنما بكيانات رياضية مجرّدة، التي تستدعي على نحو قوي تدخل كامل القشرة الجبهية.

التجريد يجعل الخلايا العصبية تنمو

في الواقع، تتعلق العديد من التمارين الرياضية بمعالجة أشياء مجرّدة بمستويات متباينة، من أجل تحويلها واستنتاج خصائص صائبة انطلاقا من خصائص أخرى صحيحة، والوصول بالتالي إلى البرهنة عن قضية ما. وللقيام بذلك، يجب علينا إخضاع الأشياء لأفعال تغيّرها وفقًا لقواعد اكتسبناها، التي تتوافق أحيانا مع الواقع المادي، لكن ليس دائما. واسمحوا لي أن أشرح هذه النقطة: في العالم المادي، من «الواضح» أنني إذا قمت بخفق بياض البيض لفترة كافية مع إضافة القليل من الملح، فسوف أحصل على مخفوق البيض، وإذا قمت بتسخين الشوكولاتة، فإنها ستذوب. ولذا فيمكنني استخدام هذا النوع من المعرفة للشروع في سلسلة من الأفعال التي ستنتج عنها رغوة الشوكولاتة انطلاقا من المكونات الأساسية، حتى لو كنت قد نسيت هذه العلاقات السببية؛ لأن الملاحظة البسيطة للعالم الحقيقي تكفي لتذكيري بها.

هذا ليس هو الحال دائما في عالم الرياضيات: إذا كان من الواضح أنه «إذا وضعت بيضة بجوار البيضة التي تقع أمامي، فسوف يكون لدي بيضتان أمامي»، وإذا كان من الواضح أيضا أنني « إذا رسمت مستقيما د1 يكون موازيا لمستقيم د2 الذي يكون بدوره متعامدا مع مستقيم د3، فإن المستقيم د3 سيكون متعامدا مع المستقيم د1»، فإن ما يترتّب عن فعل «اشتقاق دالة جيب التمام (Cosinus)» يكون على العكس أقل قابلية للملاحظة بشكل مباشر في العالم الحقيقي.

هذا يعني أن دماغ تلميذ المرحلة الثانوية الدّارس للرياضيات يجب أن يكون قد تعلّم وحفظ مجموعة كاملة من نتائج الأفعال المجرّدة تماما، تُطبّق على أشياء لا مثيل لها في العالم المادي الحسّي، حتى يتمكن من تصور المسار المحدد الذي يفضي إلى الحل. ويجب تذكّر هذه النتائج بشكل مثالي وليس على سبيل التقريب (مشتقة دالة جيب التمام تساوي سالب دالة الجيب). يجب أن تكون قشرة الفص الجبهي لدارس الرياضيات، وخاصة القشرة الجبهية الحجاجية، قادرة على العثور بدقة على أثر كل فعل من أفعاله «الرياضية».

تعدّ هذه القدرة على استخدام ذاكرة جدّ دقيقة لأشياء مختلفة وخصائصها للربط بينها ميزة كبيرة عندما يتعلق الأمر بتخيّل خطة من أجل الوصول إلى نتيجة من خلال مقارنة الحلول المختلفة مع بعضها البعض، سواء تعلق الأمر بتحسين أداء محرك أو حتى بتنظيم حفل زفاف. خاصة أن التعامل مع الأشياء الرياضية يتطلب ذاكرة عمل موثوقة بدرجة كافية من أجل تصور هذه الأشياء ومعالجتها ذهنيا. للتفكير في مشكلة بناء هندسية، يجب على المرء أن يكون قادرا على الاستناد إلى تمثّل عقلي ثابت للشكل وللتغييرات التي يرغب في إدخالها عليه، وذلك بفضل ذاكرة العمل البصرية المكانية (Visual-spatial working memory)، التي تظل مستقرة من خلال الانتباه الجيد، والتي لا ينال منها أي مصدر إلهاء يشتّت تركيزها (استمرارية الانتباه والقدرة على التثبيط)، ومن الضروري أيضًا تجنب المثابرة على المشي في طريق مسدود، بفضل المرونة الذهنية هذه المرة.

فائدة تُرجى في جميع المجالات

يستدعي تعلّم الرياضيات إذن جميع الوظائف التنفيذية، ومن المنطقي بالتالي - كما يبدو بناءً على نتائج الدراسة التي أجراها زاكاروبولوس وفريقه - أنها تنمّي الشبكات العصبية التي تكمن وراء هذه الوظائف، ليس فقط على مستوى التلفيف الجبهي الأوسط (أو القشرة الجبهية الحجاجية) ولكن ربما أيضا في جميع أنحاء قشرة الفص الجبهي، ومن المتوقع أن تحقق فائدة في جميع المهام الحياتية التي تستخدم هذه الشبكات. وتتمثل هذه المهام في كل تلك المهام التي تتطلب بناء مسار ذهني نحو الحل مع الأخذ بعين الاعتبار الإكراهات التي لا يمكن التحلّل منها.

وإذا كانت التخصصات الأخرى تتطلب بكل تأكيد مهارات مماثلة (لتطوير حجج مقنعة على سبيل المثال)، يبدو أن الرياضيات هي الأكثر تطلّبا والأكثر تعليما – بالنظر إلى الحاجة إلى دمج الخصائص الدقيقة لأشياء مجرّدة وعدم الاكتفاء أبدا بالتقديرات التقريبية. وربما هنا أيضا تكمن محدوديتها، لأنها أقل قدرة على مراعاة ردود الفعل والعلاقات غير المؤكدة، مثل تلك التي تحكم سلوك الأفراد. ولكن هذه قضية أخرى... قد يكون إذن من الجيد التفكير مرتين قبل التخلي عن الرياضيات!

جون فيليب لاشو (Jean-Philippe Lachaux) / مدير أبحاث بمركز الأبحاث في العلوم العصبية التابع لجامعة ليون بفرنسا.

المصدر: مجلة الدماغ وعلم النفس، عدد 141.