الدورة العادية للجمعية العامة للأمم المتحدة رقم ٧٨ بدأت أمس في نيويورك المقر الرئيسي لهذه المنظمة الدولية، التي انطلقت في أعقاب الحرب العالمية الثانية وانتصار الحلفاء ضد ألمانيا النازية وحلفائها. وقد صاغ المنتصرون الميثاق بحيث يكون لهم السيطرة الواقعية على شؤون العالم من خلال العضوية في مجلس الأمن لدول الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا والاتحاد السوفييتي السابق حاليا روسيا الاتحادية وأخيرا الصين، مع وجود ميزة استخدام حق النقض الفيتو، والذي باستطاعة الخمسة الكبار تعطيل أي قرار من مجلس الأمن إذا تعارض مع مصلحة أي من الدول الخمس، أو حتى مصالح الدول الحليفة لتلك الدول.

ولعل النموذج الصارخ هنا هو الولايات المتحدة الأمريكية التي استخدمت حق النقض الفيتو لعشرات المرات خاصة ضد قرارات منصفة تخص القضايا العربية خاصة القضية الفلسطينية، ولم تكن واشنطن معنية بشكل مباشر بتلك القرارات، ولكن اتخذت قرارات الفيتو لصالح الكيان الإسرائيلي، وهي تمارس هذا السلوك السياسي السلبي حتى الآن ومنذ قيام الكيان الإسرائيلي عام ١٩٤٨، كما أن روسيا الاتحادية والصين وفرنسا وبريطانيا استخدمت الفيتو وإن كان بشكل أقل وفي أحيان لمصالح تمس تلك الدول مباشرة، وإن كانت بريطانيا تدور في نفس السلوك السياسي الأمريكي فيما يخص رفض أي قرار يعطي الحقوق للشعب الفلسطيني، خاصة وإن بريطانيا هي صاحبة وعد بلفور المشؤوم عام ١٩١٧ بتأمين وطن لليهود. ويظل هذا الوعد هو الذي جر الحروب والصراعات بين العرب والكيان الإسرائيلي في عدة حروب لا تزال حتى الآن، وإن اختلفت منهجيتها كما هو الحال المواجهات بين إسرائيل والمقاومة الفلسطينية في غزة والضفة الغربية، أو فيما يخص المواجهة مع المقاومة اللبنانية ممثلة في حزب الله.

عودة للأمم المتحدة ودورتها الحالية يبرز سؤال كل عام مع انعقاد الدورة تلو الدورة، هل هذه المنظمة الدولية التي يقترب عمرها من ثمانية عقود قادرة على إيجاد حلول للحروب والصراعات المشتعلة في عدد من مناطق العالم أم أن الخطب السياسية التي تمثل المواقف السياسية هي أقصى ما يمكن عمله؟ والإجابة بشكل موضوعي إن الأمم المتحدة وفي السنوات الأخيرة أصبحت عاجزة عن إيجاد حلول واقعية لتلك الصراعات لأن مؤشر قوتها وتأثيرها السياسي يتدحرج بشكل سلبي، ولعل سيطرة القوى الكبرى وترهل هذه المنظمة ووجود لاعبين من الدول للتوسط في تلك النزاعات والحروب أفقد المنظمة الدولية جزءا كبيرا من هيبتها. وقد كتبت في مقال سابق في هذه الصفحة أن الأمم المتحدة تتحول تدريجيا إلى ما يشبه المنتدى السياسي، حيث الاجتماعات واللقاءات البروتوكولية بين وزراء الخارجية والدبلوماسيين وحتى وجود عشرات الصحفيين والإعلاميين لتغطية أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث تأتي أخبار الدورة ٧٨ الحالية أحيانا في منتصف نشرات الأخبار وليس في مقدمة الأخبار العالمية وهذا يعطي مؤشرا على تضاؤل أهميتها.

إن حروب وصراعات إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية متواصلة منذ عقود ولعل حروب الصومال واليمن وأثيوبيا والأوضاع في سوريا وليبيا ومناطق التوتر في دول الصحراء والساحل والحرب المشتعلة الآن بين روسيا الاتحادية وأوكرانيا وقضايا التسلح النووي كلها قضايا لم تستطع الأمم المتحدة إيجاد حلول سياسية لها رغم أن تلك الحروب والصراعات تهدد الأمن والسلم الدوليين، وهي من صلب ميثاق الأمم المتحدة. إن المنظمة الدولية أصبحت أكثر اهتماما بالقضايا الإنسانية والإغاثة وهذا جانب إيجابي ومهم ومع ذلك فإن قضايا السلام هي المهمة الأساسية، فالشعب الفلسطيني يرزح تحت الاحتلال الإسرائيلي منذ أكثر من سبعة عقود، ورغم أن هناك قرارات حاسمة من مجلس الأمن الدولي والجمعية العامة للأمم المتحدة فإن الأمم المتحدة للأسف عجزت حتى عن تنفيذ قراراتها، وهذا يعني أن الولايات المتحدة الأمريكية تحديدا هي العقبة الأساسية لأنها تريد حماية حليفتها إسرائيل وهذا أثر على مصداقية الأمم المتحدة. كما أن تعيين الأمين العام للأمم المتحدة لا بد أن يحظى بالرضا الأمريكي ولعل عددا من مذكرات الأمناء العامين السابقين للأمم المتحدة تطرقت إلى هذا السلوك السياسي الأمريكي، ومنهم الراحل بطرس بطرس غالي أول مصري وعربي يجلس على مقعد الأمين العام للأمم المتحدة، بل إن واشنطن استخدمت نفوذها لعدم إعادة انتخابه بعد تقريره المنصف عن جريمة قانا في لبنان التي ارتكبتها قوات الاحتلال الإسرائيلي ضد الفلسطينيين.

ومن هنا فإن واشنطن هي جزء من التأثير السلبي على حراك الأمم المتحدة ولذلك فإن الاجتماعات الحالية للجمعية العامة للأمم المتحدة لن تختلف عن سابقتها من الدورات وسوف تظل الحروب والصراعات مشتعلة ومهددة للسلام والاستقرار في العالم، في ظل اندلاع الحرب في السودان، والتي أدت إلى مشكلات ومآس إنسانية للشعب السوداني. علاوة على الانقلابات في إفريقيا هناك قضايا ملاحة في منطقة الخليج العربي والملف النووي الإيراني والتوتر بين طهران وواشنطن، وأمام هذا المشهد السياسي الدولي الحافل بالصراع ماذا بإمكان الأمم المتحدة أن تعمل هذا سؤال مهم ينبغي على قادة العالم الذين تقاطروا على نيويورك أن يعطوا إجابة واقعية حول إشكالات النظام الدولي الحالي الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة الأمريكية، هل تستطيع مجموعة بريكس أن تغير من شكل النظام القطبي الواحد إلى نظام دولي متعدد الأقطاب هذا سؤال الزمن كفيل بالإجابة عليه؟ ومن هنا فإن المشهد السياسي في نيويورك لن تتغير ملامحه، كل وفد سيلقي خطاب بلاده ويعبر عن مواقفه السياسية تجاه مختلف القضايا مع وجود تلك الاجتماعات البروتوكولية التي تمت الإشارة إليها، وما هي إلا أيام ويغادر القادة وممثلو الدول لتبقى عذابات الشعوب متواصلة تحت وطأة الفقر والمشكلات الاجتماعية والأمراض والحروب والصراعات، وتبقى الدول الكبرى تتحكم في الأمم المتحدة من خلال النفوذ والسيطرة داخل مجلس الأمن الدولي. إن هذا الطرح السياسي ليس تقليلا من شأن أدوار الأمم المتحدة الإنسانية ولكن نتحدث عن واقعية سياسية تعيشها الأمم المتحدة، وكأن الرئيس الأمريكي السابق ترامب أكثر وضوحا عندما قال إن الولايات المتحدة الأمريكية لا تحتاج لهذه المنظمة، بمعنى أن واشنطن تستطيع اتخاذ قراراتها دون الحاجة للأمم المتحدة.

ومن هنا فإن الانعقاد السنوي للجمعية العامة للأمم المتحدة هي تظاهرة سياسية بروتوكولية واجتماعات على صعيد الدول لمناقشة المصالح المشتركة أما قضايا الصراعات والحروب في مختلف القارات فإن دور الأمم المتحدة أصبح شكليا من خلال بيانات عامة أو مبعوث هنا أو هناك دون وجود آلية يفترض أن الميثاق وضع أسسها منذ انطلاق الأمم المتحدة عام ١٩٤٥.

ولعل تضاؤل دور الأمم المتحدة مع السنوات قد يجعلها ليس فقط منتدى سياسيا ولكن الخشية أن تتكرر تجربة عصبة الأمم التي تلاشت، ولعل هذا الكلام ينطلق من خطورة الحرب الروسية الأوكرانية والتي تعد مواجهة مسلحة غير مباشرة بين حلف الناتو وروسيا الاتحادية وقد ينتج عنها نتائج تعصف بالمنظمة الدولية بل وتجر العالم إلى مواجهة نووية في ظل استمرار المواجهة والتلويح بالسلاح الأخطر في العالم.

ورغم غياب خيار آخر للأمم المتحدة فإن تلاشي دورها الحقيقي يضعها أما خيارات صعبة ومن هنا فنحن مع الرأي الذي ينادي بإعادة هيكلة الأمم المتحدة وخاصة توسيع عضوية مجلس الأمن الدولي وعدم سيطرة القوى الكبرى الخمس على صناعة القرار السياسي في الأمم المتحدة من خلال سطوة الفيتو الذي أضر بقضايا الشعوب ومنها الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة.