يعتقد البعض أن الدين يقتصر على العبادات «الصلاة، والصوم، والزكاة، والحج» فضلا عن النطق بالشهادتين، هذه جميعها شعائر واجبة على كل مسلم، وشروط واجبة لكي يتحقق إسلام المسلم، لكن تبقى قضية لا يكتمل إسلام المسلم بدونها وهي المعاملات، انتماء الشخص لوطنه، وإخلاصه في عمله، ومحبته للناس، وتجنب الظلم والكذب، فالدين كما قال الدكتور مصطفى محمود «رحمه الله تعالى»: هو استقامتك، ومعاملتك للآخرين، وصدقك والتزامك، وإخلاصك في تربية أولادك وبرك بوالديك، وإحسانك لزوجتك، وحفظ لسانك عن كل قول يسيء للآخرين حتى ولو كانوا من غير المسلمين، فضلا عن حرص المسلم على تطوير حياته «الدين خُلق ومعاملات».

نتابع في حياتنا المعاصرة تلك الخصومة المفتعلة بين المسلمين بكل هذه المعاني العظيمة وبين واقعهم، فقد فهم البعض الإسلام على غير مقاصده حينما أقاموا خصومة مع مخالفيهم في الدين، بل افتعل بعضهم خصومة مع الحضارة المعاصرة، وقد لفت نظري منذ مطلع هذا القرن (2009م) تلك المعارك التي افتعلها بعض المسلمين «من أصول عربية وغير عربية» من المقيمين في فرنسا «والذين حصلوا على جنسيتها» بشأن قضية النقاب والحجاب ولم يدركوا أن الفرنسيين اختاروا لأنفسهم منهجًا للحياة وهو فصل الدين عن الحياة العامة ورغم ذلك فقد ساوى الدستور الفرنسي بين الجميع مسلمًا وغير مسلم، وقد قصد المسلمون من معظم أقطار العالم الإقامة في فرنسا والحصول على جنسيتها وفضلوها وطنًا دائمًا لهم، لكنني لاحظت أنهم لم ينخرطوا بعد في المجتمع الجديد وعاشوا في أحياء خاصة بهم بل راح بعضهم يفرض ثقافته وخصوصًا فيما يتعلق بملبس المرأة الذي صار قضية رآها المسلمون مسألة عقيدة، ورأها الفرنسيون مخالفة لمبادي وقيم الجمهورية الفرنسية، تلك القيم التي استقرت في المجتمع الفرنسي منذ نهاية القرن التاسع عشر، وقد ازدادت المعركة ضراوة بين القائلين بحرية الملبس وبين القائلين بضرورة احترام القيم الفرنسية التي ترفض التمييز بين الفرنسيين في ملبسهم بصرف النظر عن الديانات التي يعتنقونها.

عشت هذه المعركة عن قرب حينما سافرت إلى فرنسا عام 2009م حيث كنت مشاركًا في مؤتمر دولي نظمه الاتحاد الدولي للمكتبات بمشاركة رؤساء خمسون مكتبة من بين المكتبات الكبرى في العالم من الصين واليابان والهند وصولاً إلى رئيس مكتبة الكونجرس الأمريكي، وكانت جلسات المؤتمر تعقد في مقر بلدية باريس، وفي نهاية كل يوم كنت أعود إلى الفندق وأشاهد المعركة الدائرة على القنوات التلفزيونية ما بين القائلين بحرية المرأة في ملبسها وبين القائلين باحترام قيم الدولة الفرنسية لدرجة أن القضية قد تجاوزت الإعلام إلى مساجد فرنسا حينما حضرت صلاة الجمعة في أحد مساجدها كان الخطيب من بين المهاجرين المغاربة وقد أشعلها على المنبر حربَا ضارية ضد فرنسا ودستورها وقوانينها، وكنت أتعجب من تلك الجرأة المفتعلة التي لا تخدم الجالية المسلمة.

منذ أسبوعين أو أكثر تجددت هذه المعركة حينما أصدرت الحكومة الفرنسية قانونًا بعدم ارتداء العباءة في المدارس والجامعات، وقد انتفض المسلمون حتى من غير المتدينين لمقاومة هذا القرار الذي رآه المسلمون إجحافًا بحقوقهم، ونيلا من حريتهم في بلد يحترم الحرية الشخصية، والسؤال: هل هذه هي حرية شخصية؟ هل ارتداء هذا الزي مع احترامنا له يندرج تحت الحرية الشخصية في بلد كفرنسا؟ المهاجرون المسلمون الذين استقبلتهم فرنسا وأتاحت لهم فرص التعليم والتوظيف على قدم المساواة مع الفرنسيين عليهم أن يحترموا قوانين وأعراف الدولة المضيفة وليس من اللائق أن يضيع المسلمون المقيمون في فرنسا حقوقهم ومكتسباتهم وأن يختزلوا الإسلام في الملبس؛ فالإسلام أعظم من هذا بكثير، وخصوصًا أن المجتمع الفرنسي وغيره من المجتمعات الأوروبية لا ينظر إلى جسد المرأة ولا يتتبع عوراتها، بل الذي يلفت النظر أكثر هو ملابس الشرقيين ونسائهم بنقابهم وعباءتهم، ولا يمكن لمسلم عاقل أن يبدد حقوق الجالية المسلمة في فرنسا وأن يختزلها في الملبس. وإذا كانت الفتاة المسلمة في باريس قد حصلت على حقها في التعليم والتوظيف أسوة بالفرنسيين فكيف يُقبل أن تجلس الفتاة في مقاعد العلم بزي مخالف لقيم المجتمع الفرنسي، وإذا كان البعض متمسكًا بملبسه مخافة الفتنة فعليه أن يعود إلى وطنه أو أي بلد آخر في العالم الإسلامي ففيه متسع للجميع!، على كل دولة أن تختار قوانينها ودساتيرها وفق إرادتها، وليس من حق الضيف أن يفرض ثقافته على المضيف.

لقد انتصر الإسلام لكل قيم التقدم وإعمال العقل الذي يستهدف المصالح العامة في التنمية والعلم والتعليم، والصدق، وتقديس العمل، وهي قواعد عملت بها أوروبا فنقلتها إلى مرحلة متقدمة من الحضارة المعاصرة، بينما نحن في بلادنا نؤدي صلواتنا، ونصوم شهر رمضان، بل البعض منا يصوم الاثنين والخميس من كل أسبوع، ونضع المصاحف في بيوتنا ومساجدنا، ورغم ذلك بقينا في ذيل العالم المتقدم وانشغلنا بسفاسف الأمور، واعتبرنا الملبس قضية محورية وعلى فرنسا أن ترضخ لمطالبنا.

إذا كنت لا أوافق على التمييز بين الفرنسيين على أساس ملبسهم فأنني أطالب الحكومة الفرنسية وهي تمر الآن بأزمة كبيرة في علاقتها بالدول الإفريقية التي استعمرتها ونهبت خيراتها وقتلت الكثيرين من أبنائها أن تقدم اعتذارًا تعترف فيه بكل ما اقترفته من جرائم في حق هذه الشعوب التي استباحت ثرواتها ومقدراتها عبر سنوات طويلة ولن تعمل على النهوض بها تعليمًا وتنمية وإعمارًا، وهي مسؤولية تاريخية ستظل فرنسا تتحمل تبعاتها التاريخية على كل ما ارتكبته من جرائم في حق هذه الشعوب.

د. محمد صابر عرب أستاذ التاريخ بجامعة الأزهر ووزير الثقافة المصرية سابقا ورئيس مجلس إدارة الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية سابقا.