تعطي الأحداث السياسية والتغيرات التي يشهدها العالم الآن في مجالات العلم والتكنولوجيا والتكتلات بكافة أشكالها انطباعًا أن ثمة تحولات اقتصادية تتشكل. الحديث والأبحاث في قضايا التغير المناخي والسعي وراء ما يسمى بالطاقة النظيفة والتحول نحو اقتصاد بانبعاثات كربونية منخفضة وتبعات ذلك على الاقتصاديات المعتمدة على استخراج النفط والغاز أمر يستحق اهتماما بشكل مباشر، حتى وإن بدا بعيد التحقق في المدى المنظور القريب. وإن كان كذلك محكوما بتحكم قوى سياسية تتجاذبها المصالح يبقى مشروعا قائم العمل عليه في أذهان الكثير من الساسة والعلماء والاقتصاديين. إضافة إلى هذا، السباق في مجالات التكنولوجيا وصناعات الذكاء الاصطناعي التي يتوقع لها أن تحكم اتجاهات السوق والتفوق الاقتصادي، ناهيك عن التوترات والتغيرات السياسية التي لا يكون الاقتصاد بمعزل عنها، مثال ذلك مؤخرًا الانقلابات العسكرية التي بدأت شرارتها في القارة الإفريقية تأخذ منحى صداميا متصاعدا مع التنفذ السياسي والاستنزاف الاقتصادي لمواردها من قبل دول الاستعمار سابقا، وهذا ينبئ بأنه إذ ما تم ومر أن ثمة تغيرات في موازين القوى قد تحدث ولا بد تبعًا أن تتبعها تحولات اقتصادية تطال الجميع. على المستوى الإقليمي لا يمكن إغفال أن تكتل بريكس مثلًا بدأ يتوسع في المنطقة لدينا بانضمام دول مثل إيران والإمارات والسعودية ومصر وإثيوبيا، وغيرها من الأحداث.

لا يمكننا التفكير بأننا معزولون عنها وأنها لا تعني شيئا على أرض الواقع لدينا، شئنا أم أبينا نحن جزء من هذه المنظومة ومقولة تأثير الفراشة نعيشها يوميا في أبسط أحداث يومنا حتى في معاشاتنا التقاعدية على سبيل المثال!.

في مؤتمر المال والاقتصاد الذي عقد بالصين عام 2019 أشير إلى أن إحدى مشكلات الاقتصاد في وقتنا الحالي هي شيخوخة السكان ففي الولايات المتحدة الأمريكية كانت أحد الأسباب التي تؤثر على فرص الاستثمار، وعالميا هي أحد أسباب تباطؤ نمو الاقتصاد وأن الإنفاق على الضمان الاجتماعي والمعاشات التقاعدية تشكل ضغطا على الموازنات الحكومية، صحيح أن أنظمة التقاعد لا تراجع لدينا فقط وقد نشترك في بعض النقاط لدوافع المراجعة.

هذا التقديم لتبيان أننا نسير في سياق أكثر اتساعا من حدودنا الجغرافية وأن العالم يتغير بوتيرة متسارعة ويتعين علينا أن نطوع خططنا الاقتصادية وأنظمتنا التشريعية أحيانًا لنتكيف معه ولا نفيق متأخرين، ونحن بحاجة إلى خطاب إعلامي يضعنا على بينة في سياق ما يجري من أحداث بل الأهم من ذلك أنه لدينا الكثير من الأسباب الكافية على المستوى المحلي التي تجعلنا مشغولين بوضعنا اقتصاديا وما الذي تحقق حتى الآن، وما هي رؤية الحكومة لتحقيق قدر من الانتعاش الاقتصادي وتوسعة مصادر الدخل القومي وتنويعها في ظل التغيرات العالمية والتنافس في كثير من المجالات حتى على المستوى الإقليمي في حدود منظومة الخليج العربي. هنالك كثير من المسائل الاقتصادية التي ما زال المواطن يشعر حيالها بأنه يحتاج إلى قدر أوفر من الشفافية عند الحديث عنها وقدر أكثر من الوضوح والدقة من أعداد الخريجين وكفاءتهم وتوفر فرص التوظيف المستقر إلى كل ما يتعلق بالتطوير والمشروعات الاقتصادية المنتظرة لتدفع بحركة الاقتصاد.

لنأخذ مثالا قطاع السياحة مع مصادفة أن هذا الحديث يأتي وموسم خريف ظفار يختتم ويختتم معه افتراضا الموسم السياحي في محافظة ظفار لتتكرر الأسئلة حول جاهزية المناطق السياحية لدينا لوجستيًا لتكون مكانًا سياحيًا جاذبًا ومنافسا، وحول رؤيتنا مثلًا عن هذا القطاع كصناعة يمكن الاعتماد عليها لتكون رافدا حقيقيا بنسبة مجزية في جداول التحليل المالي للدخل القومي. وصناعة تتيح فرص التوظيف (وهو -اقتصاديا- أمر ملح جدًا) وتنتج عنها مشروعات اقتصادية أخرى في قطاعات مختلفة، فحركة النمو في قطاع ما إذا ما تمت بالطريقة الصحيحة بالضرورة أن تؤدي إلى تطور ونمو في مجالات أخرى متصلة. أطرح قطاع السياحة كمثال، أولا: لأنها عالميا متفق أنها أحد القطاعات التي ستشهد انتعاشا وستظل رافدا مهما للاقتصاد.

ثانيا: إنه لدينا بلا جدال في سلطنة عمان عوامل جذب طبيعية وإمكانات في التراث والثقافة والاستقرار السياسي مما حدا بها أن تكون واحدا من القطاعات التي وضعت في التخطيط لـ«رؤية عمان 2040» ولأنها ترتبط ارتباطا مباشرا بالتحديثات في البنى الأساسية وتسهيلات الاستثمار، وقطاعات حيوية لدينا مثل قطاع اللوجستيات كالموانئ والمطارات ومستقبلا سكك القطار كما نأمل وغيرها من القطاعات، ولأنها فعليا من السهل التماس معها من قبلنا كمواطنين لأننا جزء من المنتفعين مباشرة بوتيرة النمو فيها ومن المحركين الأساسيين كمستهلكين ومنتجين ومن السهل علينا فهم وملاحظة مشروعاتها مقارنة بقطاعات أكثر تعقيدا كقطاعي التصنيع والتعدين مثلًا وغيرهما، ومع ذلك يبدو أن الأسئلة تتكرر ولا يبدو أن هنالك فهمًا واضحًا لدينا أين يتجه هذا القطاع. رغم الأرقام التي تطرحها الصحف عن أعداد الزوار والسياح وعن تخصيص زخم إعلامي يحتفي بخريف ظفار، لا يفهم مثلا كيف يمكن أن يقتصر الموسم السياحي في ظفار على الخريف وهي تتوفر بإمكانات طبيعية وثقافية تتعدى هذه الفترة، وكيف يعقل أنه في فترة الأعياد والإجازات ترتفع الأسعار في أماكن الجذب السياحي عموما بسبب قلة المنافسة وعدم وجود تسعيرة تفضيلية للمواطنين، وما هي فعلا رؤية الحكومة لقطاع السياحة كصناعة. وعندما نتحدث عن إمكانيات سلطنة عمان كوجهة جاذبة للسياحة البيئية والثقافية والطبيعية ما هي خططنا لذلك (عدا الترويج السياحي الذي يأتي في آخر محاور التخطيط)، ما هي خططنا للسياحة الرياضية وسياحة المؤتمرات وكيف سنختلف عن دول الجوار التي بدأت تقطع شوطا في ذلك وكيف سنتنافس معها لأنها المنافس الطبيعي لنا. السياحة الرياضية تقتضي أن نفكر في فعاليات مثلًا سباق زوارق، وسباقات الدراجات، وحدث للتسلق أو الغوص أو أيا مما يمكن أن يدير الرؤوس إلينا، هذا طالما لم نتمكن من جذب إحدى الفعاليات الرياضية العالمية الكبرى لتقام لدينا، والكلام ذاته يقال في سياحة المؤتمرات، وما هي العلاقة بين تطور هذا القطاع وما يجري عالميا والتحديثات المحلية في مجال القوانين والتشريعات مثلًا ومجال الإعمار والاتفاقات الاقتصادية التي تقيمها الحكومة، إلى أين نريد أن نصل بهذا القطاع وما الذي تحقق فعليا على أرض الواقع، ولِمَ، وكيف، وأين سنكون لاحقا؟

ثم ما الخطوات التي تمت لإشراك المواطنين، ففي بلد محافظ وصغير نسبيا بعدد سكان (مواطنين) أيضا قليل نسبيا فإن أي خطوة تتخذ لها تأثير مباشر جدا خصوصا في مجال السياحة التي يود الناس الاستفادة منها ولكنهم دوما مشغولون بأن تتفق الخطط مع منظومة القيم والأخلاق لديهم وأن تبقى البلاد محمية قدر الإمكان بيئيًا وثقافيًا.

هل من تصورات أن يتم تقديم الدعوات لبعض النقاشات المفتوحة مع قطاعات مختلفة من المواطنين في مجالات الاستثمار أو الإبداع أو البيئة أو الاقتصاد سواء كانوا أفرادًا أو جمعيات أهلية لعصف ذهني والخروج بأفكار إبداعية أو حتى لمجرد النقاش بحيث تبقي خطوط التواصل مفتوحة.

ربما نحتاج لمراجعة أساليب التناول الإعلامي فهي ذات الأسئلة والطروحات التي تتكرر مع كل موسم أو حدث سياحي مما ينبئ بأنه لم يتم إلى الآن ما هو مُرضٍ كفاية وأنه ما من تغيير قد حدث فعلا فيما طرح أعلاه ولا رؤية واضحة وممنهجة أو أن هذه الخطط غير واضحة تمامًا لدى الجمهور الأعم وهو معني بها وشريك فيها.

نسمع كثيرا عن خفض الدين العام وأرقام تدل على فائض الميزانية العامة والنمو في بعض القطاعات لكننا لا نسمع كفاية وبلغة واضحة ومفهومة للجمهور العام عن غيرها من إصلاحات وخطط التطوير الاقتصادي، يمكنني أن أتابع إحدى القنوات الفضائية التي ستحلل الأحداث العالمية لكنها لن تشرحها من منظور محلي: كيف سيؤثر ذلك بي هنا وإن كانت له علاقة بالخطط الموضوعة والمستقبل المنشود هنا، فما الذي يعنيه مثلًا التوجه لتصنيع السيارات الكهربائية لنا، والأهم من ذلك أن نفهم لحد ما المتغيرات الاقتصادية والخطط والمشروعات ليس كأخبار تركز على أرقام لافتة غالبا هي بحاجة للشرح، ولا كناقشات في دوائر النخب من مثل النادي الثقافي واجتماعات الجمعيات الاقتصادية وغيرها (ليس لعدم أهميتها ولكن دعونا نعترف بأنها تبقى دوائر نخب نقاشها محصور ومحدود بجمهورها المنتقى).

بل أن تطرح وأن يقال الكلام مرارًا وتكرارًا بشكل ممنهج في كافة وسائل النشر، تتعدى نشر الأخبار أو حتى المقابلات والتقارير الإخبارية التي تحشى بعدد هائل من الرسائل دفعة واحدة، لغة مفهومة من قبل المواطن غير المتخصص (ولغة مفهومة لا أقصد استخدام الدارجة كما يحدث أحيانا في شرح التطبيقات أو الترويج لبعض المشروعات) لغة مفهومة مفصلة برسائل واضحة مكررة، خطاب يناسب التحولات الجديدة وشعور المواطن بأنه شريك حقيقي ويجيب عن أسئلته. الأمر حقيقة لا يقتصر على مجال السياحة فهو مطروح هنا كمثال لا غير بل كافة الخدمات والقطاعات، لكن أظن أن موضوعات الاقتصاد هي الأكثر أهمية على الساحة الآن وهي الشغل الشاغل.