هل الوعيُ ضامنٌ لسعادة الإنسان؟ هل الفنّ عموما والأدب منه خاصّة هو هبةُ السعادة للفنّان؟ إن كان الأمر كذلك لمَ ارتبط تاريخ الفنّ الكونيّ بالشقاء، ولمَ يشقى ذو العقل في النعيم بعقله، وينعم أخو الجهالة في الشقاوة على رأي المتنبي؟ ولمَ كانت حرفة الأدب سبيلَ قلّة الحال وضيق ذات اليد على رأي التوحيدي؟ ولمَ اقترن الأدب بالألم فقال المسعدي «الأدب مأساة أو لا يكون»؟ ألا يحقّ للأدب أن يكون ملهاة؟ السعادة مفهومٌ غائمٌ عائم خاض فيه الفلاسفة والمفكّرون والأدباء وأدلوا بدلاء متعدّدة، ولكنّ الإنسان الخالي من الأدب، الإنسان منزوع سمة كتابة الأدب يحظى بالسعادة، ويعيشها دون أن يدري بالضرورة فقهها ولا أصولها ولا مآتيها ولا مظاهرها.

دوما كنت أتساءل عن الفارق بين الذهن المحشور المحشو والذهن البسيط الخالي من هموم الفكر، حيث يعيش الإنسان في حالة أقرب إلى البدائيّة، يعمل، يأكل، يُعْمل لذّاته الحسيّة، ينعم بها وينام هانئًا رضيًّا، لا يُزعج نومه إلاّ التفكير في حاجات يومه، حياةٌ لا يرضاها المتفقّهون في الفكر، ويرون أنّها أقرب إلى عيشة الحيوان، هي الحياةُ التي نعتها الفلاسفة بالإشباع أو هي اللذّات الحسيّة المؤقّتة، وهل يبحث الإنسان عن غير لذّة حسيّة مؤقّتة؟ ذلك أنّ السعادة المُطلقة مفهوم غائم يُطلَب في رِحاب عددٍ، وهي أيضا مقصَد لا يبلغه عامّة النّاس، ألم يتوجّه الفكر في كافّة مراحل تكوّنه عبر التاريخ إلى أنّ السمة الأولى، أو الحالة الأولى للإنسان هي مطلبٌ ومقصَد لتحقّق السعادة الأزليّة في عودة النُسخ إلى أصولها في الفكر الأفلاطوني أو في استرجاع الطبيعة الأولى للإنسان في الفكر الرومانسي أو في الحالات البوهيميّة التي خاضها عدد من الأدباء والمفكّرين والفنّانين، وعلى رأسهم بول غوغان الذي جسّد في رسوماته ومذكّراته اللذّة الأولى، منبع السعادة الدائمة، سعيًا إلى بلوغ الحيوانيّة ومفارقة المدنيّة؟ حيرة الإنسان ماثلة في إيجاد سبيل السعادة، ومنابعها، أن تهنأ نفسه وأن يعيش في حالة تناغم مع ذاته ومع الكون من حوله، وهي حالٌ صعبة المنال، قد يصلها الصوفيّ ولكن بعد مفارقته حال الحسّ وبلوغ درجة من التجرّد التي يعيشها الرسّام في الاندماج مع لوحةٍ يرسمها، ويعيشها الأديب في الغياب بكتابة نصّ عن الكون في حال من عشق كون الكتابة، ويعيشها الموسيقيّ في الغياب بالألحان عن الأشجان، كلّها حالات صوفيّة تضمن سعادة الروح وإشباعها. لقد رسم تاريخ الفكر سبيلين للسعادة، سعادة مؤقتّة ظرفيّة موصولة باللذّات الحسيّة أساسا، وسعادة أبديّة خالدة لا تزول موصولة بلذّة الروح، أو لذّة الفكر في معنى من المعاني، وهو السبيل الذي خطّه أرسطو عمليّا، الذي يذهب إلى القول: «وحدها الأفعال التي نأتيها ونحن في لذّة دائمة هي التي نُحصّل فيها مقام السعادة».

مقام السعادة لا يكون في عالم مفارق، غيبيّ، وإنّما مقام السعادة حاصل في أفعال البشر القائمة على الخير واعتماد الفضيلة، هذا جانبٌ طوباوي للحديث عن سعادة كامنة في «الخير الأسمى للفلسفة نفسها»، فما هي الفضيلة؟ وما هو الخير الأسمى؟ ونحن في عالم لا نعلم فيه الحدود الفاصلة بين الخير والشرّ، ما يسميه أرسطو بـ«الازدهار البشري» أو «اليودايمونيا» التي تمثّل السعادة، والتي هي -في منظوره- حالة طبيعية في الإنسان يسعى إلى بلوغها أو استعادتها، لا يُمكن أن تُشكّل أرضيّةَ اتّفاق، فالازدهار البشري يسير في طريق الدمار والألم، لنستعيد تصوّر هوبز القائم على الطبيعة الشرّيرة للإنسان. تصوّراتٌ عديدة سلكها الفكر البشريّ لرسم ملامح السعادة المنشودة للإنسان في كوْنه الفرديّ أو الجمعيّ.

كان للفكر الإسلاميّ نصيبٌ مهمّ فيها، خاصّة مع الفارابي في كتابيه «تحصيل السعادة» و «التنبيه على سبيل السعادة»، ضمن تصوّره للمدينة الفاضلة التي تحتاج إلى «الفضائل النظريّة والأخلاقيّة»، والذي يعتبر أنّ «السعادة هي آثر الخيرات وأعظمها وأكملها»، ولتتحقّق وجب «أن تصير نفس الإنسان من الكمال في الوجود إلى حيث لا تحتاج في قوامها إلى مادّة وذلك أن تصير في جملة الأشياء البريئة عن الأجسام في جملة الجواهر المفارقة للموادّ وأن تبقى على ذلك الحال دائما أبدا»، في رسْمٍ لسعادة أبديّة متّصلة بعالم الجوهر لا عالم العَرض، وهو في ذلك يُقيم فصلا بين السعادة الدنيا، سعادة الملذّات الزائلة، والسعادة القصوى التي تكون الفلسفة مصدرها، وعالمُ الغيب مسرحها. لقد ارتبط مفهوم السعادة في الفكر الإسلاميّ بالاتّصال بعالم الجوهر، بالعبادة والإخلاص في تنقية الروح وإعادتها إلى خالقها نقيّة، صالحة، يقول ابن سينا في ذلك: «والعارفون المتنزهون إذا وضع عنهم درن مقارنة البدن، وانفكّوا عن الشواغل، خلصوا إلى عالم القدس والسعادة، وانتقشوا بالكمال الأعلى وحصلت لهم اللذّة العليا».

لقد ارتبط تحقّق السعادة فكريّا بالاعتقاد أو بالخلاق، أي بالدنيويّ في تحقيق عالم الفضائل أو بالآخرة في الاتّصال بكونِ الجوهر والعمل على العودة إلى عالم الحقائق الأبدي، ولكن هل أنّ هذه المقولات التي اعتمدها الفكر البشري عبر التاريخ قابلة للتحقّق أو هي مجرّد حالات من الغياب والهروب من الواقع، في الحلم بعالم المثل أو عالم الفضيلة أو عالم الحقيقة؟ أليست السعادة فرديّة، هي ما يعمل الكائن الفرد على إيجاده في عمله وفي علمه، في مقامه وارتحاله، ألم تكن رحلة البحث عن السعادة فكريّا هي رحلة الشقاء الفكريّ وعذاب الروح؟ ألم يُعبّر الكُتّاب عن ألمهم وبؤسهم ساعة الكتابة ليوفّروا نصّا يهنأ به القارئ ويسعَدُ؟ هل الكتابة قرينة البؤس والقراءة قرينة السعادة؟ كم من نصّ كُتب بدمٍ وألم وسهرٍ ونُفرة نومٍ وتُقبّل بهجْعةٍ ومتعة وهناء؟ السعادةُ حالةٌ يحلُم بها الأديب والمفكّر، ويقضي حياته باحثا عنها ولا يجدها، وفي الآن ذاته هو يبثّها للقارئ لينعم بها.

مفارقةٌ عجيبةٌ إذا اعتمدنا مقولة «فاقد الشيء لا يعطيه»، وقد قدّم لنا عُتاة الأدب عُصارة آلامهم وشقائهم شعرا ونثرا لننعم بها، هل كُتِبت نصوص الأدب بسعادة، أو أنّ ألم الفنّان عموما هو علّة سعادته؟ المقاربة الحديثة للسعادة فلسفيّا تتجلّى في «كتاب الأخلاق» لسبينوزا الذي يذهب إلى أنّ السعادة هي الغبطة التي «ندركها حين نتحرّر من عبوديّة الأهواء ومن الخرافات والأحكام المسبقة»، فكيف يُمكن أن تكون سعادةٌ بمنأى عن الأهواء؟ ألا تُشكّل الخُرافات، الحكايات، ركنا من اعتقادنا ومُحقّقا رئيسا لـ«الفرحة بالوجود»؟ وممّا شجّعني على طرح مسألة السعادة أنّ الفكر ما زال لحدّ اليوم يخوض في أسبابها وأركانها ومظاهرها، وقد صدر عن الفيلسوف الفرنسي المعاصر آلان باديو كتاب يعيد فيه للفلسفة دورها في التمييز بين السعادة الحقّة ووهم السعادة، عنوانه «ميتافيزيقا السعادة الحقيقيّة»، كأنّ الفلسفة ما زالت تدّعي أنّ الحقيقة كامنة في أحشائها، والحقّ في اعتقادي أنّ الفلسفة لا يُمكن أن تكون علّة السعادة، غير أنّها قادرة على بيان السبل المؤديّة إلى السعادة في فردانيّة السلوك لا في جمعه. في فيلم عميق لخيري بشارة عنوانه «حرب الفراولة» يطرح بعمق معنى السعادة، التي يراها الفقير عند الغني مالا وجاها، ويراها الثريّ عند الفقير راحةَ بال وبساطة، وتدخل الشخصيّتان المركزيّتان في تجريب اختبار مكمن السعادة، الفقير اللاهي المستمتع، الذي يرى أنّ المال هو نقيصته الوحيدة لتحقيق السعادة يحمل الغني إلى عالمه، والغنيّ الحزين الباحث عن السعادة في بساطة الفقراء وراحة أفئدتهم يحمل الفقير إلى تجريب عالمه، فلا هذا واجدٌ سعادته ولا ذاك.

ألا تكون السعادة التي يحلم بها الجميع وهما دنيويّا و«تصبيرةً» في عالم قُدّ للشقاء؟ الفيلسوف شقيّ بفكره، الأديب شقيّ بوعيه حامل لألم الكتابة وأجاعها، الإنسان العاديّ حالم بالسعادة في مال يجمعه أو زواج يهنأ به أو أبناء يُخفّفون من وقْع الحياة، ويمضي الفيلسوف والأديب والفنّان والإنسان العاديّ وسؤال السعادة قائمٌ دائم! يقول صاحب الدين السعادة في برْد الإيمان، ويقول صاحب الفكر السعادة في عدم الاطمئنان ويقول صاحب المال السعادة في خبز الفقراء ويقول الغفراء السعادة في مال الأثرياء، وأقول السعادة في البحث عن السعادة».