لا يجادل اثنان في أن أحوال بلدان أوروبا - مجتمعات ودولا - في كنف «الاتحاد الأوروبي» أفضل، بما لا يقاس، من أحوالها متفرقـة قبل قيامه في أواخر القرن العشرين الماضي. لقد وفـر لها إمكانا تاريخيا غير مسبوق للانتقال من دول متنافسة بينها، مقيمة داخل حدودها، إلى دول متعاونة بل ذاهبة بتعاونها البيني إلى حدود الاندماج والشراكة، رافعة عوازل الحدود السياديـة الاقتصادية بينها، ومؤسسة فضاء إقليميا جيو- اقتصاديا مشتركا وموسعا سرعان ما تعاظم نطاقه لينتقل من فضاء شامل بلدان أوروبا الغربية إلى فضاء شامل مجموع بلدان القارة - غربا وشرقا - بعد انتهاء الحرب الباردة وزوال الاستقطاب الدولي. وهو يمثـل، اليوم، أضخم اتحاد إقليمي أو قاري في العالم من حيث عدد الدول الشريكة فيه لا من حيث التعداد السكـاني الذي يعاني تناقص نسبة النمـو الديمغرافي، خاصة في المركز الغربي للقارة.
إلى ذلك أمكن أوروبا، من خلال إطارها الاتحادي الإقليمي هذا، أن تتحول إلى قطب اقتصادي عالمي كبير هو الثالث، قـوة وترتيبا، حتى الآن، بعد القطبين الأمريكي والصيني. وهذه الصيرورة القطبوية التي صار إليها هي ما وفر لأوروبا وسائل حماية مصالحها من الذيول والتبعات السلبية التي ألقـتها العولمة على بلدان العالم كافة: في مراكزه وهوامشه معا، ورفع من معدل قدرتها على خوض المنافسة الصعبة مع مراكز العولمة الكبرى: الولايات المتحدة الأمريكية، الصين، اليابان. وما كان يسع «الاتحاد الأوروبي» أن يحرز، بسهولة، هذا النصيب الهائل من النجاح في التأقلم مع لحظة انقلابية عسيرة مر بها العالم (هي لحظة العولمة)، لولا أن القسم الغربي من بلدانه أجرى تمرينا ناجحا - طويل الأمـد - على علاقات التعاون والاندماج الاقتصادي في إطار «الجماعة الأوروبية» لما يقارب الثلاثة عقود (قبل قيام الاتحاد)، الأمر الذي تسهـل فيه على دول أوروبا ما كان يمكن أن يكون لدى غيرها معسورا... لئلا نقول مستحيلا. وليس أدل على ذلك النجاح المغنوم من صمود «الاتحاد الأوروبي» أمام امتحانات داخلية كثيرة، ومن إنجازه هدف الوحدة النقدية والاستقلال بعملة واحدة جامعة.
هذه من الحقائق الجديدة التي لم تعد موضع شك أو جدل أو مناكفة. بل سرعان ما بات النموذج الاتحادي الإقليمي الأوروبي نموذجا ملهما لدول عـدة في الأرض، خصوصا تلك التي تجمع بينها أواصر القرابة التاريخية والجوار الجغرافي، ناهيك بأنه ظل مهيب الجناح يحسب له الحساب بين القوى الكبرى. مع ذلك، وكائنا ما كان مبـلغ المدى الذي سيبلغه تألـق «الاتحاد الأوروبي» ورسوخه في نظام الاقتصاد العالمي وعلاقات قواه، فإن الذي لا مرية فيه أنه لن يكون قادرا، يوما، على بلوغ ما بلغـته مراكز أخرى من تماسك: مثل الولايات المتحدة، والصين، والهند، والبرازيل، وروسيا. إن نقطة ضعفه تـقع خارج نظامه الاقتصادي: في كيانيـته السياسية، وجغرافيـته القومية والثـقافية واللسانية؛ وهذه من مواد بناء أي اندماج وتوحيد.
مشكلة «الاتحاد الأوروبي» أنه اتحاد دول- أمـم مختلفة، بينها من التباينات الكثير الكثير، ناهيك بأنها ما برحت تتمتع بسياداتها القومية حتى الآن؛ وهذا مما يختلف فيه مع مراكز اقتصادية دولية نظير ذات كيانية واحدة مبنية على الاندماج القومي. حتى الولايات المتحدة الأمريكية - الأقـل مركزية من الصين والهند وروسيا والبرازيل...- لا تشبه حالة الاتحاد لأن نظامها الاتحادي الفيدرالي قائم داخل أمة واحدة مترامية الأطراف. صحيح أن تلك الدول- الأمـم الأوروبية ارتضت أن تتنازل عن مساحة كبيرة من سياداتها الاقتصادية من أجل أن تقيم نظاما اقتصاديا موحدا ومندمجا، وأن ذلك النظام نجح في التكـون والرسوخ وانتظام الأداء على النحو الذي أعاد أوروبا إلى مسرح المنافسة الدولية، غير أن نشوء اتحاد اقتصادي ضخم لم يغير في شيء من حقيقة استمرار دول أوروبا مستقلة عن بعضها وذات سيادة تخول كل واحدة منها أن تتمتع بقرارها السياسي المستقـل. وهذه حقيقة ما غير منها، كثيرا، أنها توافقت على إنشاء مؤسسات سياسية مشتركة تنهض بدور إدارة السياسات الخارجية للاتحاد التي اجتمعت عليها دوله (= «المفوضية الأوروبية» في بروكسيل).
لم نشدد على مسألة السيادات القومية الأوروبية - بوصفها عائقا يحول دون صيرورة «الاتحاد الأوروبي» قطبا مندمجا متماسكا من الداخل مثل الأقطاب الآخرين - إلا أن دول الاتحاد أخفقت، إخفاقا ذريعا، في الانتقال باتحادها من المستوى الاقتصادي إلى المستوى السياسي. حصل ذلك، رسميـا، منذ أعوام غداة التصويت ضد الدستور الأوروبي في الاستفتاءات عليه في بعض دول الاتحاد. أتى رفض الدستور يفصح عن ميـل إلى تمسك الأوروبيين بكياناتهم السياسية المستقلة ومغالبة أي اندماج يفصلهم عن روابطهم القومية. بدا كأنهم يرتضون إطارا اقتصاديا أعلى من الإطار القومي السيادي، كي يواجهوا آثـار العولمة عليهم، ولكنهم لم يساوموا على سياداتهم القومية التي ظلوا متشبثين بها. وإذا كانت هذه حال شعوبهم، فإن حال أنظمتهم السياسية لم تختلف كثيرا في بعض الأحيان؛ ومن ذلك مثلا حين اجتاح وباء كورونا العالم، ووقفت دول الاتحاد منه موقف دول مستقلة لا رابط بينها؛ بحيث أقـفلت حدودها - التي كانت مفتوحة - أمام بعضها وانكفأ كـل منها إلى داخله القومي. هكذا ترك الاتحاد بعض دوله (إيطاليا وإسپانيا مثلا) عرضة لموت جماعي بڤيروس كان ينهش، يوميـا، آلاف الأجساد والأرواح!
يرد الحرص الشديد على الاستقلالية السياسية والسيادية إلى مركزية الدولة- الأمة ومركزية الفكرة القومية في أوروبا وفي الوجدان الجمعي لأممها؛ إذ ليست الشخصية السياسية المستقلة شيئا آخر غير الشخصية القومية وجملة ما تتسم به - وتمتاز به عن غيرها - من مقـومات تاريخية وثقافية ولغوية وأنثروپولوجية خاصة. هكذا انتهت تجربة الاتحاد بدول أوروبا إلى حالة ربما كانت فريدة في بابها: وحدة اقتصادية في مقابل - وفي كنف - انقسام سياسي وثقافي وقومي ولغوي...إلخ! وما من شك في أنها مفارقة ستضعف حظوظ دول أوروبا في منافسة القـوى العظمى في العالم: قديمها والجديد.
إلى ذلك أمكن أوروبا، من خلال إطارها الاتحادي الإقليمي هذا، أن تتحول إلى قطب اقتصادي عالمي كبير هو الثالث، قـوة وترتيبا، حتى الآن، بعد القطبين الأمريكي والصيني. وهذه الصيرورة القطبوية التي صار إليها هي ما وفر لأوروبا وسائل حماية مصالحها من الذيول والتبعات السلبية التي ألقـتها العولمة على بلدان العالم كافة: في مراكزه وهوامشه معا، ورفع من معدل قدرتها على خوض المنافسة الصعبة مع مراكز العولمة الكبرى: الولايات المتحدة الأمريكية، الصين، اليابان. وما كان يسع «الاتحاد الأوروبي» أن يحرز، بسهولة، هذا النصيب الهائل من النجاح في التأقلم مع لحظة انقلابية عسيرة مر بها العالم (هي لحظة العولمة)، لولا أن القسم الغربي من بلدانه أجرى تمرينا ناجحا - طويل الأمـد - على علاقات التعاون والاندماج الاقتصادي في إطار «الجماعة الأوروبية» لما يقارب الثلاثة عقود (قبل قيام الاتحاد)، الأمر الذي تسهـل فيه على دول أوروبا ما كان يمكن أن يكون لدى غيرها معسورا... لئلا نقول مستحيلا. وليس أدل على ذلك النجاح المغنوم من صمود «الاتحاد الأوروبي» أمام امتحانات داخلية كثيرة، ومن إنجازه هدف الوحدة النقدية والاستقلال بعملة واحدة جامعة.
هذه من الحقائق الجديدة التي لم تعد موضع شك أو جدل أو مناكفة. بل سرعان ما بات النموذج الاتحادي الإقليمي الأوروبي نموذجا ملهما لدول عـدة في الأرض، خصوصا تلك التي تجمع بينها أواصر القرابة التاريخية والجوار الجغرافي، ناهيك بأنه ظل مهيب الجناح يحسب له الحساب بين القوى الكبرى. مع ذلك، وكائنا ما كان مبـلغ المدى الذي سيبلغه تألـق «الاتحاد الأوروبي» ورسوخه في نظام الاقتصاد العالمي وعلاقات قواه، فإن الذي لا مرية فيه أنه لن يكون قادرا، يوما، على بلوغ ما بلغـته مراكز أخرى من تماسك: مثل الولايات المتحدة، والصين، والهند، والبرازيل، وروسيا. إن نقطة ضعفه تـقع خارج نظامه الاقتصادي: في كيانيـته السياسية، وجغرافيـته القومية والثـقافية واللسانية؛ وهذه من مواد بناء أي اندماج وتوحيد.
مشكلة «الاتحاد الأوروبي» أنه اتحاد دول- أمـم مختلفة، بينها من التباينات الكثير الكثير، ناهيك بأنها ما برحت تتمتع بسياداتها القومية حتى الآن؛ وهذا مما يختلف فيه مع مراكز اقتصادية دولية نظير ذات كيانية واحدة مبنية على الاندماج القومي. حتى الولايات المتحدة الأمريكية - الأقـل مركزية من الصين والهند وروسيا والبرازيل...- لا تشبه حالة الاتحاد لأن نظامها الاتحادي الفيدرالي قائم داخل أمة واحدة مترامية الأطراف. صحيح أن تلك الدول- الأمـم الأوروبية ارتضت أن تتنازل عن مساحة كبيرة من سياداتها الاقتصادية من أجل أن تقيم نظاما اقتصاديا موحدا ومندمجا، وأن ذلك النظام نجح في التكـون والرسوخ وانتظام الأداء على النحو الذي أعاد أوروبا إلى مسرح المنافسة الدولية، غير أن نشوء اتحاد اقتصادي ضخم لم يغير في شيء من حقيقة استمرار دول أوروبا مستقلة عن بعضها وذات سيادة تخول كل واحدة منها أن تتمتع بقرارها السياسي المستقـل. وهذه حقيقة ما غير منها، كثيرا، أنها توافقت على إنشاء مؤسسات سياسية مشتركة تنهض بدور إدارة السياسات الخارجية للاتحاد التي اجتمعت عليها دوله (= «المفوضية الأوروبية» في بروكسيل).
لم نشدد على مسألة السيادات القومية الأوروبية - بوصفها عائقا يحول دون صيرورة «الاتحاد الأوروبي» قطبا مندمجا متماسكا من الداخل مثل الأقطاب الآخرين - إلا أن دول الاتحاد أخفقت، إخفاقا ذريعا، في الانتقال باتحادها من المستوى الاقتصادي إلى المستوى السياسي. حصل ذلك، رسميـا، منذ أعوام غداة التصويت ضد الدستور الأوروبي في الاستفتاءات عليه في بعض دول الاتحاد. أتى رفض الدستور يفصح عن ميـل إلى تمسك الأوروبيين بكياناتهم السياسية المستقلة ومغالبة أي اندماج يفصلهم عن روابطهم القومية. بدا كأنهم يرتضون إطارا اقتصاديا أعلى من الإطار القومي السيادي، كي يواجهوا آثـار العولمة عليهم، ولكنهم لم يساوموا على سياداتهم القومية التي ظلوا متشبثين بها. وإذا كانت هذه حال شعوبهم، فإن حال أنظمتهم السياسية لم تختلف كثيرا في بعض الأحيان؛ ومن ذلك مثلا حين اجتاح وباء كورونا العالم، ووقفت دول الاتحاد منه موقف دول مستقلة لا رابط بينها؛ بحيث أقـفلت حدودها - التي كانت مفتوحة - أمام بعضها وانكفأ كـل منها إلى داخله القومي. هكذا ترك الاتحاد بعض دوله (إيطاليا وإسپانيا مثلا) عرضة لموت جماعي بڤيروس كان ينهش، يوميـا، آلاف الأجساد والأرواح!
يرد الحرص الشديد على الاستقلالية السياسية والسيادية إلى مركزية الدولة- الأمة ومركزية الفكرة القومية في أوروبا وفي الوجدان الجمعي لأممها؛ إذ ليست الشخصية السياسية المستقلة شيئا آخر غير الشخصية القومية وجملة ما تتسم به - وتمتاز به عن غيرها - من مقـومات تاريخية وثقافية ولغوية وأنثروپولوجية خاصة. هكذا انتهت تجربة الاتحاد بدول أوروبا إلى حالة ربما كانت فريدة في بابها: وحدة اقتصادية في مقابل - وفي كنف - انقسام سياسي وثقافي وقومي ولغوي...إلخ! وما من شك في أنها مفارقة ستضعف حظوظ دول أوروبا في منافسة القـوى العظمى في العالم: قديمها والجديد.