بيروت مطلع السبعينات، قصيدةُ النثر غير المكتملة في أدراج مجلة «شِعر»، والغرفة السرية لتحالفات المثقفين العرب ومشاريعهم اللاجئة من عواصم عربية أخرى. غابةُ السلاح التي تستقبل الثورة الفلسطينية بالأرز والزهور بعد «أيلول الأسود» في عمَّان، ثم تنتظر وهي تحبس أنفاسها شرارةً من عود كبريت تنتظر وتعد أنفاسها في مليون نسمة.
مع بداية عام 1975 ستنقسم بيروتُ الصغيرة إلى بيروت شرقية وأخرى غربية، كشظية تتطاير في الهواء المختنق بالانقسام الطائفي والفوضى السياسية، مُتشظيةً بين يمين لبناني ويسار لبناني فلسطيني. وما زالت الأحزاب تُريق حبر الشتائمَ والاتهامات المتبادلة في صُحف صباحات المدينة القلقة، قبل أن يحتدم حوار السلاح إثر حادثة عين الرمانة، ليبدأ تناوب رعدَ الرصاص والاغتيالات في يوميات حرب أهلية ستكون تمهيداً للرحيل الفلسطيني الكبير عقب الاجتياح الإسرائيلي.
لم تكن عاصمة الحداثة العربية قد أكملت مشروعها الحداثي بعد في منتصف السبعينات من القرن الماضي، عندما انشطرت على ذاتها وسكانها في حرب أهلية كانت إحدى مفارقاتها الصغيرة تحدث في ساعة غناء مستقطعة من الحرب، ساعة يختار فيها المقتتلون -معا أو على حدةٍ- التخليَ عن عبء السلاح وحراسة السواتر الرملية، مستريحين إلى «صوت فيروز الموزعُ بالتساوي بين طائفتين» وهو يغني لدرَج الورد على مدخل البيت، وسط فرقعة الاشتباكات بين الأزقة. لكأن أجراس الصوت الفيروزي التي ترن بين النافذة والشارع هي الأرض الأخيرة الموحدة والمحايدة التي تُؤالف على بساطها بين عائلة الأعداء، كما يُسجل محمود درويش في قصيدته الملحمية «بيروت»، القصيدة التي جاءت محاولةً شعرية لترميم اسم هذه المدينة من آثار الرصاص والقذائف التي شوَّهت واجهتها البحرية، قصيدةً للتصالح مع المكان، لوداعه الأبدي ربما، لم يكتبها شاعرها لنسيان الحرب بل لتعقيمها كالجرح الراعف في متحف الذاكرة.
مطلع عام 1981 تعلن إسرائيل عن رغبتها في تحريك الخرائط قليلاً، ضمن مشروع صهيوني أمريكي كبير يحلم برسم «شرق أوسط جديد» وفي إطار سياسة أمنية تقوم على مبدأ التوسع الوقائي الذي يعكس قلق إسرائيل الأبديَّ من الجغرافيا، وهي فلسفة هجومية/ دفاعية كانت ملامحها قد بدأت مع سياسات بن غوريون المؤسس، الذي صرَّح أوائل الخمسينات قائلاً: إن أفضل من يقرر نهاية حدود «دولة إسرائيل» هو الجيش الإسرائيلي وحده.
بدأت سياسة التوسع الوقائي صوب لبنان بإنشاء دولة الاحتلال لما عُرف بـ«الحزام الأمني» مع الحدود اللبنانية في الجنوب؛ وذلك بذريعة حماية المستوطنات من جمرات سلاح الكاتيوشا الفلسطيني. إلا أن مشروع التدخل الإسرائيلي في لبنان أخذ زخما أكبر بعد دخول القوات السورية إلى الميدان بطلب رسمي من الرئيس اللبناني سليمان فرنجية، فأعلن الجيش الإسرائيلي أن قواته البرية ستزحف فوق جغرافيا البركان مسقوفةً بسلاح الجو، وكان الهدف المعلن هذه المرة هو إبعاد الجنوب اللبناني عن خط التماس أربعين كيلومتراً إلى الداخل، أي إبعاد فلسطين عن فلسطينها أربعين كيلومتراً إلى الشمال. وانتظر شارون طويلاً غمزة من الرئيس الأمريكي رونالد ريجان آنذاك، لكن الأخير طلب من وزير الدفاع الإسرائيلي أن يتريث قليلا، ريثما يشهد العالم على استفزاز صريح يبادر به فصيل من فصائل منظمة التحرير الفلسطينية، بحيث يمكن استغلاله إعلاميا لتبرير حملة عسكرية على الوجود الفلسطيني في لبنان، التي ستحمل عنوان «سلامة الجليل».
في الثالث من يونيو عام 1982 أطلقت الرصاصات التي ستشُل شلومو أرغوف، السفير الإسرائيلي في لندن، كهديةً منتظرة لجنرالات الحرب الموعودين بعملية خاطفة تستهدف «البنية التحتية» لمنظمة التحرير الفلسطينية. وما هي إلا ثلاثة أيام فقط حتى أعلنت القوات الإسرائيلية غزوها الشامل للبنان صباح الـ6 من يونيو، في تاريخ يعيد إلى الأذهان ذكريات نكسة 1967. وبعد أسبوع واحد فقط من صدمة الاجتياح وتقهقر الدفاعات الفلسطينية في الجنوب، وفي عز انشغال العالم العربي بتطورات حرب الخليج الأولى بين العراقيين والإيرانيين، سيجد اللبنانيون والفلسطينيون أنفسهم بخندق واحد، في عاصمة عربية محاصرة تحفر أعماقها الصلبة بحثا عن الماء، وتقتصد في الخبز والمؤونة لتحيا يوما آخر في ظل الحصار، تحت القصف الذي يطال كل شيء تقريبا، حيث كلُ ساكن ومتحرك قابل للانفجار في أي لحظة.
بعد شهرين من الحصار الضاري في «ملحمة ستالينجراد» كما أرادتها غرفة العمليات اللبنانية الفلسطينية المشتركة، بدا واضحا أن التاريخ يستدرج الفلسطينيين مرة أخرى من المنفى إلى المنفى. إلى أين هذه المرة؟ إلى وجهة غير معلومة، لكنها بالتأكيد ستكون أبعد ما يكون من سابقاتها عن فلسطين. أخيراً تنجح الوساطات الدولية في رفع الحصار عن بيروت بشرط واحد: أن تخرج البندقية الفلسطينية من لبنان بلا عودة. وهكذا مرةً أخرى، بعد أقل من عقد ونصف العقد على الخروج الدامي من عمَّان، يرحل الفدائي الفلسطيني عن عاصمة عربية أخرى ولكن عبر البحر هذه المرة، يستقبل مجهول الآفاق إلى أرض غير واضحة بعد... يصعد ياسر عرفات إلى السفينة «أتلانتيس» تحت عيون المناظير الإسرائيلية، ويسأله الصحفي: إلى أين؟ فيجيب: «إلى فلسطين»!
مع بداية عام 1975 ستنقسم بيروتُ الصغيرة إلى بيروت شرقية وأخرى غربية، كشظية تتطاير في الهواء المختنق بالانقسام الطائفي والفوضى السياسية، مُتشظيةً بين يمين لبناني ويسار لبناني فلسطيني. وما زالت الأحزاب تُريق حبر الشتائمَ والاتهامات المتبادلة في صُحف صباحات المدينة القلقة، قبل أن يحتدم حوار السلاح إثر حادثة عين الرمانة، ليبدأ تناوب رعدَ الرصاص والاغتيالات في يوميات حرب أهلية ستكون تمهيداً للرحيل الفلسطيني الكبير عقب الاجتياح الإسرائيلي.
لم تكن عاصمة الحداثة العربية قد أكملت مشروعها الحداثي بعد في منتصف السبعينات من القرن الماضي، عندما انشطرت على ذاتها وسكانها في حرب أهلية كانت إحدى مفارقاتها الصغيرة تحدث في ساعة غناء مستقطعة من الحرب، ساعة يختار فيها المقتتلون -معا أو على حدةٍ- التخليَ عن عبء السلاح وحراسة السواتر الرملية، مستريحين إلى «صوت فيروز الموزعُ بالتساوي بين طائفتين» وهو يغني لدرَج الورد على مدخل البيت، وسط فرقعة الاشتباكات بين الأزقة. لكأن أجراس الصوت الفيروزي التي ترن بين النافذة والشارع هي الأرض الأخيرة الموحدة والمحايدة التي تُؤالف على بساطها بين عائلة الأعداء، كما يُسجل محمود درويش في قصيدته الملحمية «بيروت»، القصيدة التي جاءت محاولةً شعرية لترميم اسم هذه المدينة من آثار الرصاص والقذائف التي شوَّهت واجهتها البحرية، قصيدةً للتصالح مع المكان، لوداعه الأبدي ربما، لم يكتبها شاعرها لنسيان الحرب بل لتعقيمها كالجرح الراعف في متحف الذاكرة.
مطلع عام 1981 تعلن إسرائيل عن رغبتها في تحريك الخرائط قليلاً، ضمن مشروع صهيوني أمريكي كبير يحلم برسم «شرق أوسط جديد» وفي إطار سياسة أمنية تقوم على مبدأ التوسع الوقائي الذي يعكس قلق إسرائيل الأبديَّ من الجغرافيا، وهي فلسفة هجومية/ دفاعية كانت ملامحها قد بدأت مع سياسات بن غوريون المؤسس، الذي صرَّح أوائل الخمسينات قائلاً: إن أفضل من يقرر نهاية حدود «دولة إسرائيل» هو الجيش الإسرائيلي وحده.
بدأت سياسة التوسع الوقائي صوب لبنان بإنشاء دولة الاحتلال لما عُرف بـ«الحزام الأمني» مع الحدود اللبنانية في الجنوب؛ وذلك بذريعة حماية المستوطنات من جمرات سلاح الكاتيوشا الفلسطيني. إلا أن مشروع التدخل الإسرائيلي في لبنان أخذ زخما أكبر بعد دخول القوات السورية إلى الميدان بطلب رسمي من الرئيس اللبناني سليمان فرنجية، فأعلن الجيش الإسرائيلي أن قواته البرية ستزحف فوق جغرافيا البركان مسقوفةً بسلاح الجو، وكان الهدف المعلن هذه المرة هو إبعاد الجنوب اللبناني عن خط التماس أربعين كيلومتراً إلى الداخل، أي إبعاد فلسطين عن فلسطينها أربعين كيلومتراً إلى الشمال. وانتظر شارون طويلاً غمزة من الرئيس الأمريكي رونالد ريجان آنذاك، لكن الأخير طلب من وزير الدفاع الإسرائيلي أن يتريث قليلا، ريثما يشهد العالم على استفزاز صريح يبادر به فصيل من فصائل منظمة التحرير الفلسطينية، بحيث يمكن استغلاله إعلاميا لتبرير حملة عسكرية على الوجود الفلسطيني في لبنان، التي ستحمل عنوان «سلامة الجليل».
في الثالث من يونيو عام 1982 أطلقت الرصاصات التي ستشُل شلومو أرغوف، السفير الإسرائيلي في لندن، كهديةً منتظرة لجنرالات الحرب الموعودين بعملية خاطفة تستهدف «البنية التحتية» لمنظمة التحرير الفلسطينية. وما هي إلا ثلاثة أيام فقط حتى أعلنت القوات الإسرائيلية غزوها الشامل للبنان صباح الـ6 من يونيو، في تاريخ يعيد إلى الأذهان ذكريات نكسة 1967. وبعد أسبوع واحد فقط من صدمة الاجتياح وتقهقر الدفاعات الفلسطينية في الجنوب، وفي عز انشغال العالم العربي بتطورات حرب الخليج الأولى بين العراقيين والإيرانيين، سيجد اللبنانيون والفلسطينيون أنفسهم بخندق واحد، في عاصمة عربية محاصرة تحفر أعماقها الصلبة بحثا عن الماء، وتقتصد في الخبز والمؤونة لتحيا يوما آخر في ظل الحصار، تحت القصف الذي يطال كل شيء تقريبا، حيث كلُ ساكن ومتحرك قابل للانفجار في أي لحظة.
بعد شهرين من الحصار الضاري في «ملحمة ستالينجراد» كما أرادتها غرفة العمليات اللبنانية الفلسطينية المشتركة، بدا واضحا أن التاريخ يستدرج الفلسطينيين مرة أخرى من المنفى إلى المنفى. إلى أين هذه المرة؟ إلى وجهة غير معلومة، لكنها بالتأكيد ستكون أبعد ما يكون من سابقاتها عن فلسطين. أخيراً تنجح الوساطات الدولية في رفع الحصار عن بيروت بشرط واحد: أن تخرج البندقية الفلسطينية من لبنان بلا عودة. وهكذا مرةً أخرى، بعد أقل من عقد ونصف العقد على الخروج الدامي من عمَّان، يرحل الفدائي الفلسطيني عن عاصمة عربية أخرى ولكن عبر البحر هذه المرة، يستقبل مجهول الآفاق إلى أرض غير واضحة بعد... يصعد ياسر عرفات إلى السفينة «أتلانتيس» تحت عيون المناظير الإسرائيلية، ويسأله الصحفي: إلى أين؟ فيجيب: «إلى فلسطين»!