اقترنت صورةُ الآخَر (الأوروبيّ) في الوعي العربيّ المعاصر بالقوّة المادّيـة المسلَّحة التي أَبْـداها ذلك الآخَـر، في المجتمعات العربيّة المَغْـزُوّة، بما هو مستعمِـر. ومع أنّ تلك القوّة العارية أَنْجبت - في الشّروط التي جرت فيها - حالاً غالبةً من الخنوع الاضطراريّ والقهريّ (الممزوج، أحياناً، ببعض الإعجاب)، إلاّ أنّ هذه الحال السّائدة لم تمْنع من نُمُـوٍّ مطَّـرِدٍ لسيكولوجيا جماعيّة رافضة لفعل الاحتلال والقهر الاستعماريّين، ممانِعةً - في الوقت عينِه - لمفعول الشّعور العامّ بالخوف من بطش الغالب. من الطّبيعيّ، في مثل هذه الحال من اشتغالِ جدليّة السّيطرة/الخضوع في المستعمرات، أن تكون صورة الآخَـر (الأوروبيّ)، في وعيِ العربيِّ، ناقصةً أو غير مكتملة أو، للـدّقّـة، وحيدة الجانب بحيث لا يبدو فيها سوى وجهه الكريه؛ ذلك أنّ الآخَـر هذا لم يكن قد قدّم نفسه، إبّانئـذٍ، إلاّ بوصفه غازياً يجثم على صدر المجتمع الموطوءة أرضُه. هي، إذن، الصّورة التي رسمتْها في المتخيّـل الجمْعيّ ظرفيّةُ الاحتلال وسياساتُ الأخير تجاه الأهالي الذين ما تعرّفوا من هذا الأجنبيّ الوافـد على ديارهم سوى على قوّته النّاريّة وبطش عساكره وموظّفي إدارته الاستعماريّة.

ستختلف ملامح صورة الآخَر، كثيراً، كلّما ابتعدنا عن الميدان المباشر لاشتغال تلك الجدليّة (جدليّة السّيطرة/الخضوع): المستعمَرات؛ أي كلّما كان فضاء الصِّلة بالآخَر (الأوروبيّ) هو مجتمعه بالذّات. هنا - في عـقر داره - يختلف أمرُه؛ حيث إنفاذُهُ أحكامَ نموذجه المجتمعيّ والحضاريّ على نفسه وبني جلدته مختلفٌ، أشدّ الاختلاف، عمّا يأتيه من أفعال تجاه غيره في المستعمَرات! ولكنّ الذين كان بمُكْـنهم أن يتعرّفوا ذلك الآخَر في دياره - قبل قرنين - كانوا قُلاًّ معدودين أكثرهم من القناصل والسّفراء وكبار التّـجّار وأُولى البِعْـثات التّعليميّة، أو من الذين ساقهم فضولُ الاِطّـلاع على عالم المدنيّة الجديدة إلى السّفر إلى بلدان أوروبا وتدوين رحْلاتهم في نصوصٍ تحوَّل بعضُها القليل إلى وثائق أدبيّة- تاريخيّة تشهد بنوع التّمثُّـلات التي تكوّنت لأصحابها حين اتّصالهم بهذا العالم الجديد: عالم الآخَـر الأوروبيّ.

ومع أنّ إيقاع الاتِّصال تَسَارع واتَّسع نطاقُه أكثر منذ ما بين الحربين، مقارنةً بما كان عليه منذ عشرينيّات القرن التّاسع عشر؛ وذلك نتيجة تدفُّق موجات المهاجرين العرب على بلدان أوروبا بحثاً عن العمل، أو قصد استكمال الدّراسة...، إلاّ أنّ الصّور التي تكـوّنت عن ذلك الآخَـر في عقر داره لم تشهد على تغييرٍ يُذْكَـر عمّا كانت عليه في عهود الاتّصال الأولى (القرن 19)؛ إذْ ظلّ من ثوابتها وعيُه بما هو مثالٌ لقيم العِلم والتّـقدُّم والعـدل والإنتاج والحريّـة والمساواة، لا للقـوّة والبطش كما هو يبدو خارج موطنه. والحقّ أنّ الكثير من هذه الصّور، التي تعدّلتْ بها تمثُّـلات العربيّ للآخَـر، يتردّدُ التّعبير عنها في عشرات نصوص الرّحلة التي كتبها أدباء عرب كثر، بين نهاية عشرينيّات القرن التّاسع عشر وبداية الحرب العالميّة الأولى (ومنها، من باب التّمثيل فقط نصوص رفاعة رافع الطّهطاويّ، وفارس الشّدياق، ومحمّد الصّـفّار، وجرجي زيدان...). ومع أنّ أدب الرّحلة عريق في الثّقافة العربيّة الإسلاميّة نصطدم به وبنظْراته المقارِنة في نصوص عدّة كتلك التي وضعها المسعوديّ والبيرونيّ وابن بطّوطة... إلخ، إلاّ أنّ لها وضعيّةً اعتباريّـةً خاصّة، في نطاق الثّقافة العربيّة الحديثة، تَـرُدُّ إلى الظّرفيّة التّاريخيّة التي كُتِبَت فيها، والتي تختلف عمّا قبلها من أزمنة.

إذا كان الكتّاب العرب القدامى قد دشّـنوا أدب الرّحْلة وانْهَـمُّوا بآخَرهم، الذي اكتشفوه في موطنه، من غير تهويلٍ منه ولا تنقيصٍ من الذّات، فلأنّهم كتبوا ما كتبوه أَيَّانَ كان العرب في موقع تفـوُّقٍ، مغمورين بشعور الثّـقة بالقدرة على صناعة التّاريخ. وما كانت تلك حالُهم حين تَجَـدَّد عندهم تقليدُ أدب الرّحلة في مطالع القرن التّاسع عشر، بل لقد أتى عليها (= حالهم) من ضروب السّوء ما زعزع الثّـقةَ بالذّات، وأَوْقـد في النّفس نار الشّعور بالانكسار والهزيمة الحضاريّة والخروج من التّاريخ. كانت مدنيّتُهم الموروثة - وقد شرعت في الانحلال منذ زمن - قد بدأت تَدْمُـر تحـت سنابك خيل الغزاة الأوروبيّين، منذ انطلقت حملة نابليون على مِـصْـرَ في الهزيع الأخير من القرن الثّامن عشر؛ وكان نظامُهم المرجعيّ في الفكر والاجتماع والقيم يتآكل ويتداعى تحت وطأة زحفِ المدنيّة الأوروبيّة المحمولِ على ركاب الغزوة الكولونياليّة الشّاملة، فيما ديارُهم تُستباح من جيوشٍ جرّارة لا قِـبَـلَ لهم بكسْر شوكتها أو كـفّ غائلتها!

كان كلّ شيء قـد تغيّر، إذن، حين استُعيد تقليدُ الرّحلة واعتُـمِدَ تدويناً لمشاهَـداتِ عالَـمِ الآخَـر الجديد. لذلك، حين ذهب مَن ذهب من الكُـتّاب إلى الدّيار الأوروبيّة، ودوّن رحلته ومشاهداته فيها، كان الشَّـدْهُ والدّهشة من المرئيِّ والمُعَايَن الغالبَيْن على مادّة نصوص الرّحلة؛ بل كان الشّعور الجارف بالانبهار والإعجاب ممّا يتعصّى على الحَجْب والإخفاء. حتّى الذين جرّبوا من كتّاب الرّحلة أن يأخذوا لأنفسهم مسافةً من ذلك الشّعور بالانبهار، فيتحدّثوا عن مشاهداتهم بلسانٍ نقديّ، أو بمفردات تنتصر للنّموذج الحضاريّ العربيّ الإسلاميّ، في مواجهة النّموذج الأوروبيّ، كانوا أشبه بمن يمارسون فِعْـلَ مُكابَـرةٍ، في ما يقولونه، أو أشبهَ بمن يخوضون قتالاً تراجعيّاً من مواقعَ دفاعيّة غير حصينة أو هي تكاد أن تكون في حُكْم الآيلة إلى سقوط!

على أنّ التّمثّلات التي تكوّنت عن الآخَـر (الأوروبيّ) في الثّقافة العربيّة، من موقع الشّعور بالانكسار والهزيمة، لم تكن من جنسٍ واحد دائماً، بل الغالبُ عليها أنّها تولّدت من شعورين متناقضين استبدّا بالمثقّـفين العرب وأَفْضَيَـا إلى توزيعهم على معسكريْن متقابلين؛ عنينا شعور الانبهار وشعور الإنكار، وعلى إيقاع تَقابُلهما كان تَقابُل المعسكريْن الثّقافيّين ذيناك: معسكر المُنْبَهِرة من المثقّـفين من الذين استبطنوا الانكسار وحوّلوه إلى شعور نفسيّ ملازِم، وسلّموا بالقطيعة التّاريخيّة بين الأزمنة - والمدنيّة - الحديثة ونظيرتها السّابقة؛ ومعسكر المُنكِـرة منهم من الذين تعاموا عن التّحـوُّل المَهُول واعتبروه عارضاً ومؤقّـتاً، وشدّدوا على الاستمراريّة التّاريخيّة. في ضوء هذا الانقسام على حدود وعي الآخَـر، سيتولّد انقسام موازٍ في النّظر إلى الأنا؛ إذ بمقدار ما كانتِ الأنا - وهي تكوِّن تلك الصُّور عن الآخَـر- تحاول وعيَ ذلك الآخَـر وتحديد سلوكها تجاهه، كانت - في الوقت عينِه - تتعرّف إلى نفسها كَ أنـاً في مرآة ذلك الآخَـر الذي يقابلها.