تغيرت مؤخرا اتجاهات الدارسين، والناس عموما فيما يخص النمائم. فهي إن اُعتبرت لفترة طويلة: مضيعة للوقت، مؤذية، وبعديد المضار وبلا منافع، يُنظر إليها اليوم باعتبارها عُملة اجتماعية قيّمة. ثمة الكثير من مقالات الرأي حول الفوائد العديدة لتبادل النمائم، والدراسات العلمية التي تؤكد أهميتها في تقوية الصلات الاجتماعية، بل وتطورنا كبشر. يتحدث الكثيرون عن إفراز هرمون الأوكسايتوسين (الذي يؤدي دورا في تقوية الروابط) عند تبادل النمائم حصرا، وليس عند تبادل عداها من أنواع الأحاديث، وعن أنها تخدم أهدافا تطورية تضمن بقاءنا كنوع، أي وجود آليات تُشجع التعاون، وتقف ضد السلوك الجشع أو غير العادل، بل ويُجادل البعض في كونه أحد حوافز تطور اللغة.

تختلف مادة النميمة باختلاف السياق الذي تعرف فيه هذا الشخص (أو تسعى لمعرفته) قد تكون المادة خاصة بالسلوك العاطفي أو المهني، أخلاقيات العمل، وإن كانوا بشكل عام أشخاص أوفياء، متعاونين، محل ثقة، عادلين أو لا.

النميمة الإيجابية مفيدة في سياق المنافسة، فأنت تعرف عبرها سمات الشخص، نقاط قوته، حتى وإن لم تلتقيه. بينما السلبية مفيدة في سياق الحماية. إذ يُمكن لإنسان أن يُسيء لآخر، لكن ولإن المجتمع البشري يمتاز بتكونه من عدد هائل من الأفراد، يُمكن أن ينجو المسيء من تبعات إساءته بل ويواصل الفعل ذاته مع أفراد آخرين، ما لم تُسخر هذه المعرفة لضبطه. هذا بالضبط ما تفعله النميمة، إنها نظام حماية يُساهم في ضمان أن تعرف المجموعة بأسرها عن إساءة فرد لفرد آخر. سواء كانت تخص المعاملة غير العادلة في العمل (من محاباة وسواها)، أو تخص التبليغ عن إساءة اجتماعية.

ثمة بالطبع خطر من الاعتماد بشكل كامل على المعلومات التي تصلنا عبر الآخرين، والسمعة السيئة للنميمة تأتي تحديدا من هنا: من احتمالية أن تكون المعلومات التي تصلنا غير موثوقة أو منتزعة من سياقها، ومن كون هذه المعلومات غير قابلة للضبط. فبمقدور أي إنسان أن يكذب بخصوص أي فرد آخر في المجموعة. ثمة أيضا مصدر آخر لسمعتها السيئة، وهو ارتباط المصطلح بمعناه الديني. فالنميمة وفق هذا المنظور تحدث بغاية إيقاع الشر بالآخر، ويُتقصد منها الإفساد. النية إذا خصيصة مهمة للتفريق بين المصطلح بمعناه القديم والحديث. ومع أن النمائم قد تؤدي لتبعات سلبية (دراما كما نقول)، إلا أن منافعها العديدة، تجعل تجنبها الكامل أمر غير مرغوب فيه، وأمر لا يوصي به علماء النفس.

انتقلت النميمة في السنوات الأخيرة من مستوى المجموعات الصغيرة، إلى المستوى الكوني. فحركات من قبيل هاشتاج "أنا أيضا"، سعت لفضح إساءات أصحاب القوة، والانتهاكات بحق النساء (والرجال لاحقا)، خصوصا في أماكن العمل.

مع تردي الأوضاع الاقتصادية التي نشهدها هذه الأيام، وزيادة معدلات البطالة، وضعف شبكات الأمان الاجتماعي، يُمكن لأي صاحب قوة، أن يستغل تلهف الشابات والشباب لتحقيق أمانهم الاقتصادي، ويتعمد تضليلهم عبر تقديم عروض عمل غير جادة، بهدف التقرب، وتحقيق مآرب شخصية. تجد الشابة نفسها في موقف أقصى ما يُمكنها أن تصفه به هو "عدم الارتياح". يُمكنها أن تقرر وفقه إن تنسحب، أو تتعامل "بعقلانية" -كما تُوصى دائما- مع شعورها، إلى أن يبدر من الشخص محل السؤال فعل واضح يُمكنها أن تدينه على أساسه. ثمة خيار آخر وهو أن تُسايره إلى أن يتحقق الوعد (الوظيفة مثلا، أو انتهاء المشروع)، وأن تتجاهل اهتمامه الخاص غير المبرر، أو انتهاكاته الصغيرة للسلوك المهني. فعلى كل حال، ليس ثمة ما يُمكن فعله بخصوص الشعور بـ"عدم الارتياح" هذا. تُجاهد النساء في حماية أنفسهن عبر تبادل قوائم المتحرشين، أو إنشاء صفحات يُبلغن فيها عن تجاربهن، مصحوبة بهوية الشخص المسيء (مرفوقة بصورة متى أمكن) يُمكن لأخريات أن يتوخين الحذر إذا ما صادفنه لاحقا.

لكن ماذا عن الأفعال التي بالكاد يُمكن أن تعد تحرشا؟ يُمكن للنساء استخدام السمعة -وهي أمر حساس في مجتماعتنا- لصالحهن هذه المرة، فقد يرتدع الشخص محل السؤال، بمجرد أن يعرف أنه مادة للقيل والقال. وحتى إن لم يحدث هذا، فعلى الأقل يمكن حماية نساء أخريات عبر تبادل النمائم عنه. بالطبع أنواع الأفعال التي أتحدث عنها هنا، هي الأفعال الصغيرة المؤذية التي لا تحتمل أن تكون محل مُقاضاة، الأفعال الصغيرة التي يُمكن إقناعك بسهولة أنك أسأت فهمها وتفسيرها.

ما أرجو أن نسعى إليه في النهاية هو نوع من النميمة المسؤولة. أعني بذلك، تقديم السياق الذي حدث ضمنه الفعل -موضوع النميمة- قدر المستطاع، ومحاولة فهم لماذا فعل الفاعل فعلته. وأن لا نبني قرارات كبيرة بناءً على النمائم وحدها، ولكن نأخذها في الحسبان. فأنت إذا ما عرفت قصة عن شخص ما، ثم أساء لك الفرد محل السؤال، فأنت تضع هذه المعلومة، بجانب معلومة أنه أساء لصديقك أيضا، ويمكنك بهذا اتخاذ موقف مثقف (more informative) منه، وتمرير المعلومات بدورك إلى دائرة أصدقاءك، كما نفعل عادة، وليس في ذلك بأس.