قبل أشهر قليلة شُغِل العالم أجمع بخمسة مغامرين من رجال أعمال استقلوا غواصة وذهبوا في رحلة استجمام إلى عمق المحيط لمشاهدة بقايا حطام سفينة «تيتانيك» التي يعود تاريخ تحطمها إلى أبريل من عام 1912.. لم يعد المغامرون الخمسة، وتحولت غواصتهم، هي الأخرى، إلى حطام.. وعلى مدى أيام كان خبر الحادث هو الخبر الأول في الكثير من وسائل الإعلام العالمية، وعلى الرغم من أن خبر تحطم الغواصة يستحق تسليط الضوء عليه إلا أن الضوء، أيضا، يستحق أن يسلط على عشرات القوارب التي تغرق بعشرات المهاجرين في وسط البحر الأبيض المتوسط؛ تستحق هي الأخرى أن تشغل بال العالم، وبعضا من محللي ومعلقي وسائل الإعلام العالمية التي باتت تتجاهل عشرات الأرواح التي تزهق كل يوم في عمق المحيط وتمتنع الدول الأوروبية المتحضرة حتى من مجرد تقديم المساعدة لها في الوقت المناسب.

لم يعد البحر المتوسط شاهدا على النهضة والحضارة التي استطاعت الدول الأوروبية إنجازها، لقد أصبح شاهد عيان على مئات من قصص الموت واليأس والخوف وانقطاع الرجاء فوق أمواجه الغاضبة، ففي كل يوم ترصد عشرات القصص للمهاجرين الهاربين من مناطق النزاع والموت إلى شواطئ كان يعتقد أصحاب تلك القصص أنها مرفأ الحلم أو طريق العبور إلى عالم لا نار فيه ولا حديد.. وفي زحام قصص الغرق الجماعية إلا أن الكثيرين لم يستطيعوا التخلي عن حلمهم تحت لحظات اليأس والموت الذي يتجرعونه كل لحظة في بلدان تعيش على الهامش البعيد للحياة أو ما يمكن أن تكون حياة.

رغم ذلك فإن العالم يعيش في ما يمكن أن يوصف بلحظة الخدر التاريخية، فلا أحد يهتم، كما ينبغي، لتلك النفوس التي تزهق في وسط البحر فيما هي في رحلة افتراضية إلى الجنة الموعودة أو الفردوس المتخيل. لا ينظر إليهم العالم المتحضر عند الضفة الأخرى من البحر إلا بوصفهم عناوين هامشية في صفحة متوارية من صحيفة صباحية.

لقد أصبح العالم غير حساس أبدا تجاه قصص الموت والحكايات المروعة التي تغرق مع العشرات ممن خرجوا للبحث عن قصة أخرى يمكن أن يجدوا فيها بذرة أمل في لحظة عزّ فيها كل شيء حتى مجرد الحلم.

إن العالم الذي نعيشه اليوم في أمَسّ الحاجة إلى أن يقف لحظة صدق مع نفسه ومع قيمه وينظر عبر مرآة مصقولة ويسأل نفسه سؤالا مهما: ماذا يمكن أن نصبح إذا استمر الأمر على ما هو عليه، إذا فقدنا القدرة على الإحساس بحقيقة ألم هؤلاء البشر الذين يغرقون وتغرق حكاياتهم ولا يبقى منهم إلا الفكرة؟

العالم في أمَسّ الحاجة ليتأمل هؤلاء المغامرون الحقيقيون الذين يتركون أوطانهم وأطفالهم ويقررون خوض مغامرة نسبة النجاة فيها لا تتعدى 1%، لكن تلك النسبة تبدو أكبر من نسبة النجاة في حروب مع الجوع واليأس والقهر والضياع.. وسط جشع الساسة وتجار الحروب والأيديولوجيات.

إن «قوارب الموت» التي يبحرون على حلمها ترمز إلى أكثر من مجرد حالة اليأس التي وصلوا لها، إنها تجسد فشلا جماعيا للإنسانية، وعجزنا عن معالجة الأسباب الجذرية للصراعات، وإحجامنا عن إنشاء مسارات للاجئين والمهاجرين للوصول إلى حلم الأمان والأمن.

وعلى أنه من السهل أن يلقى اللوم حول كل هذه المآسي على أمراء الحرب والحكومات الفاسدة أو المتاجرين بالبشر، إلا أنه من الأهمية بمكان أن تفهم البشرية مسؤولياتها المشتركة.

ورغم تشابك العالم وتشابك مصالحه والعولمة التي تحول عالمنا إلى قرية صغيرة متقاربة جدا إلا أن البوصلة الأخلاقية للإنسانية في هذه اللحظة تبدو شديدة التفكك أكثر من أي وقت مضى. إن مصائر هؤلاء المهاجرين الذين يغرقون كل يوم في وسط البحر ترتبط ارتباطا وثيقا بأفعالنا العالمية أو تقاعسنا عن العمل. إذا كان العالم بالفعل قرية عالمية، فإن هذه النفوس الغارقة هي جيراننا وجزء منا ومن تاريخنا الإنساني.

إن العالم بحاجة إلى نهج مختلف عن النهج الذي يسيره الآن، بحاجة إلى بذل جهد دولي أكثر تضافرا لحل الصراعات المفتعلة في الدول وإعادة بنائها.. وإعادة تقييم السياسة العالمية للتأكد من أننا لا نؤجج عن غير قصد الصراعات ذاتها التي يفر منها هؤلاء المهاجرون.

وإذا كان العالم بحاجة ماسة إلى أن تغسل أمواج البحر أخلاقه المتشظية، فإن العالم نفسه ما زال قادرا أن يحتفظ بضمائره بعيدا عن أن تغسلها مياه البحر المالحة، فلا تعود قادرة على الإحساس.