أمنح نفسي بين الفينة والأخرى إجازة من كل شيء. أخطط لأن لا أعمل أو أخرج وأجعل الملل يقود نهاية أسبوعي. أسقط في جحر الأرنب -كما يقول التعبير الشائع- وأتبعه للنهاية. الاستسلام للملل الذي قادني هذه المرة إلى عالم رباب (1958-2010).

لا تسعفنا المصادر كثيرا (كما هو الحال دائما عند الحديث عن الفن العربي) في معرفة تجربة رباب. ثمة بعض اللقاءات المسجلة لها على اليوتيوب. أزعم أن محتوى هذه اللقاءات شكل جُل ما كُتب عنها على صفحة الويكبيديا. ثمة أيضا مقال جميل بعنوان «المثليات المضمرة في أغاني رباب والخليج العربي» نشره أحمد الواصل عام 2013 على كل من «جدلية» و«معازف» عبر اتفاقية تعاون بين المنصتين.

الشعر القصير غير المصفف، السمرة، الحواجب غير المشذبة، الوجه الخالي تقريبا من المكياج، والملابس التي يُمكن أن تُعد cross-dressing التي لا تنسجم مع قواعد المظهر النمطي للمطربة العربية وقتها، أو لأي وجه إعلامي نسائي حتى، إذ يشترط -وربما إلى الآن- الظهور بمظهر محدد، لا يدع مجالا لتعبير المرء الشخصي عن ذاته/ا. وتقول -في خضم حديثها عن الحرب مع المؤسسة- أنه لو كان لها أن تُهديهم أغنية، لأهدتهم «اشمعنى أنا؟» تكهن رباب الشخصي أن هذه الحرب -أو التهميش على الأقل- تأتي ضد مظهرها، بالإضافة إلى صراحتها، ومواقفها السياسية (أو ما يُقابل ثقافة الكانسل Cancel culture وقتها).

لطالما تطرقت دراسات الموسيقى العربية إلى موضوع ذكورية الأغنية العربية الكلاسيكية، أي أن يكون المخاطب ذكرا سواء كان المغني ذكرا أو أنثى، إذ تحل ألفاظ مثل حبيبي عوضا عن حبيبتي أو حلو، جميل، أسمر. يُستثنى من ذلك ربما الأغاني الفصحى (كما نراه في أغاني عبدالحليم، كاظم الساهر مثلا)، على اعتبار أن في الفصحى نوعا من التحرر القادم أولا من الانفصال عنها، كونها مخالفة للغة المحكية، ولأنه -ثانيا- يُنظر إليها باعتبارها لغة رفيعة، لغة الشعر والغزل. أقول إن هذا هو أحد أوجه التشديد على فصل التجربة الشخصية عن التجربة الثقافية/الفنية. الفصل الذي تفرضه الأعراف الاجتماعية، وما يؤدي إليه من حيادية، أو التغني بالحب في شكله المطلق المفرغ من التجربة الفردانية.

جميعنا يلجأ إلى إنشاء قوائم تشغيل Playlist حسب المزاج. لي صديق مثلا لديه قائمة يُسميها «المرأة القوية» التي تجمع الأغاني التي تحتج فيها المرأة بصوتها الغاضب أمام ما لا يُمكن القبول به. فيها أغانٍ من نوع: لا والله - فيروز، وولعت كثير - سلمى وزياد الرحباني. وأتخيل أن أغاني رباب (أتحداك، أنا أقدر، أرجوك) يمكن أن تنتمي بسهولة لهذه القائمة.

ما يحبب في رباب هو جديتها في العمل الفني، تقول مثلا في إحدى اللقاءات: «للحين ما عطيت» تعليقا على ما أنجزته خلال مشوارها. ثمة جدية لا يُمكن إغفالها في عملية اختيار كلماتها (حتى أنها كتبت بعض أغانيها)، في التلحين، إذ تقول إنه «الملحن تطلع روحه معاي». وإلى نهاية العملية الإنتاجية.

يحلو للمذيعين التحدث عن «الغيرة بين الفنانات»، وهو نوع من الهوس بالـ cat-fight. لكنها حين تُسأل تجدها تجيب بأوتوماتيكية بريئة «والله حشى.. ما اعرف أغار.. بالعكس أتمنى الفنانات يزيدون»، وبالطبع أكثر ما يُقرب المرء لها هو اعترافها بأنها لا تعرف كيف تصنع ثروة، وأن البيت حتى البيت الذي تسكنه هو بالإيجار، رغم ما قد يتوهم الجمهور من كون الشهرة تصنع المال.

ثمة مجموعة من الموضوعات التي يُجر إليها الفنان جرا، ولا يمكن للواحد منّا إلا أن يحترم الفنان الذي يجيد التعامل مع هذا النوع من الأسئلة، من ضمنها الحديث عن رداءة ما تنتجه أجيال الفنانين الجديدة الذين يعتمدون على التكنولوجيا لتحسين أصواتهم، يأتي هذا -طبعا- في سياق الحديث عن هبوط الفن وابتعاده عن الغناء الأصيل. إنها تُجيد التعامل مع هذه الأسئلة، فهي مثلا تتحدث عن «تلميع» الصوت باعتباره إحدى المهارات التي يجدر بالفنان الاستفادة منها، وتتحدث عنه كجزء من الجهد المبذول ليخرج العمل بشكل لائق.

جرح رباب الأكبر هو حرمانها من دخول الكويت بعد الغزو، كونها حاملة للجواز العراقي (رغم أنها عاشت في الكويت طوال حياتها، إذ قدمت عائلتها من العراق وهي بعمر الستة أشهر)، أجج هذا الموقف، غناؤها -في مرحلة سابقة للغزو- لصدام. رغم أن علينا أن ننتبه أن هذا حصل في وقت كان يُعدّ صدام للكثيرين -ممن هم بالطبع لا ينتمون للأقليات في المجتمع العربي- المنقذ، وصاحب المواقف، الذي سيُغير تاريخ المنطقة (وقد فعل هذا بالطبع). لبس رباب للأسود، وغناؤها للكويت خلال الغزو، كل هذا لم يشفع لها، وبقي موقف السلطات منها غير متغير حتى وفاتها في الشارقة ودفنها هناك.

ما خرجت منه بعد تجربة الهوس الصغيرة هذه برباب، هو خيبة من كون المذيع -وإلى اليوم- يحوم حول المناطق نفسها، ويخشى -ربما أكثر من السابق حتى- مقاربة المواضيع الحساسة. بالطبع المذيع أو المعد ليس الملام هنا؛ لأن المؤسسة والنظام بأسره -وبشكله الحالي- لا يُمكن إلا أن يُنتج مثل هذا النوع من المحتوى، وأن الحل الوحيد -رغم ما أمامه من تحديات خاصة به- هو اللجوء إلى الفن البديل، والإعلام البديل، الذي نجد فيه محتوى يُمثلنا، ويُقارب همومنا على نحو أفضل.