قد يكون الرئيس الروسي بوتين - شأن كثيرين في القيادة الروسية - مسكونا بشعور حاد بالخيبة وبالحسرة على انهيار الاتحاد السوفييتي، بل نقـل عنه أنه عـد ذلك كارثة كبرى دفعت روسيا ثمنها كثيرا في العقود الثلاثة الأخيرة. وليس في مثل هذا الشعور ما يستغرب له متى تذكرنا أن بوتين انتمى إلى الحزب الشيوعي السوفييتي، في مطلع شبابه، وهو في الثالثة والعشرين وقضى فيه - وفي المسؤوليات التي تقلدها حزبيا - ست عشرة سنة (1975-1991) إلى حين حله بعد انهيار الاتحاد السوفييتي. في الأثناء، استمر يعمل موظفا في جهاز الأمن السوفييتي. وبعد انفراط الاتحاد تولى إدارة جهاز الكي جي بي، ثم رئاسة الوزراء، فرئيسا بالنيابة (بعد تنحي بوريس يلتسين)، فكان بهذا كله في الموقع الذي يسمح له بأن يضع في ميزان المقارنة أحوال روسيا التسعينيات وأحوال الاتحاد السوفييتي في السبعينيات والثمانينيات، ويدرك الفارق الخرافي بين الإمبراطورية العظمى والدولة المأزومة المنخورة بفساد القوى الطفيلية التي استولت على السلطة والثروة في البلاد بعد انهيار الاتحاد؛ وهي عينها القوى التي كانت الحامل الاجتماعي ليلتسين إلى السلطة، والتي تمتعت أنشطتها بغطاء سياسي في عهده.

بمثل هذه الخلفية الحزبية والسياسية التي تنهض عليها تجربة بوتين، لا يسع الرجل أن لا يتحسر على عهد سوفييتي كان جانب روسيا فيه يخشى، وهيبتها في العالم تفشو. ولعله يكون الشعور عينه الذي يخالج كل روسي عاش في العهدين، ووقف بالمعاينة على الفوارق بينهما. ولست أستثني من ذلك تلك النخب الليبرالية الروسية التي بدت موالية للغرب ومعادية للنظام السوفييتي؛ إذ هي نفسها صدمت - بعد زمن من زوال الاتحاد السوفييتي - بعداء الغرب الشديد لروسيا: العداء الذي فهمته (النخب) عداء لنظامها الشيوعي، فيما هو - على الحقيقة - عداء لروسيا والروس! لقد كان يكفي المرء في روسيا أن يكون وطنيا أو قوميا روسيا - أي من غير أن يكون شيوعيا بالضرورة - لكي يسكنه الحنين إلى العهد السوفييتي. وتتضاعف الحسرة عند الروس حين يتذكرون أن دولتهم العظمى انهارت من دون حرب، بل بفعل قيادات فاسدة وسياسات فاسدة ونخب بلا خبرة. حتى أن قطاعا عريضا من الشعب الروسي تمنى لو أن بوتين هو من خلف قسطنطين تشيرنينكو في قيادة الحزب والاتحاد السوفييتي، حين وفاة الأخير في عام 1985، بدلا من ميخائيل غورباتشوف الضعيف أمام الغرب؛ فلقد كان يسع بوتين - في اعتقاد الكثيرين - أن ينهض بأوضاع الاتحاد من جديد ويحصنه ضد خطر الانهيار.

مع ذلك، لن يكون سهلا أن يعتقد المرء أن مشروع بوتين السياسي، اليوم، هو تجديد للمشروع السوفييتي أو سعي في استنساخه ومحاكاته كما قد يخيل إلى البعض. نعم، أدرك بوتين، بعد التجربة الروسية المريرة، أن الذين فرطوا في الاتحاد السوفييتي من أجل حماية روسيا واستنقاذها نسوا أن درع حمايتها الوحيد كان الإطار السوفييتي، وأن مجالها الاستراتيجي السوفييتي - المؤلف من الجمهوريات السوفييتية السابقة الشريكة - إما أن يكون لها أو يكون عليها؛ وآي ذلك أنه مجال صار في جملة ساحات «حلف شمال الأطلسي»: قواعد متقدمة لتهديد الأمن القومي الروسي، وما افتعال أزمة أوكرانيا، اليوم، إلا التعبير الأجلي عن رغبة الغرب الأطلسي في إفقاد روسيا آخر موقع يعزل عنها زحف الأطلسي على حدودها! مع ذلك، لا يكفي مثل هذا الإدراك لتوليد مشروع كبير من قبيل إعادة إحياء مجد سوفييتي دَرَسَ وأصبح جزءا من ماض لا يعود، ولا أدل على ذلك من أن مشكلة روسيا الاتحادية مع دول الغرب الأطلسي لا تدور على مسائل افتراضية من قبيل تجدد الفكرة السوفييتية في سياسات روسيا بوتين، وإنما تدور- أساسا- على مسألة الأمن القومي الروسي الذي بات عرضة لتهديد استراتيجي منذ نجحت منظومة دول الأطلسي في أن تزحف إلى حدود روسيا.

ما أغنانا عن القول إن إعادة إنتاج المشروع السوفييتي في روسيا أفـق منسد، موضوعيا، على روسيا اليوم وفي المستقبل المنظور لجملة أسباب وعوامل لا يجوز إغضاء التحليل عنها. في قائمة تلك الأسباب أن القوة السياسية الحاملة للفكرة السوفييتية (أعني القوى الشيوعية) ضعـفت في روسيا وجوارها، بل اختفت في بعض دول الجوار، ناهيك بتهالك تلك القوى في العالم كله وانقراض سلطانها (ما خلا في الصين وكوبا وكوريا الشمالية). وقد يرد على هذا بالقول إن مثل هذه الفكرة مما يمكن أن تنهض بحمله قوى أخرى، غير شيوعية، ذات طموح سياسي بعيد المدى مثل تلك القوى التي يستند إليها بوتين والقيادة الروسية. وهذا قول غير ذي موضوع لأن الفكرة السوفييتية، بطبيعتها، عابرة للقوميات وليس يسع قومية - مهما عظم شأنها - أن تحملها باسمها واسم غيرها من القوميات. هذه واحدة؛ الثانية أن أوضاع روسيا، اليوم، ليست من القوة بحيث تـفرج عن مثل هذه الإمكانية، بالنظر أنها تكاد أن تكون محاصرة بدول منتسبة إلى منظومة الأطلسي، وبالتالي، ضاقت أمامها مساحات العلاقة بدول الجوار (السوفييتي السابق والأوروبي الحليف سابقا). وهي في أحسن أحوالها، معنية ببناء ذاتها كقـوة كبرى وبالتعاون مع غيرها من أجل إعادة صوغ علاقات النظام الدولي على مقتضى التوازن والشراكة.

ربما اختلط الأمر على القائلين بوجود مشروع روسي لإعادة إحياء الفكرة السوفييتية وبناء نسخة سياسية جديدة منها، بسبب معاينتهم كيف أصبحت روسيا بوتين تجهر، في السنوات الأخيرة، برغبتها في إعادة النظر في النظام الدولي القائم الذي أجحف في حقها وفي حق القوى الكبرى الجديدة (مجموعة البريكس مثلا)، كما بسبب خطابها الرسمي الذي يوحي بأن لعمليتها العسكرية في أوكرانيا اتصالا بمشروع لديها في تغيير النظام الدولي. هكذا تأول المتأولون مواقف روسيا الجديدة فحملوها على معنى واحد وحيد: إعادة إحياء المشروع السوفييتي! مع أن الفارق كبير بين نظام دولي قادم واتحاد سوفييتي متجدد.