ما قد يؤسسه المدى الزمني المتوسط «خمس سنوات» من متغيرات وتحولات دراماتيكية إقليمية في مناحٍ استراتيجية عديدة لا ينبغي الإغفال عنها، ويستوجب إعمال الفكر في متابعتها وتحليلها أولا بأول، فهناك إسقاط خطوط حمراء في علاقات دول إقليمية مركزية وفق مقاربتين تحكمان عملية تأسيس علاقات إقليمية جديدة متزامنة مع عملية إسقاط الخطوط الحمراء، وهما المقاربة السيرورية، والأخرى الصيرورية، وقد بحثنا في المعاجم عن أفضل تعريف يقربنا للمفردتين، فوجدنا أن السيرورة هي اشتقاق من سار، أي المشي، وهو ما يعني التقدم المتتالي، بينما الصيرورة هي من صار، وهى أعمق من سار، وتعني عملية التقدم والتحول معا، وتحكم طبيعة المرحلة الإقليمية الآن هاتان المقاربتان اللتان تقودان إسقاط الخطوط الحمراء بنسقهما سالف الذكر.

والأخطر في المقاربتين، الصيرورة؛ لأنها تؤدي إلى إسقاط الخطوط الحمراء بصورة راديكالية، بحيث رصدنا تغيير علاقات ومواقف تاريخية بين دول على أنقاض تأسيس علاقات ومواقف مع دول أخرى، والمفارقة هنا، أن وراء تبني المقاربتين عامل واحد مشترك، وهو حاجة الدول إلى الاستثمارات الخاصة - أي الأموال - وتمثل دول مجلس التعاون الخليجي نموذجا للسيرورة، فقد تبنت كل دولة رؤية للتنمية طويلة الأجل «2030، 2035، 2040» تعتمد على الاستثمارات الخاصة، المحلية والأجنبية بنسب مئوية عالية جدا، مما يجعلها تنفتح على بعضها البعض لتدوير المنافع المشتركة، واستغلال جيوسياسية بعضها بوسيلة السيرورة وغاية الصيرورة.

وتمثل سياسات الرئيس التركي أردوغان الجديدة بعد فوزه في مايو الماضي بولاية رئاسية ثالثة مثالا للصيرورة الراديكالية التي ستغير موازين القوى الإقليمية، ولن نستثني العالمية، وقد تنتقل دول السيرورة إلى الصيرورة كردة فعل لمواجهة تحديات هذه الأخيرة، لأنها تؤسس أوضاعا إقليمية وداخلية متبادلة لحقبة الخمسين سنة المقبلة، وبالذات على الصعيدين العسكري والاقتصادي، ويقف وراء الصيرورة الأردوغانية عاملان «وجوديان» يتعلقان بمستقبله السياسي وهما:

- نتائج الانتخابات الرئاسية التي فاز فيها أردوغان بصعوبة في الجولة الثانية، وخسارته في الانتخابات مدنا أساسية كأنقرة وإسطنبول.

- تردي الاقتصاد التركي، فالليرة تواصل تراجعها السريع أمام الدولار، وارتفاع أسعار المستهلك، فإحدى المشكلات الكبرى التي تواجهها تركيا -كما يرى خبراء- هي تأمين سيولة نقدية بالعملة الصعبة، وربما يكون هذا العامل له علاقة مباشرة بالعامل الأول.

مما يجد أردوغان نفسه في حالة الضرورة السياسية القصوى لتبني الصيرورة لمواجهة استحقاقات الانتخابات المحلية المقبلة، وكذلك تأمين مستقبله السياسي في انتخابات الرئاسة بعد خمس سنوات المقبلة، فأردوغان له طموحات بعيدة المدى، ويستعد لها، لذلك اختار فريقا اقتصاديا برغماتيا يحظى بقبول دولي وإقليمي، وتتجسد فيه الشروط اللازمة للصيرورة، وهذا يفسر لنا سرعة قيام أردوغان بجولة خليجية شملت ثلاث دول، هي السعودية والإمارات وقطر، ونتائج هذه الزيارات، والمواقف السريعة التي اتخذها أردوغان في قمة الناتو الأخيرة في العاصمة الليتوانية فيلنيوس ما هي الا حتميات للصيرورة الأردوغانية.

ففي قمة الناتو ساوم أردوغان الغرب بين عضوية السويد للناتو التي وافق عليها مؤخرا، وكذلك انضمام أوكرانيا للناتو مستقبلا، بعضوية أنقرة في الاتحاد الأوروبي التي سيحظى الأتراك من خلالها بالعديد من المزايا، أبرزها اقتصادية وتجارية وحرية التجول في الدول الأوروبية، وتحظى أنقرة بوضع مرشح رسمي للانضمام للاتحاد الأوربي منذ عام 2005، ونجد في هذا التحول أهم الصيرورات الأردوغانية التي لم يعمل فيها لحسابات موسكو.

فيما برزت صيرورة أردوغان في نتائج زياراته الخليجية بصورة ناطقة بكل رسائلها المستعجلة ذات الأوزان السياسية المباشرة وغير المباشرة، ففي الإمارات تم التوقيع بين البلدين على عدة اتفاقيات ومذكرات تفاهم تقدر بأكثر من «50» مليار دولار.. الخ، وفي السعودية، كان اللافت توقيع الرياض وأنقرة على أكبر عقد تصدير دفاعي في تاريخ تركيا -وفق توصيف المصادر- وفي بعض تفاصيله بيع طائرات تركية من دون طيار للسعودية، وهذه خطوة توصف بأنها استراتيجية لتعزيز العلاقات بين الرياض وأنقرة، وفي الوقت نفسه دعم الاقتصاد التركي المتردي، وهنا أيضا مجموعة خطوط حمراء تم إسقاطها من حسابات تركيا العضوة في الناتو، والطموحة لعضوية الاتحاد الأوربي، كما أن فيها إسقاطات لخطوط حمراء مماثلة على صعيد علاقات أنقرة مع الرياض وأبوظبي.

وهذه الخطوة لها ما يبررها، وهو إنقاذ الاقتصاد التركي، وفي المقابل ستعزز الدفاعات السعودية، وتعمق تطلعاتها التصنيعية، والقول هنا للخبراء - وقد خرجنا من عملية بحث عن تطور الصناعات العسكرية التركية فوقفنا عند حجم تطورها العملاق «نموا وإنتاجا» منذ 2020، حيث أسهمت بزيادة القدرات الدفاعية للجيش التركي فضلا عن توسع صادراتها، وقد دخلت عدة شركات تركية قائمة التنافس العالمي بالصناعات الدفاعية ذات الجودة العالية، وارتفع عدد الشركات التركية المصنفة ضمن أهم 100 شركة عالميا في تصنيف (Defense News) إلى سبع شركات مصنعة للأسلحة، واحتلت شركة Aselsan، وهي أكبر شركة دفاعية في تركيا المرتبة 52 عالميا وفق ذلك التصنيف.

ووصلت قيمة مبيعات الشركة إلى 2.1 مليار دولار، كما احتلت شركة TUSAŞ، المعروفة أيضا باسم صناعات الفضاء التركية (TAI) المرتبة 48، فضلا عن إدراج الشركات:BMC،Roketsan،STM،FNSS،Havelsan في قائمة أفضل 100 شركة في نفس التصنيف «مصادر».

من هنا تجد دول مجلس التعاون الخليجي، وبالذات التي تملك السيولة المالية الضخمة في صيرورة أردوغان فرصا مضمونة لتحقيق أجندتها المتعددة، وعلى رأسها العسكرية، فصيرورة أردوغان مفتوحة الآن تحت ضغوطات اقتصادية وانعكاساتها الاجتماعية، وستقود الخليج مع تركيا لشراكات عميقة، ليست عسكرية فقط، وإنما تقنية وتكنولوجية بسقف تركي مرتفع جدا يتمثل في رفع التجارة المتبادلة مع الرياض مثلا إلى مستوى 10 مليارات دولار على المدى القصير، و30 مليار دولار على المدى الطويل». وقبل زيارة أردوغان للرياض بعدة أيام، شهدت أنقرة اجتماعات سعودية تركية على عدة مستويات، تمخضت عن التوقيع على «16» اتفاقية تعاون في مختلف المجالات.

وقد نجد الصيرورة هنا عاملا مشتركا كذلك بين تركيا والخليج؛ لأنه إذا كانت دافعية الصيرورة التركية نحو الخليج تكمن في السيولة المالية لإنقاذ الاقتصاد التركي، وضمان مستقبل أردوغان السياسي، فإن الصيرورة الخليجية تكمن في حاجتها للتقنية والقدرات العسكرية التركية المتقدمة، مما يبدو له -أي الخليج- أن أنقرة منفتحة لتحقيق الطموحات الخليجية، وهذه الصيرورة المتبادلة قد تغير موازين القوى وبالذات العسكرية في المنطقة لصالح دول معينة في الخليج، وقد سجلت الصيرورة حتى الآن موقفا سياسيا غير مسبوق، وهو من بين أهم نتائج الصيرورة، وذلك عندما ربط أردوغان أمن تركيا بأمن الخليج.

ولا يمكن تفسير هذا الربط سياسيا فقط، وإنما عسكريا كذلك وبصورة غير تقليدية، أبرزها ملامحها، ما يعطي العقد الدفاعي التاريخي بين الرياض وأنقرة من آفاق استشرافية بعيدة المدى في ضوء بروز الرياض الآن كدولة إقليمية مؤثرة عالميا، وفي ضوء تطلعاتها العالمية وتجاربها العسكرية الإقليمية وفي ضوء التراجع العسكري الأمريكي في الخليج، لذلك ما سيحدث خلال المدى الزمني المتوسط -خمس سنوات- من الممكن أن يشكل الفارق داخل المنطقة، وهذا المدى الزمني مرتبط بالمدى الزمني لرئاسة أردوغان في تركيا، ومساعيه الحثيثة في ولاية رئاسية جديدة، ومدى تأثير السيولة الخليجية عليها، وكيف ستستغل خليجيا لخدمة أجندتها الحديثة، ومهما يكن، فمن الأهمية السياسية دراسة المتغيرات في موازين القوة العسكرية في الخليج في ضوء الصيرورة الأردوغانية وتناغماتها الخليجية.