بعد ردح من الزمن طويل شنت فيه الصناعة والتقنيـة حرب استنـزاف على الطبيعة والبيئة، فأفـقـرتاها من الموارد - بالنهب العـشوائي والمنظـم - وطـوحتا بتوازناتها وأحدثـتا فيها الخلل الذي يهدد نظام الطبيعة بالانتقاض، والحياة على هذا الكوكب بالفناء والزوال...، ها نحن نشهد ميلاد طور جديد من أطوار عدوان التـكنولوجيا - في جيلها الجديد - على الإنسان، بل على الإنساني في هذا الحيوان؛ العدوان الذي يؤذن بخراب العمران الإنساني، والذي ينهب من الإنسان أرقى ما فيه ( المعرفة) لتدميره به! إنه العدوان الآلي عينه يستأنف نفسه منتقلا من الفتك بالطبيعة إلى الفتك بأبنائها، وينتحل لنفسه اسم الذكاء الاصطناعي مدشـنا منعطفا حاسما في تاريخ الوجود الإنساني يخشى كثيرون - خشـية حق - من أن يشـرع الباب أمام نهاية ما لذلك الوجود، أو على الأقـل، للمألوف والمعتاد من ذلك الوجود منذ آلاف السنين.
يكـثف الذّكاء الاصطناعي نتائج الثورة التكنولوجية الرابعة ويذهب بها إلى الأبعد: إلى السّيطرة الهندسيّة على الطبائع وإعادة تصنيعها واستبدالها بالقديمة. من البين أنه ما أريد بالذكاء الاصطناعي أن يحاكي الذكاء الطبيعي فيقوم بالعمل الإنتاجي نيابة عنه، فقط، بل أريد له أن يجاوز مجرد بـز الذكاء الطبيعي إلى تكريس تفـوقه عليه: تفـوقا لا في الأداء وسرعة الإنجاز والدقة فحسب، وإنما - أيضا - في القدرة الذاتية على تطوير نظامه من الداخل. وبمعزل عما إذا كان ذلك ممكنا أو في حكم الممتنع، فإن مجرد برمجة نظـم الذكاء الاصطناعي على تطوير ذاتها والارتفاع بقدرات ذلك الذكاء على مجاوزة حدود كـل توقُّـع إلى مستويات لا محدودة، هي (أي البرمجة) تفصح عن أخلاقـية لا إنسانية على الإطلاق؛ أخلاقية مبناها على تجريد الذكاء الاصطناعي من كل وازع أخلاقي، و«تحريره» من أي حوائل قيمية، والتشريع لحاكميّـته الوضـع البشري برمـته.
بمثل ما كان الذكاء الإنساني حـرا طليقا في عمله، لا تَحُـدُّه حوائل من ذاته سوى الحدود الطبيعية لطاقـته، بمثل ما كان عليه أن يتأقلم مع فكرة واجب أخلاقي يمليها عليه العقل أو الضمير أو الوازع الديني أو الطبيعي. وفي لحظة اصطدامه بها، كان على فعاليته أن تستحضر الجمعي والمجتمعي والإنساني بوصفها أبعادا أخرى لوجود الفردي والجزئي. لذلك بيئة الذكاء الإنساني هي نفسها البيئة المجتمعية والإنسانية التي توجه عمله من حيث هو ملكات وطاقات. وهذا أمر مفهوم بالنظر إلى أنه ذكاء إنساني؛ مرجعه الإنسان: هذا الكائن المشدود - بألـف خيط - إلى التاريخ؛ إلى الاجتماع الإنسانيّ وعلاقاتـه ومنظومات القيم التي تحْكـم سلوكه ومعايير سلوكه. لذلك كان الذّكاء الإنسانيّ يحْمل في جوف طاقته مضمونَه الإنسانيّ الذي يوجّه فعْله الخلاّق والمبدِع. وما أكثر الأشياء التي كان يسع ذكاء الإنسان أن يجتـرحها، لكنه أحجم عن ذلك لفقرها إلى مضمون إنساني وأخلاقي يسوغها ويشرعنها. أو لا يجوز حسبان الإحجام ذاك - هو نفسه - فعلا من أفعال الذكاء الإنساني؛ أعني الذكاء المحصَّـن بالقيم الموجهة التي تفتح أمامه مناطق حرة للفاعلية، وتردُّه عن أخرى لا تبدو - من وجهة نظر الخلقية الإنسانيّة - مشروعة؟
ليس الذكاء الاصطناعي، اليوم، من هذا الضرب لأنه - بكل بساطة - وسائـلي مجرد من كل غائيـة عليا ما خلا المنفعة بمعناها الذرائعي الصرف، لذلك هو مجعـول لأن يتخطى كل كابـح معنوي قد يَـحدُّ الطّاقة الانفجاريّة التي يكتنزها. ليس في هذه الماهية الفارغة للذّكاء الاصطناعيّ ما يسْتَغرب له لأنّه فعْـل مولّد يقع خارج الإنسان، أي في نطاق آليّ صرف له منطقه المتمايز عن منطق الكائن الإنسانيّ. لذلك يعمل نظام الذّكاء هذا خارج نطاق القيم وعلى نحو من العَماء والصَّمم تجاه كلّ شرط إنساني، فلا يَعْـقله وازع من خارجه على مثال إِعقال الذكاء الإنساني من قِـبل أنواع من الزواجر والروادع: الخارجية والداخلية معا. ولا تكْـمن المشكلة، على الحقيقة، في أن الذكاء الاصطناعي مرسل على نحو منفلت فيه من أي عقال - فتلك طبيعته بما هو فعْـل آلي - وإنّما هي كامنة في من يستبدل به الذكاء الإنساني فيفرضه بديلا مما منحه الإنسان من ملكات وطاقات طبيعية فيه! لقد كان يمكن الذكاء الاصطناعي أن يكون شيئا آخر لا يبعث على فعل النقد ولا على الشعور بالمخافة مما قد ينجم منه فيما لو سخـر لأهداف نبيلة، أي فيما لو حمل بوظيفة إنسانية؛ حيث سيكون - حينها- قد حمل بقيم تردع جموحَه وخروجَه عن حدود الإنساني. عندها، سيكون الذّكاء الاصطناعي خاضعا لإرادة الإنسان لا العكس: مخضعا إياها له على ما هو عليه أمره، اليوم، بين أيدي قوى المصالح الرأسمالية الكبرى في العالم.
على أن المعتقد المـرَوج عن تفوق الذكاء الاصطناعي على الذكاء الإنساني في القدرة على الأداء وفي مساحة الإبداعية محض فرضية لا دليل عليها. ربما كان قد شجع على مثل ذلك المعتقد معاينة كيف أمكن للحاسوب ديب بلو أن يهزم - في مباراة شطرنج - بطل العالم لهذه اللعبة كاسباروف في مواجهة في العام 1997؛ وهي الواقعة التي هلّـل لها وخلعت عليها هالة من السحرية، وظل طنينها يصم الآذان لربع قرن، مع أنّها تتعلق بمواجهة بين طرفين على أداء عمليات رياضية أو حسابية مجال الاجتهاد فيها هو إتقان حساب الاحتمالات؛ وفي هذا لا شك في أن عمل الكمبيوتر قوي ومنظم وناجع، وبالتالي، يمكن أن يضارع عمل العقل البشري، فيما هو سيظل عاجزا عن مضارعته في غير هذه الميادين التي تحتاج إلى طاقة الخيال والتوقع والحدس التي يملكها الإنسان دون الآلة. ومع أن وقائع جديدة سددت ضربة لهذه العقيدة التكنو-هندسية (آخرها هزيمة الذكاء الاصطناعي - تـشات جي بي تي- في «المنافسة» الفلسفية مع الإنسان)، إلا أن التمسك بها شديد من قبل أولئك الذين يدفعون البشرية المعاصرة نحو هذه العبودية الآلية الجديدة (عبوديّة الإنسان للآلة)، مغلفين هذه الغاية الشريرة بخطاب مديح للآلة وقدراتها الخارقة يـلمع سيرتها ويعـقد الآمال الجمعيـة عليها!
يكـثف الذّكاء الاصطناعي نتائج الثورة التكنولوجية الرابعة ويذهب بها إلى الأبعد: إلى السّيطرة الهندسيّة على الطبائع وإعادة تصنيعها واستبدالها بالقديمة. من البين أنه ما أريد بالذكاء الاصطناعي أن يحاكي الذكاء الطبيعي فيقوم بالعمل الإنتاجي نيابة عنه، فقط، بل أريد له أن يجاوز مجرد بـز الذكاء الطبيعي إلى تكريس تفـوقه عليه: تفـوقا لا في الأداء وسرعة الإنجاز والدقة فحسب، وإنما - أيضا - في القدرة الذاتية على تطوير نظامه من الداخل. وبمعزل عما إذا كان ذلك ممكنا أو في حكم الممتنع، فإن مجرد برمجة نظـم الذكاء الاصطناعي على تطوير ذاتها والارتفاع بقدرات ذلك الذكاء على مجاوزة حدود كـل توقُّـع إلى مستويات لا محدودة، هي (أي البرمجة) تفصح عن أخلاقـية لا إنسانية على الإطلاق؛ أخلاقية مبناها على تجريد الذكاء الاصطناعي من كل وازع أخلاقي، و«تحريره» من أي حوائل قيمية، والتشريع لحاكميّـته الوضـع البشري برمـته.
بمثل ما كان الذكاء الإنساني حـرا طليقا في عمله، لا تَحُـدُّه حوائل من ذاته سوى الحدود الطبيعية لطاقـته، بمثل ما كان عليه أن يتأقلم مع فكرة واجب أخلاقي يمليها عليه العقل أو الضمير أو الوازع الديني أو الطبيعي. وفي لحظة اصطدامه بها، كان على فعاليته أن تستحضر الجمعي والمجتمعي والإنساني بوصفها أبعادا أخرى لوجود الفردي والجزئي. لذلك بيئة الذكاء الإنساني هي نفسها البيئة المجتمعية والإنسانية التي توجه عمله من حيث هو ملكات وطاقات. وهذا أمر مفهوم بالنظر إلى أنه ذكاء إنساني؛ مرجعه الإنسان: هذا الكائن المشدود - بألـف خيط - إلى التاريخ؛ إلى الاجتماع الإنسانيّ وعلاقاتـه ومنظومات القيم التي تحْكـم سلوكه ومعايير سلوكه. لذلك كان الذّكاء الإنسانيّ يحْمل في جوف طاقته مضمونَه الإنسانيّ الذي يوجّه فعْله الخلاّق والمبدِع. وما أكثر الأشياء التي كان يسع ذكاء الإنسان أن يجتـرحها، لكنه أحجم عن ذلك لفقرها إلى مضمون إنساني وأخلاقي يسوغها ويشرعنها. أو لا يجوز حسبان الإحجام ذاك - هو نفسه - فعلا من أفعال الذكاء الإنساني؛ أعني الذكاء المحصَّـن بالقيم الموجهة التي تفتح أمامه مناطق حرة للفاعلية، وتردُّه عن أخرى لا تبدو - من وجهة نظر الخلقية الإنسانيّة - مشروعة؟
ليس الذكاء الاصطناعي، اليوم، من هذا الضرب لأنه - بكل بساطة - وسائـلي مجرد من كل غائيـة عليا ما خلا المنفعة بمعناها الذرائعي الصرف، لذلك هو مجعـول لأن يتخطى كل كابـح معنوي قد يَـحدُّ الطّاقة الانفجاريّة التي يكتنزها. ليس في هذه الماهية الفارغة للذّكاء الاصطناعيّ ما يسْتَغرب له لأنّه فعْـل مولّد يقع خارج الإنسان، أي في نطاق آليّ صرف له منطقه المتمايز عن منطق الكائن الإنسانيّ. لذلك يعمل نظام الذّكاء هذا خارج نطاق القيم وعلى نحو من العَماء والصَّمم تجاه كلّ شرط إنساني، فلا يَعْـقله وازع من خارجه على مثال إِعقال الذكاء الإنساني من قِـبل أنواع من الزواجر والروادع: الخارجية والداخلية معا. ولا تكْـمن المشكلة، على الحقيقة، في أن الذكاء الاصطناعي مرسل على نحو منفلت فيه من أي عقال - فتلك طبيعته بما هو فعْـل آلي - وإنّما هي كامنة في من يستبدل به الذكاء الإنساني فيفرضه بديلا مما منحه الإنسان من ملكات وطاقات طبيعية فيه! لقد كان يمكن الذكاء الاصطناعي أن يكون شيئا آخر لا يبعث على فعل النقد ولا على الشعور بالمخافة مما قد ينجم منه فيما لو سخـر لأهداف نبيلة، أي فيما لو حمل بوظيفة إنسانية؛ حيث سيكون - حينها- قد حمل بقيم تردع جموحَه وخروجَه عن حدود الإنساني. عندها، سيكون الذّكاء الاصطناعي خاضعا لإرادة الإنسان لا العكس: مخضعا إياها له على ما هو عليه أمره، اليوم، بين أيدي قوى المصالح الرأسمالية الكبرى في العالم.
على أن المعتقد المـرَوج عن تفوق الذكاء الاصطناعي على الذكاء الإنساني في القدرة على الأداء وفي مساحة الإبداعية محض فرضية لا دليل عليها. ربما كان قد شجع على مثل ذلك المعتقد معاينة كيف أمكن للحاسوب ديب بلو أن يهزم - في مباراة شطرنج - بطل العالم لهذه اللعبة كاسباروف في مواجهة في العام 1997؛ وهي الواقعة التي هلّـل لها وخلعت عليها هالة من السحرية، وظل طنينها يصم الآذان لربع قرن، مع أنّها تتعلق بمواجهة بين طرفين على أداء عمليات رياضية أو حسابية مجال الاجتهاد فيها هو إتقان حساب الاحتمالات؛ وفي هذا لا شك في أن عمل الكمبيوتر قوي ومنظم وناجع، وبالتالي، يمكن أن يضارع عمل العقل البشري، فيما هو سيظل عاجزا عن مضارعته في غير هذه الميادين التي تحتاج إلى طاقة الخيال والتوقع والحدس التي يملكها الإنسان دون الآلة. ومع أن وقائع جديدة سددت ضربة لهذه العقيدة التكنو-هندسية (آخرها هزيمة الذكاء الاصطناعي - تـشات جي بي تي- في «المنافسة» الفلسفية مع الإنسان)، إلا أن التمسك بها شديد من قبل أولئك الذين يدفعون البشرية المعاصرة نحو هذه العبودية الآلية الجديدة (عبوديّة الإنسان للآلة)، مغلفين هذه الغاية الشريرة بخطاب مديح للآلة وقدراتها الخارقة يـلمع سيرتها ويعـقد الآمال الجمعيـة عليها!