سؤال ممجوج ومكرور، متناول ومتداول، ولكن أعتقد أنّ مصيرنا أن نطرحه باستمرار ما دامت الكتابة، سؤالٌ موصول بجوهر القصديّة من فعل الكتابة في ظلّ تراجع دور الكتاب وهيمنة قوى تواصليّة بديلة وأنماطٍ في الكتابة تتخلّى تدريجيّا عن الوظائف التقليديّة لفعل الكتابة وطقوسها، سؤال وجوديّ معرفيّ طرحه عددٌ هامّ من الكُتّاب، وأجوبتهم اختلفت وتباينت. لماذا نلجأ إلى الكتابة؟ هل للتعبير عن معنى يحمله الكاتب ويرى أنّه يستحقّ أن يُشاركه بقيّة النّاس؟ هل هي الرغبةُ في التغيير بواسطة الكتابة، وإحلال الكاتب منزلة المُصلح الاجتماعي الذي يمتلك رؤية للواقع وللمقبل؟ هل لأنّ الكتابة هي تنفيس عن النفس الملأى بالعُقَد؟ هل لأنّ الكتابة تعطي صاحبها وجاهة اجتماعية؟ هل الكتابة بابٌ من أبواب تحصيل الأموال وهي شكل من أشكال مقاومة الفقر والحاجة؟ الكُتّاب -في رأي جورج أورويل- معتدّون بأنفسهم ويعانون المعاناة الكُبرى في مخاض الكتابة، «كلّ الكُتّاب معتزّون بأنفسهم وأنانيّون وكسالى، وفي قاع دوافعهم يكمن غموضٌ ما. تأليفُ كتابٍ هو صراع رهيب ومرهق، كما لو كان نوبة طويلة من مرض مؤلم. لن يُحاول المرء القيام بشيء كهذا أبدا لو لم يكن مدفوعا بشيطانٍ ما، هو ليس قادرا لا على مقاومته ولا فهمه، إذ إنّ الغريزة ذاتها قد تكون هي التي تجعل رضيعا يصرخ من أجل أن يحظى بالانتباه، ومع ذلك فمن الصحيح أنّه ليس بوسع المرء كتابة شيء مقروء إلاّ إذا كافح باستمرار لطمس شخصيّته ذاتها». معاناة أولى، وصراعٌ يخوضه الكاتب لأجل جلب الانتباه، وشدّ القُرّاء إليه.
ولقد أعادت ميريدث ماران صياغة عبارة شارلي شابلن التي خصّ بها الممثّلين في وصفها للكُتّاب، تعبيرا عن هذا الفعل: «الكُتّاب يبحثون عن الرفض، وإذا لم يحصلوا عليه، فإنّهم سوف يرفضون أنفسهم». لماذا إذن نكتب، إن كانت الكتابة لا تدرّ مالا، ولا شُهرة لأغلب الكتّاب، وهي في الآن ذاته معاناة ومشقّة؟ لا ريب أنّ تاريخنا العربيّ حافلٌ بإجابات عن سبب الدخول في الأدب، وأهمّ هذه الأجوبة تدور حول ثلاثة محاور، محور الكاتب الوصيّ أو الكاتب النبي، ويُمكن أن نُعاين ذلك في أدب أميّة بن أبي الصلت وزهير بن أبي سلمى، والتوحيدي وإخوان الصفا وغيرهما، وهو محورٌ تتعمّق فيه المظلوميّة، ونكران المجتمع للكاتب النبي، ومحور الكاتب الطالب الراغب في تحصيل القوت أو الرفاه الماديّ، وهو الحاصل في الصورة الأجلى مع المتنبي وأحمد شوقي والتوحيدي، ومحور الكاتب المستمتع بالكتابة، المعبّر عن وجوده بوساطتها، وأمثلة ذلك الجاحظ، وأبو نواس، وأعتقد أنّ هذه المحاور ما زالت تراوح مكانها إلى حدّ ما. في العصر الحديث الصورة أوضح، فقد تعرّض الكُتّاب بشكل مباشر إلى سؤال لماذا تكتب؟ في ما يكتبون أو في ما يتعرّضون إليه من حوارات صحفيّة، ولعلّي أشير هنا إلى كتابين هامّين أحدهما لجورج أورويل بعنوان «لماذا أكتب؟» وقد احتوى على مقالة معروفة له باشر فيها سؤال علّة الكتابة، وثانيهما كتابٌ جامع لحوارات مع عشرين كاتبا من الكُتّاب المعروفين، المقروءين كان السؤال الأساسيّ لماذا تكتب؟ وعنوانه «لماذا نكتب» وقد حرّرته ميريدث ماران. وقد أجمع أغلبهم على أنّ الكتابة هي جوهرهم، وأنّها الفضاء الذي يُمكن أن يتحقّقوا فيه. نسبةٌ أخرى من الكُتّاب ذهبوا إلى أنّ الكتابة هي ملاذهم أو هي المهنة التي يتقنون، فسو غرافتون، الروائيّة الأمريكية، التي تخصّصت في الرواية البوليسية، والتي تحتلّ صدارة الكُتّاب التي تُبَاع كُتبهم بشكل كبير، والتي تُرجمت إلى ما يقارب الثلاثين لغة، تقرّ أنّ ميلها للكتابة كان نتاج رفضها في عمل ترشّحت إليه، فوجدت نفسها في عالم الرواية، تقول: «أكتب لأنّني في 1962 قدّمت طلبا للعمل لدى سيرس في قسم الأطفال، ولم يعاودوا الاتّصال بي أبدا. أتكلّم على نحو جديّ: أكتب لأنّ هذا هو كل ما أتقن فعله».
نفس التوجّه تقريبا يذهب إليه جيمس فري «لست مؤهّلا حقّا لفعل أيّ شيء آخر. في هذه المرحلة، الكتابة جزء كبير من حياتي، إلى حدّ أنني لا أستطيع ألاّ أكتب. إذا لم أكتب سأُجنّ. وبصراحة: لديّ عائلة وأحتاج إلى المال». الجانب الثاني الذي لا يُثير الربح المالي أو الاضطرار إلى الكتابة، تمثّل في اقتران الكتابة بتحقيق الذات، أن تتّصل الكتابة بجوهر الإنسان، بكونه، بتحديد حياته، تقول إيزابيل الليندي، الروائيّة التشيلية، المقروءة بقوّة، المحتلّة رواياتها صدارة القراءة في العالم، سليلة الأدب الأمريكي اللاتيني: «أحتاج أن أروي قصّة، إنّه هاجس».
كلّ قصّة هي بذرة في داخلي، تنمو وتنمو، مثل ورم، ويجب عليّ أن أتعامل معها عاجلا أو آجلا. لماذا قصّة بعينها؟ لا أعرف ذلك حينها أبدا. ولكنّي أتعلّم ذلك لاحقا. على مرّ السنين اكتشفاُ بأنّ كل القصص التي رويتها، كلّ القصص التي سأرويها على الإطلاق، مرتبطة بي بشكل أو بآخر»، تتعلّق الكتابة بالكون، بالوجود، بالتحقّق، بتحقيق الكيان. هؤلاء يكتبون لأنّهم يُقايضون الحياة، لأنّهم وُهبوا عالمين، عالم العيان وعالم الخيال، أمّا في كون العيان فهم غرباء ومغتربون، هم كـ«صالح في ثمود»، وأمّا في عالم الخيال، فهم يُقيمون كونهم، يقتلون الأشرار، يحييون الأخيار، يصنعون الآلام، يأسرون الأحرار، يطلقون الأقياد، يفعلون ما يريدون وما يشتهون، ينسخون الواقع أو يُبيدونه، أحرار في عوالمهم، أغيار في عالم أُكرهوا على الوجود فيه. وجهة تحقيق الكيان موصولة بأنّ الكتابة قدرٌ، أو هي حاجة بيولوجية مثل الأكل والنوم، أو هي مفروضة على الكاتب وأنّ شيطانا تلبّسه، لا يقدر أن ينفصل عنه، هي أسطورة قديمةٌ دالّة على أنّ الميل إلى الكتابة طبيعيّ، وأنّ قوّة قاهرة تتسلّط على الإنسان لتأسره في فضاء الكتابة، وهي الفكرة الجامعة لأغلب آراء الكُتّاب، وخاصّة أولئك الذين يربطون كونهم بفعل الكتابة، الفعل القهري، والمخدّر الأبديّ، وهو الخطّ الذي يسير فيه الكاتب الأمريكي، ديفيد بالداتشي الذي تدرّ عليه رواياته أموالا هامّة، إذ هو من الذين تُباع كُتبهم بشكل لافت، فقد فاقت مبيعاته 110 ملايين نسخة، وهو مترجم إلى 45 لغة، ومقروء في 80 دولة في العالم، يقول: «لو كانت الكتابة جريمة، لكنت الآن في السجن، لا يُمكن ألاّ أكتب، فالكتابة قهريّة».
عددٌ قليلٌ جدا من الكُتّاب في العالم تدرّ عليهم الكتابة دخلا يُمكنّهم من الاكتفاء به عن غيره، عددٌ قليلٌ جدّا من الكُتّاب الذين تمتّعوا بِنِعَم ما يكتبون ماديّا، ولذلك فإنّ اعتماد الكتابة علّةً لتحصيل المال لا يُشكّل سببا جوهريّا، وإن كان هنالك من يقرّ بذلك، ويعتمده عيارا. لماذا أثرت هذا الموضوع، ووقفت على قلّة من الكُتّاب العالميين الذين لم يحصلوا بالضرورة على نوبل أو على جوائز هامّة، ولكنّ الكتابة تدرّ عليهم أموالا كبرى؟ لأنّي أردت أن أجد جوابا صادقا عتد الكُتّاب العرب، والغالبية العظمى منهم لا يُحصّل من الكتابة فلسا، فإن ظفر به فلا يكفيه مؤونة يومه. الكتابة في الوطن العربي موصولة فعلا بفعل الوجود، باعتقاد إصلاح الكون، برغبة الكتابة، باعتقاد النبوّة. أعرف الكثير من الكُتّاب الحقيقيين الذين لم ينشروا سطرا، ولم تتقبّلهم دور النشر، وأعرف الكثير ممّن ينفق على نشر كتبه من جيبه دون أن يستردّ درهما، فالسؤال الآن حقيقيّ وحارق في ظلّ استثراء كُتّاب مواقع التواصل، وفي ظلّ كتابة بديلة تنسف علاقة الكاتب التقليدي بروح الكتابة وطقوسها؟
ولقد أعادت ميريدث ماران صياغة عبارة شارلي شابلن التي خصّ بها الممثّلين في وصفها للكُتّاب، تعبيرا عن هذا الفعل: «الكُتّاب يبحثون عن الرفض، وإذا لم يحصلوا عليه، فإنّهم سوف يرفضون أنفسهم». لماذا إذن نكتب، إن كانت الكتابة لا تدرّ مالا، ولا شُهرة لأغلب الكتّاب، وهي في الآن ذاته معاناة ومشقّة؟ لا ريب أنّ تاريخنا العربيّ حافلٌ بإجابات عن سبب الدخول في الأدب، وأهمّ هذه الأجوبة تدور حول ثلاثة محاور، محور الكاتب الوصيّ أو الكاتب النبي، ويُمكن أن نُعاين ذلك في أدب أميّة بن أبي الصلت وزهير بن أبي سلمى، والتوحيدي وإخوان الصفا وغيرهما، وهو محورٌ تتعمّق فيه المظلوميّة، ونكران المجتمع للكاتب النبي، ومحور الكاتب الطالب الراغب في تحصيل القوت أو الرفاه الماديّ، وهو الحاصل في الصورة الأجلى مع المتنبي وأحمد شوقي والتوحيدي، ومحور الكاتب المستمتع بالكتابة، المعبّر عن وجوده بوساطتها، وأمثلة ذلك الجاحظ، وأبو نواس، وأعتقد أنّ هذه المحاور ما زالت تراوح مكانها إلى حدّ ما. في العصر الحديث الصورة أوضح، فقد تعرّض الكُتّاب بشكل مباشر إلى سؤال لماذا تكتب؟ في ما يكتبون أو في ما يتعرّضون إليه من حوارات صحفيّة، ولعلّي أشير هنا إلى كتابين هامّين أحدهما لجورج أورويل بعنوان «لماذا أكتب؟» وقد احتوى على مقالة معروفة له باشر فيها سؤال علّة الكتابة، وثانيهما كتابٌ جامع لحوارات مع عشرين كاتبا من الكُتّاب المعروفين، المقروءين كان السؤال الأساسيّ لماذا تكتب؟ وعنوانه «لماذا نكتب» وقد حرّرته ميريدث ماران. وقد أجمع أغلبهم على أنّ الكتابة هي جوهرهم، وأنّها الفضاء الذي يُمكن أن يتحقّقوا فيه. نسبةٌ أخرى من الكُتّاب ذهبوا إلى أنّ الكتابة هي ملاذهم أو هي المهنة التي يتقنون، فسو غرافتون، الروائيّة الأمريكية، التي تخصّصت في الرواية البوليسية، والتي تحتلّ صدارة الكُتّاب التي تُبَاع كُتبهم بشكل كبير، والتي تُرجمت إلى ما يقارب الثلاثين لغة، تقرّ أنّ ميلها للكتابة كان نتاج رفضها في عمل ترشّحت إليه، فوجدت نفسها في عالم الرواية، تقول: «أكتب لأنّني في 1962 قدّمت طلبا للعمل لدى سيرس في قسم الأطفال، ولم يعاودوا الاتّصال بي أبدا. أتكلّم على نحو جديّ: أكتب لأنّ هذا هو كل ما أتقن فعله».
نفس التوجّه تقريبا يذهب إليه جيمس فري «لست مؤهّلا حقّا لفعل أيّ شيء آخر. في هذه المرحلة، الكتابة جزء كبير من حياتي، إلى حدّ أنني لا أستطيع ألاّ أكتب. إذا لم أكتب سأُجنّ. وبصراحة: لديّ عائلة وأحتاج إلى المال». الجانب الثاني الذي لا يُثير الربح المالي أو الاضطرار إلى الكتابة، تمثّل في اقتران الكتابة بتحقيق الذات، أن تتّصل الكتابة بجوهر الإنسان، بكونه، بتحديد حياته، تقول إيزابيل الليندي، الروائيّة التشيلية، المقروءة بقوّة، المحتلّة رواياتها صدارة القراءة في العالم، سليلة الأدب الأمريكي اللاتيني: «أحتاج أن أروي قصّة، إنّه هاجس».
كلّ قصّة هي بذرة في داخلي، تنمو وتنمو، مثل ورم، ويجب عليّ أن أتعامل معها عاجلا أو آجلا. لماذا قصّة بعينها؟ لا أعرف ذلك حينها أبدا. ولكنّي أتعلّم ذلك لاحقا. على مرّ السنين اكتشفاُ بأنّ كل القصص التي رويتها، كلّ القصص التي سأرويها على الإطلاق، مرتبطة بي بشكل أو بآخر»، تتعلّق الكتابة بالكون، بالوجود، بالتحقّق، بتحقيق الكيان. هؤلاء يكتبون لأنّهم يُقايضون الحياة، لأنّهم وُهبوا عالمين، عالم العيان وعالم الخيال، أمّا في كون العيان فهم غرباء ومغتربون، هم كـ«صالح في ثمود»، وأمّا في عالم الخيال، فهم يُقيمون كونهم، يقتلون الأشرار، يحييون الأخيار، يصنعون الآلام، يأسرون الأحرار، يطلقون الأقياد، يفعلون ما يريدون وما يشتهون، ينسخون الواقع أو يُبيدونه، أحرار في عوالمهم، أغيار في عالم أُكرهوا على الوجود فيه. وجهة تحقيق الكيان موصولة بأنّ الكتابة قدرٌ، أو هي حاجة بيولوجية مثل الأكل والنوم، أو هي مفروضة على الكاتب وأنّ شيطانا تلبّسه، لا يقدر أن ينفصل عنه، هي أسطورة قديمةٌ دالّة على أنّ الميل إلى الكتابة طبيعيّ، وأنّ قوّة قاهرة تتسلّط على الإنسان لتأسره في فضاء الكتابة، وهي الفكرة الجامعة لأغلب آراء الكُتّاب، وخاصّة أولئك الذين يربطون كونهم بفعل الكتابة، الفعل القهري، والمخدّر الأبديّ، وهو الخطّ الذي يسير فيه الكاتب الأمريكي، ديفيد بالداتشي الذي تدرّ عليه رواياته أموالا هامّة، إذ هو من الذين تُباع كُتبهم بشكل لافت، فقد فاقت مبيعاته 110 ملايين نسخة، وهو مترجم إلى 45 لغة، ومقروء في 80 دولة في العالم، يقول: «لو كانت الكتابة جريمة، لكنت الآن في السجن، لا يُمكن ألاّ أكتب، فالكتابة قهريّة».
عددٌ قليلٌ جدا من الكُتّاب في العالم تدرّ عليهم الكتابة دخلا يُمكنّهم من الاكتفاء به عن غيره، عددٌ قليلٌ جدّا من الكُتّاب الذين تمتّعوا بِنِعَم ما يكتبون ماديّا، ولذلك فإنّ اعتماد الكتابة علّةً لتحصيل المال لا يُشكّل سببا جوهريّا، وإن كان هنالك من يقرّ بذلك، ويعتمده عيارا. لماذا أثرت هذا الموضوع، ووقفت على قلّة من الكُتّاب العالميين الذين لم يحصلوا بالضرورة على نوبل أو على جوائز هامّة، ولكنّ الكتابة تدرّ عليهم أموالا كبرى؟ لأنّي أردت أن أجد جوابا صادقا عتد الكُتّاب العرب، والغالبية العظمى منهم لا يُحصّل من الكتابة فلسا، فإن ظفر به فلا يكفيه مؤونة يومه. الكتابة في الوطن العربي موصولة فعلا بفعل الوجود، باعتقاد إصلاح الكون، برغبة الكتابة، باعتقاد النبوّة. أعرف الكثير من الكُتّاب الحقيقيين الذين لم ينشروا سطرا، ولم تتقبّلهم دور النشر، وأعرف الكثير ممّن ينفق على نشر كتبه من جيبه دون أن يستردّ درهما، فالسؤال الآن حقيقيّ وحارق في ظلّ استثراء كُتّاب مواقع التواصل، وفي ظلّ كتابة بديلة تنسف علاقة الكاتب التقليدي بروح الكتابة وطقوسها؟