كان يمكن لهيئة البيئة لو أنها اعتبرت ما حصل في مردم «هصاص» بولاية سمائل تلوثا بيئيا حقيقيا أن تعلن حالة الطوارئ وتبدأ العمل بما يتفق مع الحالات الطارئة التي يتم الكشف فيها عن تلوث خطر يتعدى خطره تلوث التربة إلى الخطر المباشر على حياة البشر وبقية الكائنات الحية.. لكنّ الواضح أن الهيئة -التي زار فريق منها الموقع منتصف مايو الماضي بعد نشر جريدة عمان تحقيقا عن التلوث الحاصل في المردم- لم تقيّم ما حصل في المردم على أنه «تلوث خطر» رغم أن المعلومات التي حصلت عليها الجريدة تؤكد أن بعض أعضاء الفريق الذي زار الموقع تعرض لوعكة صحيحة منعته حتى من الدوام في اليوم التالي للزيارة. تحويل القضية إلى جهات التحقيق شيء والتعامل معها بوصفها «تلوثا خطرا» يستدعي خطة طوارئ تصحيحية شيء آخر، وإذا كان الإجراء الأول قد بدأ وفق بعض التأكيدات، إلا أن التعامل مع الخطر الموجود على الأرض والذي يمكن أن يتسبب في خطر أكبر -إن لم يكن قد حدث ذلك بالفعل- لم يبدأ حتى لحظة نشر هذا التحقيق، رغم مضي شهرين ونصف الشهر على نشر التحقيق الأول ومرور 7 أشهر من تأكيد الهيئة معرفتها بما حدث، ورغم أن البعض قال: الهيئة تعرف الموضوع من شهر نوفمبر الماضي.. الأمر الذي يطرح الكثير من علامات الاستفهام حول آلية التعامل مع حالة تلوث خطرة مثل هذه التي يمكن أن تكون تدريبا حقيقيا للجاهزية عند حدوث خطر أكبر في المستقبل، لا قدر الله.

ورغم أن الهيئة حسب بيان نشرته على حسابها في تويتر مايو الماضي، قالت إنها اتخذت إجراءات مناسبة وحررت محاضر مخالفات بيئية ضد الجهات المتسبّبة وألزمتها بتصحيح الوضع البيئي خلال مدة زمنية محددة، إلا أن شيئا من ذلك لم يحدث حتى الآن، الأمر الذي يزيد من خطر وصول تلك المواد الخطرة إلى التربة، وزار فريق التحقيقات الاستقصائية بجريدة (عمان) الموقع عدة مرات بعد نشر التحقيق الماضي، ووجد أن المواد الخطرة التي رصدها في المرة الماضية ما زالت مكانها دون أي معالجة.. كما وجد أن معدّة تابعة لبلديات الداخلية تعمل في الموقع وتقوم بتسوية ومعالجة المواد الصلبة في الموقع عبر ردمها في التراب.

بلديات الداخلية توضح

وبعد رصد إحدى المعدات التابعة لبلديات محافظة الداخلية تعمل في الموقع تواصلت الجريدة مع بلديات الداخلية، وأكد المهندس سالم بن حميد الشبلي مدير عام بلديات الداخلية أن البلدية تقوم بما تم الاتفاق عليه مع هيئة البيئة، ألا وهو القيام بعملية معالجة المردم، فيما يخص المخلفات الصلبة «الهدم والبناء» الموجودة بموقع المردم وإحكام الغلق بعمل حاجز ترابي حول المنافذ المؤدية إليه، وهو مردم قديم ينبغي على شركة بيئة استلامه ضمن المرادم التي أحيلت إليها لاستلامها ومعالجتها بعد استلام القطاع قبل سنوات، علما أن العملية -التي تقوم بها البلدية في المردم- لم تتعرض للنفايات الخطرة، وهي ـ أي النفايات الخطرة ـ متابعة من قبل إدارة البيئة في محافظة الداخلية حتى يتم التعامل معها من قبل شركة متخصصة في معالجة النفايات الخطرة والمختصين لديها ومتابعة مستمرة للموقع، وعليه فإن البلدية تقوم بالدور المطلوب منها فقط.

رد هيئة البيئة

وقال الدكتور محمد بن سيف الكلباني، مدير عام الشؤون البيئية بهيئة البيئة إن هيئة البيئة ومن خلال الزيارات الميدانية الدورية، فقد تلاحظ وجود نفايات خطرة بداية شهر فبراير من العام الجاري في مردم هصاص بولاية سمائل، وباشرت فوراً بعمل زياراتها الميدانية ولقاءاتها مع الشركات المتعاملة مع هكذا نوع من أنواع النفايات الخطرة المتواجدة في المحافظة. كما قامت باتخاذ الإجراءات اللازمة مع الجهات المعنية المسؤولة عن المردم. وقد حددت هيئة البيئة ركائز رئيسية للتعامل مع هذه القضية عبر 3 محاور وهي الأول البحث والاستقصاء عبر الدلائل الفنية والتخصصية لمعرفة الجاني والتوصل اليه أو التوصل إلى ما يدل عليه، والمحور الثاني يتمثل في معرفة حدود التلوث وآثاره على البيئة المحيطة من تربة ومياه جوفية، بينما تمثل المحور الثالث في تحديد أفضل الطرق لمعالجته عبر الشركات المتخصصة.

وتحقيقاً لذلك فقد باشر المختصون زياراتهم للموقع منذ شهر فبراير، وعقد لقاءات مع الجهات العامة والخاصة ذات العلاقة، وتلي ذلك زيارة قام بها عدد من المسؤولين على رأسهم سعادة الدكتور رئيس الهيئة إلى الموقع، والاطلاع على مختلف أبعاد التلوث، وأيضا الاستماع من المختصين للحيثيات والتفاصيل الفنية، كما تم تشكيل فريق عمل برئاسة مدير عام الشؤون البيئية وعضوية عدد من المديرين والمختصين من هيئة البيئة لجمع العينات وفحصها وجمع الدلائل والقرائن وجمع البيانات من الشركات المنتجة والمتعاملة والربط فيما بينها وبين بيانات أخرى لتبيان دقتها من عدمه.

كما قام الفريق بزيارات عديدة لمختلف مرافق الإنتاج والتعامل والتخزين المتعاملة مع هكذا نوع من أنواع النفايات الخطرة وحصر جميع الكميات المنتجة خلال الأعوام الخمسة المنصرمة إلى لحظة التخلص النهائي منها، وبالتالي تقدير الفاقد غير المعالج. كما قام الفريق بتحليل نتائج الفحص المخبري للعينات المجمعة من مختلف المواقع ومقارنتها، وكذلك مقارنة أدوات وطرق التعامل معها، بالإضافة إلى العديد من التحليلات الفنية التخصصية التي لا يتسع المقام لذكرها. وقد انتهى هذا التمحيص الفني وخلص إلى تقرير فني متكامل وتمت إحالته إلى الجهات القانونية لاستكمال إجراءاتها في هذا الجانب.

وأضاف: هيئة البيئة وبالتعاون مع الجهات الحكومية المختصة ، قامت بجمع عدد من العينات من مختلف الأوساط البيئية في المناطق المجاورة للمردم ، والتي من ضمنها جمع عينات مياه من عدد من الإفلاح والآبار في المنطقة ، وإجراء الفحوصات المخبرية اللازمة، والتي ثبت خلوها من أي تلوث، حيث ان جميع العناصر التي تم تحليلها جاءت وفق المواصفات الوطنية المعتمدة ولله الحمد.

وفي محور معالجة التلوث الحاصل في المردم، فقد استدعت الهيئة الشركات الوطنية المتخصصة في معالجة هذا النوع من أنواع التلوث وزارت معها الموقع ، وعملت الشركات بعد ذلك على تقديم مقترحاتها وعروضها من حيث طريقة وموقع المعالجة والكلف المالية المطلوبة لتنفيذها. وقامت الهيئة برفع العروض المقدمة إلى الجهات المالية المختصة وتعمل حاليا على دراسة العروض تمهيدا لاختيار الأنسب، وستباشر الهيئة أعمال معالجة هذه الكارثة البيئية فور توفر الاعتماد المالي مباشرة بإذن الله تعالى. كما نوه الدكتور مدير عام الشؤون البيئية إلى أن هيئة البيئة تعمل حالياً على استحداث منظومة تشريعية متكاملة لقطاع إدارة النفايات من بينها مسودة مشروع قانون إدارة النفايات والذي سوف يركز على النفايات الخطرة وغير الخطرة، بالإضافة إلى تحديث لائحة إدارة المخلفات الخطرة، ولائحة إدارة المخلفات غير الخطرة ، وذلك مواكبة لمستهدفات رؤية عُمان ٢٠٤٠ في مجال تحديث التشريعات والقوانين. بالإضافة إلى إعداد اللوائح البيئية ذات العلاقة بإعادة تدوير النفايات تشجيعاً لقيام المشاريع في هذا المجال تحقيقاً للاقتصاد الدائري واستدامة الموارد الطبيعية.

وفي سؤال: من المسؤول عن تعويض أصحاب المواشي التي نفقت في موقع هصاص بسمائل جراء المخلفات الخطرة؟ قال: بحسب قانون حماية البيئة ومكافحة التلوث فإن أي متسبب في تلوث البيئة ومفرداتها يتحمل المسؤولية بالكامل، في أي أضرار أو الحاق ضرر سواءً على البيئة والموارد الطبيعية أو المجتمع يتحملها الملوث نفسه بكافة مترتباتها وتكاليفها.

المركّبات النفطية

وقال الدكتور جمال بن ناصر الصباحي، مسؤول مختبر الأجهزة المركزي: بعض المركّبات النفطية الأروماتية أحادية الحلقة «مثل البنزين والتولينن» التي تعرف بعضها بذائبيتها في الماء، تصنف من المركّبات التي قد تسبب ضررا بصحة الإنسان والكائنات المحيطة والإخلال بالتوازن البيئي، وفي حالة وجود تربة عالية النفاذية تأخذ هذه المواد الذائبة مسارها إلى المياه الجوفية، وتسبب تدهورا في المخزونات المائية من خلال التأثير على جودتها، كذلك يُعرف عن هذه المواد ضغطها البخاري العالي الذي يسهم بشكل مباشر في التلوث الهوائي، كذلك تساهم هذه المواد في التأثير السلبي على الرقعة الزراعية المحيطة بالأودية مع اعتماد تلك المزارع على المخزونات الجوفية المجاورة، فقد تتم ملاحظة بعض من المركّبات الضارة على المدى البعيد في حالة استمرار ذلك المصدر وعدم اتخاذ حلول مناسبة لحل تلك المشاكل.

طرق المعالجة

وأوضح الصباحي: قبل التطرق لآليات المعالجة ينبغي اتباع التشريعات الصادرة عن الجهات الحكومية المختصة حول آلية التعامل مع المخلفات الخطرة التي تتمثل في رسم خارطة عمل واضحة لها من حيث الشروط الواجب توافرها في المنشأة لتقليل النفايات والانبعاثات الضارة والطرق المناسبة للتجميع والنقل والتخزين وطرق المعالجة مع الأخذ في الاعتبار عدم المساس بالمصادر الطبيعية القابلة للنضوب أو التدهور المباشر للتربة والبيئة المحيطة ومصادر المياه باختلافها، وهناك عدة طرق لمعالجة التُربة والمياه منها الطرق الفيزيائية والطرق الحيوية المعتمدة على استخدام أنواع معينة من الكائنات الحية الدقيقة أو باستخدام أنواع معينة من النباتات غير مدرجة في التسلسل الغذائي للإنسان تعمل على شقين، هما المعالجة من خلال تكسير تلك المركبات أو تخزينها، إضافة إلى أن هناك أيضا المعالجة الكيميائية التي يعتمد بعضها على استخدام طرق الأكسدة المتقدمة مثل استخدام المحفزات أو استخدام الأشعة فوق البنفسجية مع بعض المحفزات مثل ذرات الحديد أو التنظيف باستخدام مذيبات معينة وهذا طبعا مكلف، كذلك هناك مبادرات عالمية في استخدام تقنية النانو التي تعتبر واعدة في مجال المعالجة البيئية.

مخاطر الردم

وأشار الصباحي إلى أن ردم المخلفات بشكل عام في منطقة قد تصنف بارتفاع معدل تساقط الأمطار مع وجود تربة ذات نفاذية عالية قد تقلل التوازن البيئي وتعمل على تعقيد وضع حلول علاجية ناجعة، كذلك تصنف بعض التربة بقابليتها لعمل رابطة قوية مع بعض المركبات التي قد يصعب إزالتها بسهولة عوضا عما ذكرناه سابقا، فإن لتلوث التربة والمياه والإخلال بالتوازن البيئي بما تحويه التربة من كائنات حية دقيقة نافعة تعزز النمو النباتي أو نباتات رعوية قد تكون ملوثة بهذه المواد تتغذى عليها بعض الحيوانات التي يعتمد عليها الإنسان في غذائه، كما تؤثر على بعض الطيور والحيوانات البرية عالية الحساسية لمصادر التلوث .

وأكد مسؤول المختبر المركزي بكلية العلوم الزراعية والبحرية بجامعة السلطان قابوس أن سلطنة عمان أعلنت عام 1986م عن الاستراتيجية الوطنية لحماية البيئة العمانية التي تهدف إلى حماية البيئة وتقييم وإدارة التلوث، بالإضافة إلى إيجاد الحلول المناسبة وتطبيقاتها وسن التشريعات والإجراءات الوقائية والرقابية والجزائية المتعلقة بذلك، وقد صدرت بعض المراسيم السلطانية منها المرسوم السلطاني رقم «114/ 2001» المتعلق بإصدار قانون حماية البيئة ومكافحة التلوث .

أصحاب المواشي

تواصلت « عمان » مع أصحاب المواشي الواقعة عزبهم بالقرب من مردم «هصاص» بولاية سمائل الذين أكدوا أنهم تقدموا برسالة إلى هيئة البيئة حول مطالباتهم بالتعويض عن رؤوس المواشي التي فقدت في المردم منذ مايو الماضي، إلا أنهم لم يتلقوا ردا حول تلك المطالبات من الهيئة حتى اليوم.

إن المسار القانوني في هذه القضية رغم أهميته، إلا أنه ليس العلاج الحقيقي للمشكلة الحاصلة الآن، قد يمنع المسار القانوني تكرار مثل هذه التجاوزات ولكن التجاوز الذي حصل يحتاج إلى علاج فوري يحمي التربة ويحمي المياه الجوفية وفي المحصلة يحمي الإنسان الذي يسكن قريبا من المحيط الذي حصل فيه التجاوز . إضافة إلى ذلك، فإن الكثير من الأسئلة ستبقى تعيد طرح نفسها سواء حول خطط الطوارئ للتعامل مع مثل هذه القضايا الخطرة أو حول التعامل مع الخطر/ التلوث لحظة وقوعه والعلم به وليس عندما يتحول إلى قضية رأي عام.. فحياة الناس دائما هي الأهم.