إحدى اللحظات الحاسمة في حياتي، هي قراري بأن أترك عملي (قبل ما يُقارب الأربع سنوات الآن)، بكل ما يُوفره لي من استقرارٍ وأمان اقتصادي، وأعود للدراسة. وهو قرار - كما لكم أن تتخيلوا- ينطوي على مخاطرة كبيرة، خصوصا إن كان المرء يُخطط لدراسة تخصص قد يُغير مساره الوظيفي بأكمله. أتذكر أن صديقا سألني: «لكن لماذا الآن تحديدا؟»، فأجبت «إما الآن أو لا.»، ما جعله يُعيد سؤاله: لكن لماذا الآن تحديدا؟

مهما كنت تتجنب خطابات تطوير الذات «المُحفزة» التي تكتسح كل مساحة تعبيرية افتراضية كانت أم واقعية، فإنها تجد طريقها إليك.

تقوم هذه الصناعة على مجموعة من المسلّمات، وتزعم القدرة على اقتراح حلول سهلة لأكثر مشاكلنا تعقيدا. المسلّمة الأهم هي أنك أنت من يصنع قدرك، وأن كل ما مررت به (من إهمال، أو هجر، أو اعتداء، أو عنف، أو أيا من صدمات الطفولة الأخرى)، أو تمر به اليوم من عدم رضا عن حياتك المهنية أو الأسرية، هو مسؤوليتك الشخصية. مع التشديد على مسألة «عدم الرضى» هنا؛ لأن الأساس الذي يقوم عليه مجال التنمية البشرية، قليلا ما يفترض خطأ في النظام. وبالتالي فوظيفة المدرب ليس نقد النظام، وإنما مساعدتك، ليس لتنجو فقط بل لتنجح، لتصل إلى القمة. الوصول إلى القمة من عدمه يعود بالكامل لك، خيار تغيير حياتك للأفضل يعود لك، أن تُغيرها الآن أو بعد عام يعود لك. مع التشديد أيضا على لفظة «الخيار». إذ ليس علينا أن نُشغل بما إذا كنت في موضع أقل حظا، إن ما يُهم هو كيف تتعامل مع الأمر. وأن تتخذ «خيارتك» الآن دون أي إرجاء. حتى لو كان ما عليك التعامل معه هو السرطان، فالمطلوب منك أن تكافح بشراسة، وتكون المثال الحي بأن لا شيء يُمكنه الوقوف عقبة أمامك.

مسلّمة أخرى تقوم عليها هذه الصناعة هو كون «الآخرين» يرجون لك السوء، وأن عليك أن تتجاوزهم، لتُحقق أهدافك. وفق هذه السردية ثمة دائما «آخر»، وهذا الآخر، هو شخص (مديوكر) على الأغلب، قليل الموهبة والطموح، ويُريد أن يراك تفشل. وأن الحل لتجاوز هذه العقبة (أي الآخرين) هي بأن لا تستمع لما يقولون، لا تريهم ضعفك، وأن تؤمن أنك قادر على فعل شيء ما (أيا يكن) مهما قالوا بعكس ذلك، حتى وإن عنى هذا أن تكون وحيدا، فبعد كل شيء ليس في القمة متسع إلا لشخص واحد، أو كما يُقال «it›s lonely at the top». تنطوي هذه السردية ضمنيا على الآتي: أولا، ثمة فروق بين الناس، وهذه الفروق تُحدد ما يستحقون. ثانيا، على المرء أن يعمل على الحصول على أكبر قدر من النجاحات والسلطة، حتى وإن كان الطريق إليها يعني خسارة من حوله.

تفكير كهذا مُشكل لعدة أسباب. أولا، فيه عدم اعتراف بأن تصورات الآخرين عنا، وآراءهم حولنا تؤثر عميقا فينا. الاعتراف بهذا يُشكل الخطوة الأولى لفهم مشاعرنا، ولنعرف كيف نتعامل معها على النحو السليم لتحقيق الصحة النفسية.

ثانيا، القول بهذا يضع على كواهلنا العبء الكامل للتعامل مع المواقف التي يجد فيها المرء نفسه محل نقد، أو حتى محل إساءة. ثالثا، تتجاهل مثل هذه الدعوات - في أكثر صورها تطرفا- الفرصة الكامنة للنمو عبر ما يمنحه الآخرون من ملاحظات حول العمل الذي نقوم به، أو حتى سلوكنا بشكل عام.

رابعا، يدفعنا التصديق بأن الآخرين يريدون فشلنا لأن نكون قساة معهم، خصوصا أولئك الذين لا نعرفهم بما يكفي. ويضعنا في موضع المتنبّه للدفاع عن نفسه أمام أي هجوم.

أود - فوق هذا- أن أسأل عن أي آخر تُرانا نتحدث؟ ولماذا نفترض أن ثمة آخر يُفكر بغير ما نفكر به، ويشعر على نحو مختلف عما نشعر به.

يُغذي بعض المدربين مشاعر جمهورهم من خلال التنافسية الكامنة التي توجد على نحو طبيعي لدى البشر، ويؤكدون أن النجاح هو لثلة قليلة. بالطبع، إذا ما نظر المرء إلى طبيعة الأشياء فإنه يتأكد من انعدام العدالة، لكن عوضا عن محاولة تغيير العالم، يُوجه الاهتمام إلى منطقة أخرى: كيف تنجو في عالم متوحش كهذا؟ إن كنت متلقيا للظلم، أو متعرضا للتهميش أو الاستغلال في حياتك اليومية، فتطوير الذات يمنحك أملا بأن تكون في مكانة أخرى تُنجيك من هذا. لكن الخطورة تكمن في أنك تحاول مرارا، وكلما فشلت فكرّت بأن هذا يعود إلى أنك لا تحاول بما يكفي، دون أن تتفطن إلى العقبات التي لا يمكن تجاوزها مهما اجتهد المرء؛ لأنها تتعلق بالطريقة التي تُسير فيها الأمور، أكثر من تعلقها بك.

لماذا الآن تحديدا؟ شخصيا، لا أصدق أن مسألة تغيير الحياة تعود لشجاعتنا في اتخاذ القرارات. بالطبع للأمر علاقة بأنها فكرة التغيير (تغيير العادات، أو الوظيفة، أو الارتباط والانفصال) تلازمك لفترة طويلة، إلا أن بعض الظروف التي يُمكن أن ترى -أحيانا- على أنها هامشية تدفعك دفعا نحو هذا القرار.

اليوم عندما أفكر في ذلك القرار البعيد الذي اتخذته قبل أربع سنوات، أرى أنه حتمي ولم يحمل من الشجاعة فعليا إلا القدر القليل.