(1)
النَّوم تفَّاحة الفردوس، مراجعات الأب والأم في الأعالي البعيدة، خطايا الأشقَّاء والشَّقيقات في طريقهم إلى البرزخ والنَّعيم القريبين، مرورهما الرسمي على الإثم الواقع في آخر الأرض من باب العار الاحتياطي (وليس من حقِّي العتاب، ولا من واجبي اللوم، والسُّكوت من شِيَمِي التَّظاهريَّة، والصَّمت احتجاجي. «بل أكثرهم لا يعقلون» [«العنكبوت»]).
(2)
أشعر أحيانا بالرَّغبة مُتَدَفِّقةً في كتابة حلقة من «أنساغ» تتكوَّن بالكامل من اقتباسات أحبُّها من كُتَّاب ومبدعين؛ لكن من دون ذكر أسمائهم، بل الاكتفاء بعلامات التَّنصيص؛ فمثلا أكتب بيتا لطَرفة بن العبد من «المُعَلَّقَة»، وأضيف إليه مقاطع من جون كيتس، ثم أضع عبارة تَعْتَعَها إدغر ألن بو في حانة، وأجوِّد ذلك بشيء من قصائد بابلو نيرودا في المنفى، أو عبارة من أندريه تاركوفسكي يضمُّها كتاب يحتوي على حوارات معه أقرؤه اليوم، وأضيف إلى ذلك رابطا إلكترونيَّا يفضي إلى مشهد من أحد أفلام سيرغي بارادجانوف (أحبُّذ أن يكون «لون الرُّمان»، أو «خيول النَّار أو ظِلالُ أسلاف منسيِّين»)، إلخ..
يا للأسف، أنا محدود جدا إذ لا أتمكن من ذلك، ولا أستطيع أن أكون.
في كل رغبة ليس هناك سوى الأسف.
(3)
إنها تمطر، فلا تستمع إلى أحد، ولا تحدِّث أحدا (كل من يحدِّث الآخرين أو يستمع لهم لن يتبلَّل).
(4)
أيها العصفور: خافقي أضأل من جناحك، والسماء ضيِّقة كما ريشك، أو واسعة مثل منقارك، أو عينيك، أو ذكرياتك (ولا فرق في الوصف أو الشَّجر).
(5)
الصَّغيرة التي تحمل باقة من البالونات الملوَّنة الزَّاهية وهي تتقافز بصورة استعراضيَّة رشيقة على شاطئ البحر سيدركها الماء أيضا في حكمته الحزينة الأخيرة (إنني أحكي عن النِّهاية التي لم تحدث على الشاطئ، ولا في فيلمٍ ما).
(6)
شيء مؤسف جدا وغريب للغاية - (أليس كذلك)؟- أن الذين يتحدثون عن مسرَّات الحياة وملذَّاتها لا يعرفون أي شيء عن مباهج الموت، ولم يجرِّبوا أيَّا منها.
ذلك شأن مؤسف جدَّا وغريب للغاية.
(7)
قوليها. قولي الكلمة الأخيرة التي تخثرت في عيني وأنا أتأمل ظهرك الذي يسَّاقط عَرَقَا، والذي سيختفي في زقاق تلك الحارة وهذا الصَّيف.
(8)
الحشر والقيامة: تقريبا لم يعد هناك أناس يتحدثون بصوت خافت.
(9)
الصباح ليس استئذان الشَّمس، بل التوسُّل لأشجار الليمون، وللقبور.
(10)
تذكار لما شاهدته من نشرات الأخبار اليوم: «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا»؟ (عمر بن الخطاب).
(11)
هذه الحياة لا تملأ إلا الخاوين، ولذلك فإنها تستمر ويستمرُّون (ومن قال إن هناك أي بأس في ذلك)؟
(12)
في كل خطوة بركان (لكن ليس في كل برهان خطوة).
(13)
في الحقيقة تأخر الوقت كثيرا (حتى على القطيع).
(14)
احتدم النِّزاع بين العسكر، فهرعت الدبَّابات لتحرير الأشجار من الطيور.
(15)
قنِّينة محكمة الإغلاق
لا ماء فيها ولا رسالة
تتشبث بها طحالب وقواقع
في عرض المحيط.
(16)
الخوف أكثر نبلا وأخلاقيَّة في العاطفة من الشّجاعة (الشّجاعة ستأتي فيما بعد، من باب تحصيل الحاصل، وأنت لا تحتاجها في الغالب).
(17)
كل شيء يتطلب جهدا، ووعيا، ونضجا، ومثابرة (الموت على رأس القائمة).
(18)
لكن كيف أستطيع أن أحب آبائي، وأجدادي، وبقيَّة أسلافي وأنا مقطوع من كل تلك الأشجار؟
(19)
قضيت النصف الأول من هذا اليوم وأنا أقهقه بصورة هستيريَّة تقريبا. في النصف الثاني من هذا اليوم أحتاج لمكنسة، وعضلات، وسلَّة مهملات عظيمة.
(20)
تلك الأرض ماء (وينسانا البحر).
(21)
كتبت اليوم سبع كلمات، ولم أكن مضطرا للنَّظر إلى السماء أو الأرض.
(22)
لم تعد المسألة أن تغيب عن الوعي (فقد جرَّبت وفعلت ذلك بمختلف الطرائق). صارت المسألة هي أن تغيب في الوعي (حاول تجربة واختبار هذا في مكان غير الكتابة).
(23)
الشُّهداء لا يستطيعون النوم، ولا الصحو، ولا الالتفاف على الطريق الذي دارت عليه المعركة الأخيرة، ولا يتمكنون من قول الحقيقة إلا مرة واحدة فقط.
(24)
المقولة اليائسة التي تكررها دوما: «لا فائدة من الحديث مع هذا الجيل» معناه أنك لم تستطع الحديث مع الجيل الذي قبلك، ولم تتمكن من التَّعَلُّم منه.
وهكذا فإنك مخطئ وآثم بصورة مُضاعَفة.
(25)
كل الناس يموتون (لكن بعضهم يفعل ذلك بصورة عرضيَّة وتجريبيَّة، وبعضهم الآخر مدمنٌ فحسب).
(26)
لم يعد هذا صحيحا حتى مع ازدياد العمر تناقصا، وتقدُّم حكمة العقاقير، وعيث الصَّدمة الكهربائيَّة في الدِّماغ: «لن يستطيع أحد إفساد مزاجك ما دمتَ مكتئبا طوال الوقت» (شوبنهاور).
(27)
لا أريد أن أقرأ (لم أقرأ بما يكفي). لا أريد أن أكتب (لن أكتب بما أكتفي).
(28)
الكاتب --أو المبدع، عموما-- هو الزَّائدة الدوديَّة الوحيدة للعالم، والمتبقية من مخلَّفات العصرين النَّباتي والشِّفاهي (سواء استؤصلت، أم انفجرت، أم بَقيت، أم أُبقيت).
(29)
ليس في المعرفة أي جدوى للغريب الذي وسادته في أقصى مكان عن النجمة.
(30)
تضيق بك الأشكال، ولا تستطيع أن تكون آخر سديم.
(31)
في هذه البلاد ثمَّة كارثة أظن أن احتمالها غير موجود في بقية العالم: الإصابة بالرَّكاكة أو الابتلاء بالبلاغة.
(32)
خطيئة الحياة هي الحق والواجب، واستحالة تقديم أي شيء للثَّكالى، والأيتام، والأرامل، والشُّهداء، والشُّعراء.
خطيئة الحياة أنها لا تتيح شيئا غير ذلك.
(33)
ليس للمرء أعضاء غير القدمين والرَّأس.
(34)
ألا شاه الوجه، ألا خسئ، ألا تمكَّن الجُدَرِّي أكثر فأكثر من نَفْسِهِ، ومن بَدَنِه، ومن زَرْعِه، وضرعه، ومن نسلِه، ومِنْ نَسْلِ نسله.
ألا ثكلته أمُّه...
عبدالله حبيب كاتب وشاعر عماني
النَّوم تفَّاحة الفردوس، مراجعات الأب والأم في الأعالي البعيدة، خطايا الأشقَّاء والشَّقيقات في طريقهم إلى البرزخ والنَّعيم القريبين، مرورهما الرسمي على الإثم الواقع في آخر الأرض من باب العار الاحتياطي (وليس من حقِّي العتاب، ولا من واجبي اللوم، والسُّكوت من شِيَمِي التَّظاهريَّة، والصَّمت احتجاجي. «بل أكثرهم لا يعقلون» [«العنكبوت»]).
(2)
أشعر أحيانا بالرَّغبة مُتَدَفِّقةً في كتابة حلقة من «أنساغ» تتكوَّن بالكامل من اقتباسات أحبُّها من كُتَّاب ومبدعين؛ لكن من دون ذكر أسمائهم، بل الاكتفاء بعلامات التَّنصيص؛ فمثلا أكتب بيتا لطَرفة بن العبد من «المُعَلَّقَة»، وأضيف إليه مقاطع من جون كيتس، ثم أضع عبارة تَعْتَعَها إدغر ألن بو في حانة، وأجوِّد ذلك بشيء من قصائد بابلو نيرودا في المنفى، أو عبارة من أندريه تاركوفسكي يضمُّها كتاب يحتوي على حوارات معه أقرؤه اليوم، وأضيف إلى ذلك رابطا إلكترونيَّا يفضي إلى مشهد من أحد أفلام سيرغي بارادجانوف (أحبُّذ أن يكون «لون الرُّمان»، أو «خيول النَّار أو ظِلالُ أسلاف منسيِّين»)، إلخ..
يا للأسف، أنا محدود جدا إذ لا أتمكن من ذلك، ولا أستطيع أن أكون.
في كل رغبة ليس هناك سوى الأسف.
(3)
إنها تمطر، فلا تستمع إلى أحد، ولا تحدِّث أحدا (كل من يحدِّث الآخرين أو يستمع لهم لن يتبلَّل).
(4)
أيها العصفور: خافقي أضأل من جناحك، والسماء ضيِّقة كما ريشك، أو واسعة مثل منقارك، أو عينيك، أو ذكرياتك (ولا فرق في الوصف أو الشَّجر).
(5)
الصَّغيرة التي تحمل باقة من البالونات الملوَّنة الزَّاهية وهي تتقافز بصورة استعراضيَّة رشيقة على شاطئ البحر سيدركها الماء أيضا في حكمته الحزينة الأخيرة (إنني أحكي عن النِّهاية التي لم تحدث على الشاطئ، ولا في فيلمٍ ما).
(6)
شيء مؤسف جدا وغريب للغاية - (أليس كذلك)؟- أن الذين يتحدثون عن مسرَّات الحياة وملذَّاتها لا يعرفون أي شيء عن مباهج الموت، ولم يجرِّبوا أيَّا منها.
ذلك شأن مؤسف جدَّا وغريب للغاية.
(7)
قوليها. قولي الكلمة الأخيرة التي تخثرت في عيني وأنا أتأمل ظهرك الذي يسَّاقط عَرَقَا، والذي سيختفي في زقاق تلك الحارة وهذا الصَّيف.
(8)
الحشر والقيامة: تقريبا لم يعد هناك أناس يتحدثون بصوت خافت.
(9)
الصباح ليس استئذان الشَّمس، بل التوسُّل لأشجار الليمون، وللقبور.
(10)
تذكار لما شاهدته من نشرات الأخبار اليوم: «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا»؟ (عمر بن الخطاب).
(11)
هذه الحياة لا تملأ إلا الخاوين، ولذلك فإنها تستمر ويستمرُّون (ومن قال إن هناك أي بأس في ذلك)؟
(12)
في كل خطوة بركان (لكن ليس في كل برهان خطوة).
(13)
في الحقيقة تأخر الوقت كثيرا (حتى على القطيع).
(14)
احتدم النِّزاع بين العسكر، فهرعت الدبَّابات لتحرير الأشجار من الطيور.
(15)
قنِّينة محكمة الإغلاق
لا ماء فيها ولا رسالة
تتشبث بها طحالب وقواقع
في عرض المحيط.
(16)
الخوف أكثر نبلا وأخلاقيَّة في العاطفة من الشّجاعة (الشّجاعة ستأتي فيما بعد، من باب تحصيل الحاصل، وأنت لا تحتاجها في الغالب).
(17)
كل شيء يتطلب جهدا، ووعيا، ونضجا، ومثابرة (الموت على رأس القائمة).
(18)
لكن كيف أستطيع أن أحب آبائي، وأجدادي، وبقيَّة أسلافي وأنا مقطوع من كل تلك الأشجار؟
(19)
قضيت النصف الأول من هذا اليوم وأنا أقهقه بصورة هستيريَّة تقريبا. في النصف الثاني من هذا اليوم أحتاج لمكنسة، وعضلات، وسلَّة مهملات عظيمة.
(20)
تلك الأرض ماء (وينسانا البحر).
(21)
كتبت اليوم سبع كلمات، ولم أكن مضطرا للنَّظر إلى السماء أو الأرض.
(22)
لم تعد المسألة أن تغيب عن الوعي (فقد جرَّبت وفعلت ذلك بمختلف الطرائق). صارت المسألة هي أن تغيب في الوعي (حاول تجربة واختبار هذا في مكان غير الكتابة).
(23)
الشُّهداء لا يستطيعون النوم، ولا الصحو، ولا الالتفاف على الطريق الذي دارت عليه المعركة الأخيرة، ولا يتمكنون من قول الحقيقة إلا مرة واحدة فقط.
(24)
المقولة اليائسة التي تكررها دوما: «لا فائدة من الحديث مع هذا الجيل» معناه أنك لم تستطع الحديث مع الجيل الذي قبلك، ولم تتمكن من التَّعَلُّم منه.
وهكذا فإنك مخطئ وآثم بصورة مُضاعَفة.
(25)
كل الناس يموتون (لكن بعضهم يفعل ذلك بصورة عرضيَّة وتجريبيَّة، وبعضهم الآخر مدمنٌ فحسب).
(26)
لم يعد هذا صحيحا حتى مع ازدياد العمر تناقصا، وتقدُّم حكمة العقاقير، وعيث الصَّدمة الكهربائيَّة في الدِّماغ: «لن يستطيع أحد إفساد مزاجك ما دمتَ مكتئبا طوال الوقت» (شوبنهاور).
(27)
لا أريد أن أقرأ (لم أقرأ بما يكفي). لا أريد أن أكتب (لن أكتب بما أكتفي).
(28)
الكاتب --أو المبدع، عموما-- هو الزَّائدة الدوديَّة الوحيدة للعالم، والمتبقية من مخلَّفات العصرين النَّباتي والشِّفاهي (سواء استؤصلت، أم انفجرت، أم بَقيت، أم أُبقيت).
(29)
ليس في المعرفة أي جدوى للغريب الذي وسادته في أقصى مكان عن النجمة.
(30)
تضيق بك الأشكال، ولا تستطيع أن تكون آخر سديم.
(31)
في هذه البلاد ثمَّة كارثة أظن أن احتمالها غير موجود في بقية العالم: الإصابة بالرَّكاكة أو الابتلاء بالبلاغة.
(32)
خطيئة الحياة هي الحق والواجب، واستحالة تقديم أي شيء للثَّكالى، والأيتام، والأرامل، والشُّهداء، والشُّعراء.
خطيئة الحياة أنها لا تتيح شيئا غير ذلك.
(33)
ليس للمرء أعضاء غير القدمين والرَّأس.
(34)
ألا شاه الوجه، ألا خسئ، ألا تمكَّن الجُدَرِّي أكثر فأكثر من نَفْسِهِ، ومن بَدَنِه، ومن زَرْعِه، وضرعه، ومن نسلِه، ومِنْ نَسْلِ نسله.
ألا ثكلته أمُّه...
عبدالله حبيب كاتب وشاعر عماني