لم تعد برامج التعليم التي كانت الدرس الأول لنجاح كل الدول التي حققت نهضات صناعية وفكرية بعيدًا عن دول أخرى لا تزال تراوح في محاولة للخروج من أزماتها الاقتصادية التنموية، بعد أن تبين للدول الناهضة أن التعليم هو القاطرة الكبيرة لكل برامج التنمية، وخصوصًا تنمية البشر باعتبارهم الرصيد الاستراتيجي للنهضة.

في سبيل ذلك أُنفقت أموالا هائلة لتأهيل المعلم وإعداد البيئة المدرسية، ليس في مجال المقررات الدراسية فقط، وإنما العناية بالمدرسة كمؤسسة اجتماعية وثقافية وفكرية ورياضية يمارس فيها الطلاب كل صنوف الأنشطة التي تجعل من البيئة المدرسية بيئة جاذبة محفزة على التفكير والمنافسة والابتكار في كل مراحل التعليم، من الابتدائي حتى الثانوي.

وسط هذا كله يأتي دور المعلم (المُلهم) الذي يمثل أنموذجًا للطلاب، وفي سبيل ذلك بذلت المؤسسات المعنية بالتعليم دورًا لا بأس به في تكوين المعلم وتأهيله نفسيًا وتربويًا واجتماعيًا لكي يكون مؤهلًا لهذه المهمة الجليلة. أما في بعض أقطارنا العربية، فقد أنفقنا جهدًا كبيرًا في إعداد المؤسسات المعنية بتأهيل المعلم (كليات التربية)، التي انتشرت في كل أقطارنا العربية منذ ستينيات القرن الماضي، وهي تجربة أعتقد أنها لم تخضع بعد للتقييم والدراسة، حيث يدرس الطالب أربع سنوات جميعها في برامج تربوية وأكاديمية متخصصة لا يشكل التخصص الأكاديمي فيها إلا ٣٠٪؜ أو ٣٥٪؜ ، بينما يدرس الطالب في علوم الوسائل والمناهج وطرق التدريس ما يزيد على ٦٠٪؜ ، أي أن ما يحصل عليه الطالب الذي يُؤهل لتدريس العلوم الرياضية والإنسانية لا يرقى لمستوى ما درسه في العلوم التربوية، ثم ندفع به لكي يعمل معلما في التخصص الذي درسه، والحقيقة أنه لم يدرس إلا النذر اليسير، وهو ما ينعكس سلبا على العملية التربوية برمتها، والمحصلة كما نعلم جميعا هي ضعف في مستوى المعلم، يؤدي إلى ضعف في مستوى الدارس.

التعليم ليس مجرد وسائل أو حتى محتوى لا يقدم إلا فكرة واحدة وإجابة واحدة، التعليم هو ثقافة مكتملة لمعلم منفتح على كل التخصصات المؤدية إلى تكوين العقل والوجدان، وليس التعليم مجرد كتاب يحفظه الطالب ثم ينساه بمجرد أداء الامتحان التقليدي، وهي عملية لا يتحمل مسؤوليتها المعلم وحده، وإنما تقع المسؤولية برمتها على المؤسسات المعنية بالتعليم، لذا لا أجد حرجًا إذا قلت إنه من الواجب إعادة النظر في كليات التربية برمتها، بحيث يقتصر الالتحاق بها على المتخرجين من كليات الآداب والعلوم يدرس الطالب بعدها المواد التربوية المؤهلة لإعداد المدرس، قد يكون ذلك لمدة عام أو عامين، أعتقد أن الأمر سيكون مختلفًا كثيرا.

ما نلاحظه على برامج التعليم الأساسي وحتى المرحلة الثانوية، هو العناية بالوسائل الإلكترونية والمعلوماتية، وهي سياسة جديرة بالتقدير وسط عالم يتحول بشكل لافت إلى عالم افتراضي، وهو ما يجب العناية به وتأهيل شبابنا على هذه التكنولوجيا الجديدة، إلا أن القضية تظل قاصرة حينما نغفل في برامج التعليم التفكير العلمي وحرية النقد، والعناية بالبحث والقراءة التقليدية (الورقية)، أسوة بالتعليم الإلكتروني القائم على المعلومة المعدة سلفًا دون أن يبذل الطالب جهدًا في القراءة، بهدف التعرف على إجابات متنوعة وطرح الأسئلة وإعمال التفكير العلمي، وهي أمور لا يمكن أن تتحقق إلا إذا أجاد الطالب القراءة والكتابة بالقدر نفسه الذي أجاد به المعارف الإلكترونية، وإلا نكون قد أحلنا طلابنا إلى مجرد أجهزة إلكترونية (روبوت)، وهو ما يبدد المعارف الوجدانية والثقافة الوطنية، التي لا يمكن أن تؤتي ثمارها إلا بالقراءة التقليدية.

ألاحظ أن معظم شبابنا اكتفوا بقراءتهم في مختلف المعارف على القراءة الإلكترونية، وهي وسيلة لا يمكن أن تؤسس للإبداع في أي مجال من مختلف المجالات. والصورة واضحة أمامنا من خلال تجارب روائية وأعمال فنية وفكرية أبدع فيها الكثير من شبابنا، الذين أجادوا القراءة التقليدية مع عنايتهم بالقراءة الإلكترونية، التي لا يمكن أن يتحقق بها أي إبداع حقيقي في مختلف مجالات الفكر والأدب والفن.

منذ عشر سنوات أو أكثر كان السؤال المطروح دائما: هل القراءة الإلكترونية سوف تكون بديلًا عن القراءة الورقية؟ وظل هذا السؤال مطروحًا لدرجة إن قال البعض بأن النشر الورقي سوف يختفي خلال عقد أو أكثر، وقد تبين أن القراءة الإلكترونية لا يمكن أن تكون بديلًا عن القراءة الورقية، التي ستبقى هي الوسيلة المؤسَّسة لكل المعارف، وخصوصًا في مجال الأدب والفكر والفن، وهي مجالات أبدع فيها شبابنا خلال العقد الأخير، وترجمت الكثير من أعمالهم إلى مختلف اللغات الأوروبية.

العلمية برمتها تبدأ من المدرسة وبرامجها الثقافية ومعلمها (المُلهم) القادر على التفاعل مع مختلف المعارف والفنون، فمعلم التاريخ أو تاريخ الأدب أو أي علم آخر عليه أن يكون منفتحًا على الفلسفة والفكر، فلم يعد من المناسب أن يبقى المعلم (الكشكول) الذي يكتفي بالقشور من المعارف التي لا تلبي ثقافة العصر، ولا تقيم معرفة حقيقية في عصر تشابكت فيه مختلف العلوم والفنون. لعل هذا المقال يحظى بعناية القائمين على التعليم في مختلف أقطارنا العربية.

د. محمد صابر عرب أستاذ التاريخ بجامعة الأزهر ووزير الثقافة المصرية سابقا ورئيس مجلس إدارة الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية سابقا.