بين فترة وأخرى - وخصوصا بعد الأعياد- يُفاجئنا الميزان (وقليلا ما تكون مفاجآت الميزان سارّة) أننا كسبنا بعض الوزن، ولا يعود أمامنا سوى اللجوء للحمية لمدة تطول أو تقصر بالتناسب مع الرقم الذي يكشفه الميزان. تقول صديقة لي أنه لا يصعب عليها إطلاقا اتباع حمية الصيام المتقطع، على عكس من حولها ممن ينحدرون من بلدان وثقافات أخرى. وتعزو ذلك إلى صيام رمضان، والذي دربها لسنوات على تأجيل متعها حتى حلول الليل.
قادنا هذا بطبيعة الحال لمقارنة فكرة الإشباع المؤجل للرغبات عبر الثقافات، وما إذا كانت الأبحاث النفسية -وبقية العلوم- تخرج باستنتاجات ترتبط بالثقافة التي تنتمي إليها عينة البحث، والتي لا تعكس بالضرورة كشفا كونيا حول السلوك البشري، وعليه لا يعود ممكنا استخدام هذه المعرفة، إلا في نطاقها الضيق.
لحسن الحظ ثمة آخرون - في الحقل الأكاديمي- منشغلون بهذه القضية. أستاذة علم النفس يوكو موناكاتا (Yuko Munakata) المتخصصة بنمو الطفل ضمن حقل علم النفس التنموي، قادت دراسة تبحث في الأثر الثقافي على نتائج تجربة المارشميلو الشهيرة. نشرتْ الباحثة خُلاصتها في عدد هذا الشهر من مجلة (Scientific American).
ببساطة، تبحث تجربة المارشميلو - بشكلها التقليدي- في قدرة الأطفال على ضبط النفس، عبر تخييرهم بين أكل قطعة المارشميلو التي أمامهم، أو الانتظار بعض الوقت ليُجازوا بقطعة مارشميلو ثانية. دراسات لاحقة تتبعت مصائر المشاركين في الدراسة لعقود، لترى ما إذا كان لهذه القدرة على ضبط النفس أثر في حياتهم كبالغين. خلصت هذه الدراسات إلى أن الأطفال الذين يتحلون بضبط النفس، يكبرون ليصبحوا أكثر نجاحا في الحياة الدراسية، ولاحقا في الحياة المهنية.
موناكاتا - ذات الأصول اليابانية - أرادت أن ترى إن كان للأعراف الثقافية عموما، أثر في سلوك الأطفال عند إخضاعهم لهذه الدراسة. أعادت مع زملائها التجربة مقارنة بين عينة الأطفال اليابانيين والأمريكيين (تأكد الباحثون من أن الأطفال جربوا المارشميلو مسبقا، حتى لا تكون الجِدة عاملا مؤثرا). وخلُصت إلى أن ثمة نزعات عامة تحكمها الثقافة. فالأطفال اليابانيون ينتظرون فيما معدله 15 دقيقة ليأكلوا قطعة المارشميلو، فيما ينتظر معظم الأطفال الأمريكيين في المتوسط 5 دقائق فقط. في المدارس اليابانية تتم تنشئة الأطفال على عادة الأكل ضمن مجموعات، وعادة ينتظرون خلال الفسحة أن يأخذ الجميع غداءهم، ويجلسوا على طاولاتهم قبل أن يتمنوا بصوت موحد للجميع وجبة هانئة، ويشرعوا في تناولها.
كان للدراسة أن تتوقف هنا، وتخلص إلى أن الصغار اليابانيين يتحلّون في المتوسط بقدرة أعلى على ضبط النفس مقارنة بأقرانهم الأمريكان. لكنها لم تفعل. تمت إعادة التجربة لكن هذه المرة حلّت هدية مغلفة محل قطعة المارشميلو، ووُعد الأطفال بأخرى إذا ما انتظروا لبعض الوقت. كانت النتيجة مفاجِأة للباحثين، إذ انقلبت النتائج تماما. انتظر غالبية الأطفال الأمريكيين ما معدله 15 دقيقة قبل أن يستسلموا لإغراء فتح هداياهم، بينما انتظر غالبية أقرانهم اليابانيين ما معدله 5 دقائق فحسب!
عزا الباحثون ذلك إلى التمايز في عادات تبادل الهدايا في الثقافتين. حيث ينتظر الطفل الأمريكي في عيد ميلاده حتى نهاية الحفلة ليُسمح له أخيرا بفتح هداياه، أما في الكريسمس فقد تبقى هداياه أياما تحت شجرة الميلاد قبل طقس فتحها في الخامس والعشرين من ديسمبر. على الجانب الآخر، يتم تبادل الهدايا في الثقافة اليابانية طوال العام، وما من طقس محدد يُدربهم على الانتظار لفتح هداياهم.
ما حزر الباحثون إذا أنه دلالة عامة على ضبط النفس، كان مرتبطا على نحو خاص بالسياق، وبنوع المكافأة المقدم. ليس هذا فحسب وإنما وجد الباحثون أيضا أن للانتظار علاقة بحساسية الطفل للأعراف الاجتماعية. ما يعني -وأرجو أنني لا أتعجل القفز إلى هذا الاستنتاج- التباس العلاقة بين ضبط النفس، والانضباط الاجتماعي. أعني أن ما يبدو على السطح معادلة تتحدد نتائجها بمدى اهتمام الفرد بتحقيق أعلى ربح ذاتي، يخضع في الواقع لعوامل اجتماعية، أي فعل ما يعتقد الطفل أنه السلوك الأقوم.
أرى أن الخلاصة الأخيرة مهمة لأنها تُسلط الضوء -ربما لأول مرة- على الجانب الاجتماعي لهذا الاختبار بنسخه المختلفة. الطفل أمام حبة المارشميلو يعرف أنه أمام مهمة، وأن عليه أن يصبر ما استطاع. كذلك الطالب الذي يجتهد في التحصيل العلمي متيقنا أن وظيفة ومستقبلا أفضل بانتظاره إذا ما اجتهد، يخضع بالمثل لضغط التطلعات والآمال التي يعقدها عليه والداه.
لطالما استخدم اختبار المارشميلو -بما يُمّثله من مقاومة الرغبات الفورية لصالح المكافآت المؤجلة-؛ للتنبؤ بالسلوك المستقبلي سواء فيما يتعلق بالنجاح الأكاديمي، الوظيفي، وحتى الصحة. ما أتمنى شخصيا رؤيته في الدراسات المستقبلية هو التركيز على علاقة ضبط النفس (الذي تُخبرنا الأبحاث أنه يتشابك مع الحساسية الاجتماعية) برفاه الفرد (حتى لا نقول السعادة). أعني القدرة على التخفّف من الانضباط متى ما لزم، والتسليم للمتعة، فالاستمتاع هو الآخر نوع من المهارة. سيكون من المثير للاهتمام أيضا معرفة الخط الذي تتحول عنده الرغبات المؤجلة إلى رغبات مكبوتة، وأثر ذلك بدوره على رفاه الفرد.
قادنا هذا بطبيعة الحال لمقارنة فكرة الإشباع المؤجل للرغبات عبر الثقافات، وما إذا كانت الأبحاث النفسية -وبقية العلوم- تخرج باستنتاجات ترتبط بالثقافة التي تنتمي إليها عينة البحث، والتي لا تعكس بالضرورة كشفا كونيا حول السلوك البشري، وعليه لا يعود ممكنا استخدام هذه المعرفة، إلا في نطاقها الضيق.
لحسن الحظ ثمة آخرون - في الحقل الأكاديمي- منشغلون بهذه القضية. أستاذة علم النفس يوكو موناكاتا (Yuko Munakata) المتخصصة بنمو الطفل ضمن حقل علم النفس التنموي، قادت دراسة تبحث في الأثر الثقافي على نتائج تجربة المارشميلو الشهيرة. نشرتْ الباحثة خُلاصتها في عدد هذا الشهر من مجلة (Scientific American).
ببساطة، تبحث تجربة المارشميلو - بشكلها التقليدي- في قدرة الأطفال على ضبط النفس، عبر تخييرهم بين أكل قطعة المارشميلو التي أمامهم، أو الانتظار بعض الوقت ليُجازوا بقطعة مارشميلو ثانية. دراسات لاحقة تتبعت مصائر المشاركين في الدراسة لعقود، لترى ما إذا كان لهذه القدرة على ضبط النفس أثر في حياتهم كبالغين. خلصت هذه الدراسات إلى أن الأطفال الذين يتحلون بضبط النفس، يكبرون ليصبحوا أكثر نجاحا في الحياة الدراسية، ولاحقا في الحياة المهنية.
موناكاتا - ذات الأصول اليابانية - أرادت أن ترى إن كان للأعراف الثقافية عموما، أثر في سلوك الأطفال عند إخضاعهم لهذه الدراسة. أعادت مع زملائها التجربة مقارنة بين عينة الأطفال اليابانيين والأمريكيين (تأكد الباحثون من أن الأطفال جربوا المارشميلو مسبقا، حتى لا تكون الجِدة عاملا مؤثرا). وخلُصت إلى أن ثمة نزعات عامة تحكمها الثقافة. فالأطفال اليابانيون ينتظرون فيما معدله 15 دقيقة ليأكلوا قطعة المارشميلو، فيما ينتظر معظم الأطفال الأمريكيين في المتوسط 5 دقائق فقط. في المدارس اليابانية تتم تنشئة الأطفال على عادة الأكل ضمن مجموعات، وعادة ينتظرون خلال الفسحة أن يأخذ الجميع غداءهم، ويجلسوا على طاولاتهم قبل أن يتمنوا بصوت موحد للجميع وجبة هانئة، ويشرعوا في تناولها.
كان للدراسة أن تتوقف هنا، وتخلص إلى أن الصغار اليابانيين يتحلّون في المتوسط بقدرة أعلى على ضبط النفس مقارنة بأقرانهم الأمريكان. لكنها لم تفعل. تمت إعادة التجربة لكن هذه المرة حلّت هدية مغلفة محل قطعة المارشميلو، ووُعد الأطفال بأخرى إذا ما انتظروا لبعض الوقت. كانت النتيجة مفاجِأة للباحثين، إذ انقلبت النتائج تماما. انتظر غالبية الأطفال الأمريكيين ما معدله 15 دقيقة قبل أن يستسلموا لإغراء فتح هداياهم، بينما انتظر غالبية أقرانهم اليابانيين ما معدله 5 دقائق فحسب!
عزا الباحثون ذلك إلى التمايز في عادات تبادل الهدايا في الثقافتين. حيث ينتظر الطفل الأمريكي في عيد ميلاده حتى نهاية الحفلة ليُسمح له أخيرا بفتح هداياه، أما في الكريسمس فقد تبقى هداياه أياما تحت شجرة الميلاد قبل طقس فتحها في الخامس والعشرين من ديسمبر. على الجانب الآخر، يتم تبادل الهدايا في الثقافة اليابانية طوال العام، وما من طقس محدد يُدربهم على الانتظار لفتح هداياهم.
ما حزر الباحثون إذا أنه دلالة عامة على ضبط النفس، كان مرتبطا على نحو خاص بالسياق، وبنوع المكافأة المقدم. ليس هذا فحسب وإنما وجد الباحثون أيضا أن للانتظار علاقة بحساسية الطفل للأعراف الاجتماعية. ما يعني -وأرجو أنني لا أتعجل القفز إلى هذا الاستنتاج- التباس العلاقة بين ضبط النفس، والانضباط الاجتماعي. أعني أن ما يبدو على السطح معادلة تتحدد نتائجها بمدى اهتمام الفرد بتحقيق أعلى ربح ذاتي، يخضع في الواقع لعوامل اجتماعية، أي فعل ما يعتقد الطفل أنه السلوك الأقوم.
أرى أن الخلاصة الأخيرة مهمة لأنها تُسلط الضوء -ربما لأول مرة- على الجانب الاجتماعي لهذا الاختبار بنسخه المختلفة. الطفل أمام حبة المارشميلو يعرف أنه أمام مهمة، وأن عليه أن يصبر ما استطاع. كذلك الطالب الذي يجتهد في التحصيل العلمي متيقنا أن وظيفة ومستقبلا أفضل بانتظاره إذا ما اجتهد، يخضع بالمثل لضغط التطلعات والآمال التي يعقدها عليه والداه.
لطالما استخدم اختبار المارشميلو -بما يُمّثله من مقاومة الرغبات الفورية لصالح المكافآت المؤجلة-؛ للتنبؤ بالسلوك المستقبلي سواء فيما يتعلق بالنجاح الأكاديمي، الوظيفي، وحتى الصحة. ما أتمنى شخصيا رؤيته في الدراسات المستقبلية هو التركيز على علاقة ضبط النفس (الذي تُخبرنا الأبحاث أنه يتشابك مع الحساسية الاجتماعية) برفاه الفرد (حتى لا نقول السعادة). أعني القدرة على التخفّف من الانضباط متى ما لزم، والتسليم للمتعة، فالاستمتاع هو الآخر نوع من المهارة. سيكون من المثير للاهتمام أيضا معرفة الخط الذي تتحول عنده الرغبات المؤجلة إلى رغبات مكبوتة، وأثر ذلك بدوره على رفاه الفرد.