ترجمة: أحمد شافعي -

في الساعة الحادية عشرة واثنتي عشرة دقيقة من صباح يوم السبت، انطلقت مركبة إقليدس الفضائية إلى الفضاء في مهمتها لرسم تاريخ الكون حسب ما كان عليه قبل عشرة مليارات سنة.

سوف يستعمل التلسكوب الفضائي الذي أقامته وكالة الفضاء الأوروبية أدواته لتسجيل أكثر من ثلث السماء خارج المجرة على مدار السنوات الست القادمة ليسفر عن أدق خريطة ثلاثية الأبعاد للكون حتى اليوم.

يخطط الباحثون لاستعمال خريطة إقليدس في استكشاف كيفية تأثير المادة المظلمة والطاقة المظلمة ـ وهي مادة غامضة تشكل 95% من كوننا ـ على ما نراه حينما ننظر عبر المكان والزمان.

وقال جون رودز عالم الفيزياء في مختبر الدفع النفاث التابع لوكالة ناسا والذي يقود فريق إقليدس العلمي في الولايات المتحدة إن «إقليدس يأتي في وقت مثير للغاية في تاريخ علم الكونيات. فنحن في مستهل وقت سيكون فيه إقليدس أداة رائعة للإجابة على أسئلة تبدأ الآن في الظهور. وإنني على يقين من أن إقليدس سوف يكون رائعا في إجابة أسئلة لم تخطر لنا بعد».

انطلقت المركبة الفضائية من كيب كانافيرال بولاية فلوريدا على صاروخ سبيس إكس فالكون 9 في طقس أقرب إلى المثالي للرحلة. وقد انفصل إقليدس، الذي لا يزال مرتبطا بالمرحلة الثانية من الصاروخ، عن معزِّزه بعد ثلاث دقائق من الإطلاق، وسط جولة من التصفيق. ثم دخل في مدار مستقر حول الأرض بعد حوالي تسع دقائق من الرحلة. وبعد قرابة أربعين دقيقة، انفصل التلسكوب عن المرحلة الثانية وبدأ رحلة مليون ميل إلى نقطة معينة في الفضاء هي التي ينبغي أن تبدأ فيها رحلة المهمة العلمية.

قال جوادالوبي كاناس هيريرا، عالم الكونيات النظرية في مهمة إقليدس، في بث متلفز لوكالة الفضاء الأوروبية، عند سؤاله عن الإطلاق إنه «أمر لا يصدق! تجتاحني العواطف، لكنني أيضا ممتن للغاية لكل ما تم القيام به حتى الآن لكي نتمكن من الحصول على تلسكوب في الفضاء».

لم يكن أمام بعثة الفيزياء الفلكية الأوروبية خيار سوى الطيران مع أمريكا. فوكالة الفضاء الأوروبية كانت قد خططت لإطلاق المركبة الفضائية إما على صاروخ سويوز الروسي أو صاروخ أريان 6 الأوروبي الجديد. ولكن بسبب انقطاع العلاقات الفضائية الأوروبية الروسية بعد غزو أوكرانيا، وتأخيرات طرأت على آريان 6، نقلت وكالة الفضاء الأوروبية بعض عمليات الإطلاق إلى سبيس إكس، وقد كان من بينها مهمة إقليدس.

لن تكون المركبة الفضائية هي الوحيدة الشاخصة إلى مخزن كوننا البارد. ولكن خلافا لتلسكوبي هابل وجيمس ويب الفضائيين، اللذين يركزان بعمق على جزء واحد من السماء في المرة الواحدة، سيستخدم العلماء إقليدس لتغطية مساحات واسعة من السماء خارج المجرة في الوقت الواحد. وفي ثلاث من المناطق التي يسجلها، سوف يصل إقليدس إلى مسافة أبعد، مصوِّرا بنية الكون بعد حوالي مليار سنة من الانفجار العظيم.

أحد أهداف التلسكوب الفضائي يتمثل في المادة المظلمة، وهي المادة اللاصقة غير المرئية في الكون، وهي مادة لا ينبعث منها ضوء، ولا تمتصه ولا تعكسه. ولقد استعصت المادة المظلمة حتى الآن على الاستكشاف المباشر، برغم كل الجهود التي بذلها علماء الفيزياء، لكنهم يعرفون أنها موجودة بسبب تأثيرها الجاذبي على طريقة حركة المجرات.

من ناحية أخرى، تمثل الطاقة المظلمة قوة أكثر غموضا هي التي تدفع المجرات عن بعضها البعض ـ بحيث يتمدد كوننا بمعدل متسارع.

سوف تكشف خرائط إقليدس للكون عن كيفية توزيع المادة المظلمة عبر الزمكان بناء على كيفية تشوه الضوء القادم من المجرات خلفها، وهو التأثير الذي يعرف باسم عدسة الجاذبية الضعيفة. (ويختلف هذا عن عدسة الجاذبية القوية، أي التشوه الأكثر دراماتيكية عن طريق التجمعات المجرية التي تخلق أقواسا أو حلقات أو حتى صورا متعددة لمصدر واحد).

تسهم هذه القياسات في مزيد من الجهود المباشرة لمعرفة ماهية المادة المظلمة في حقيقتها.

قالت كلارا نيليست، عالمة فيزياء الجسيمات في المنظمة الأوروبية للبحوث النووية CERN في أوروبا، وغير المشاركة في مهمة إقليدس «إننا نبحث عن الشيء نفسه من زوايا مختلفة». إذ يبحث باحثو التجارب الأرضية عن علامات اصطدام جسيمات المادة المظلمة بأجهزة الكشف الخاصة بهم. وقالت نيليست إن «أي معلومات نجمعها حول كيفية توزيعها في كوننا تساعدنا في البحث عنها في تصادماتنا بطريقة أكثر تركيزا».

يأمل العلماء أن يتمكنوا عبر إقليدس من اختبار ما إذا كانت نظرية النسبية العامة لألبرت أينشتاين تعمل بشكل مختلف على النطاق الكوني. وقد يكون ذلك مرتبطا بطبيعة الطاقة المظلمة: سواء أهي قوة ثابتة في الكون، أم قوة ديناميكية تختلف خصائصها بمرور الزمن.

قال كزافييه دوباك، عالم الكونيات في وكالة الفضاء الأوروبية في مهمة إقليدس إنه «إذا تبين لنا أنها غير ثابتة، ولكنها شيء يتغير بمرور الزمن، فسيكون هذا اكتشافا ذا أثر ثوري»، لأنه سيقلب ما هو معروف عن الفيزياء الأساسية رأسا على عقب. بل إن اكتشافا كهذا قد يلقي الضوء على المصير النهائي لما يبدو أنه كوننا دائم التوسع.

يستضيف إقليدس مصورا مرئيا يتكون من كاميرا بدقة 600 ميجابكسل يمكنها تصوير منطقة باتساع يصل إلى سماء قمرين كاملين في المرة الواحدة. وباستخدام هذه الأداة، سيتمكن العلماء من التعرف على كيفية تشوه أشكال المجرات بأثر المادة المظلمة القائمة أمامها.

كما أن لدى إقليدس مطيافا للأشعة دون الحمراء القريبة ومقياسا للضوء، وسوف يتم استخدامهما لتسجيل المجرات في الأطوال الموجية غير المرئية وكذلك قياس انزياحها الأحمر، أي تأثير تمدد الطول الموجي في الضوء القادم من الكون البعيد الناتج عن توسع الكون. وعند استخدامها مع مجموعة من الأدوات الأرضية ـ منها تلسكوبات سوبارو وتلسكوبات كندا وفرنسا وهاواي في مرصد ماونا كيا، وأخيرا مرصد فيرا سي روبن في تشيلي ـ سوف يتمكن العلماء من تحويل الانزياح الأحمر إلى قياسات للمسافة من الأرض.

بعد نجاح إطلاق إقليدس، يشرع الآن في رحلة مليون ميل من الأرض إلى مدار عند ما يعرف باسم نقطة لاجرانج الثانية، أو إل2، وهي مكان في النظام الشمسي تتوازن فيه قوى جذب الأرض والشمس مع حركة القمر الصناعي. في مواجهة مباشرة بعيدة عن الشمس، يضع هذا الموقع الاستراتيجي إقليدس أيضا في بقعة تسمح بإجراء مسوحات واسعة للسماء دون أن تحجب الأرض أو القمر رؤيته. ويدور تلسكوب جيمس ويب الفضائي في إل2 للسبب نفسه.

سوف يستغرق وصول المركبة الفضائية إلى إل2 قرابة الشهر، ثم ثلاثة أشهر أخرى لاختبار أداء أدوات إقليدس قبل البدء في إرسال البيانات مرة أخرى إلى الأرض ليقوم العلماء بتحليلها. وسوف يتم نشر هذه البيانات للجمهور في 2025 و2027 و2030.

قال يانيك ميليير، عالم الفلك في معهد الفيزياء الفلكية في باريس، في مؤتمر صحفي قبل الإطلاق الأسبوع الماضي، إنه بالإضافة إلى أهدافه العلمية الرئيسية، سينشئ إقليدس مسحا فريدا للسماء يضم 12 مليار مجرة بجودة صورة تنافس هابل.

وقال الدكتور ميليير إن ذلك سيكون «منجم ذهب لجميع مجالات علم الفلك لعدة عقود».