خلال العقد الأول من هذا القرن تبنت مكتبة الإسكندرية مشروعا ثقافيا حظي بدعم ومشاركة العديد من المؤسسات الثقافية العربية من قبيل دار الوثائق المصرية والمكتبة الملكية بالمغرب والبحرين والأرشيف الوطني الجزائري والتونسي واللبناني، ومكتبة الأزهر ومؤسسات ثقافية أخرى مستقلة، وكان الدافع لهذا المشروع حينما لاحظنا ندرة المحتوى الرقمي العربي على الشبكة الدولية للمعلومات، والذي لم يكن يتجاوز ٣٪؜ من حجم المعلومات الدولية وقتئذ. عقدنا عدة اجتماعات ناقشنا فيها التفاصيل الفنية للبوابة الرقمية، وتحديد طبيعة الموضوعات الفكرية والثقافية، التي نستهدف وضعها على البوابة الرقمية بهدف ضم المكتبات والأرشيفات العربية للمشاركة في هذا العمل، والتنسيق مع جامعة الدول العربية التي رحب أمينها العام في ذلك الوقت السيد عمرو موسى بهذا المشروع.

كنت أردد دائما أن الثقافة تُصلح ما أفسدته السياسة، وقطعنا شوطا كبيرا في دراسة المشروع واختيار ما يتناسب وشبكة المعلومات الرقمية، وقد تبين لنا أننا نملك فيضًا هائلا من المخطوطات العلمية والفكرية، فضلًا عن اللوحات الفنية والمصورات المعمارية، ونماذج مختارة من الموسيقى العربية، وجميعها تُشكل تاريخا مشتركا لإسهامات العرب في شتى المجالات، ورحنا ننتقي بعناية المادة الفنية والعلمية التي كانت بمثابة بداية عملية لانطلاق المشروع. وتحمس المشاركون في المشروع وتولت مكتبة الإسكندرية الدعم الفني الذي قام به خبراء تكنولوجيا المعلومات في المكتبة، وذهبنا نعقد الاجتماعات لمراجعة كل التفاصيل سواء الفنية أو تصنيف المحتوى المراد وضعه على الشبكة المعلوماتية العربية، وقطعنا شوطا كبيرا فيما كنا نراه إضافة جديدة للثقافة العربية، بعد أن تم إعداد الموقع، ووضعنا عليه نماذج اخترناها بعناية من مختلف الفنون والمعارف، وكنا على ثقة بأن هذا العمل سيحظى بدعم الحكومات العربية، التي كنا نعتقد بأنها راغبة في تغيير الصورة النمطية عن تاريخ العرب وحضارتهم.

بمجرد الانتهاء من المشروع التجريبي ذهبنا نواصل عرضه على العديد من الجماعات الثقافية، وقد تلقاه المثقفون بكل فخر وامتنان، بل راحت دول عربية تستقبل هذا المشروع بكل حماس، عندما عرضناه في المغرب والبحرين والشارقة، بعدها تلقينا العديد من الدعوات من دول عربية أخرى كانت ترغب في المشاركة بهذا العمل العربي، بهدف أن يرى العالم إسهامات العرب في الحضارة الإنسانية، وكان الكثير من المواد المختارة تعد بمثابة الدروس المؤسَّسة للحضارة الأوروبية المعاصرة، من قبيل نماذج من مخطوطات ابن سينا وابن رشد والفارابي وابن الهيثم، وصولا لأعمال فكرية وفنية من مختلف الأقطار العربية، ولم يغفل المشروع جانبًا من الحياة المدنية في الفن والفكر والعمارة والموسيقى، وغير ذلك من مختلف الموضوعات التي أوشكت أن تضيع في زخم الحضارة المعاصرة.

لم يكن العمل نحو قيام منصة عربية واحدة يستهدف قطرا عربيا بذاته، وإنما كانت فلسفة المشروع قائمة على وحدة المعارف التراثية العربية قديمها وحديثها، من الأندلس مرورًا بالمغرب العربي وصولا إلى المشرق العربي، مع العناية باختيار الموضوعات التي شكلت الدروس المؤسَّسة لقيام النهضة الأوروبية الحديثة، ودور العرب في النهضات الأوروبية، وقد ابتعد المشروع عن السياسة، التي كنا نعتقد أنها أفسدت الكثير من العلاقات العربية العربية، لذا كانت العناية بالمنجز العلمي والفكري والفني، وهي الموضوعات التي شكلت الرؤية المتكاملة لهذا المشروع.

كنا نأمل أن تكون تلك المنصة الرقمية بمثابة وسيلة لتعريف العالم بمنجزات العرب قديمًا وحديثًا وتقديم خدمة للباحثين في مختلف المجالات وتعديل الصورة النمطية للثقافة العربية التي ظلمها التاريخ، باعتبارها ثقافة رآها البعض مصدرًا للكراهية والعنف وتحقير المرأة، وبينما كنا نسعى بكل طاقاتنا لإنجاز هذا العمل العربي المشترك داهمتنا شرارة الغضب العربي عام ٢٠١١، حينما بدأت من تونس وامتدت النيران لقلب القاهرة، ثم سوريا وليبيا ولم ينج قطر عربي إلا وحدثت فيه هزات أربكت المشهد وأحدثت شروخا اختلفت من قطرٍ إلى آخر وتوقف العمل في هذا المشروع، بل لعله سقط من الذاكرة.

أعتقد أن مكتبة الإسكندرية لا تزال تحتفظ بما كنا قد أنجزناه، وتبقى الإرادة العربية نحو استكمال المشروع الذي لا يمكن أن يُكتمل إلا بدعم عربي مشترك، وأعتقد أيضا أن مجتمعاتنا العربية في حاجة ملحة إلى بعث الحياة في هذا العمل، الذي يعد أُنموذجا للعمل العربي الثقافي المشترك، الذي يعد القاطرة الأهم لجمع العرب على اختلاف مذاهبهم الفكرية والسياسية. إذا كنا نعاني في مجتمعاتنا من ندرة القراءة الورقية ورغبة الشباب في القراءة الإلكترونية، فعلينا أن نواصل الدعم لهذا المشروع، لكي يقف الجميع على إسهامات أمتهم في بناء الحضارة، فضلًا عن تعريف العالم بالحضارة العربية، التي لم تبق منها إلا صورة مشوهة أهملنا كثيرًا في تغييرها، بل رحنا نتابع كل يوم أحداثا مروعة تجاوزت عالمنا العربي إلى دول أوروبية كثيرة نتيجة قراءات مغلوطة وفهم ضيق ضاعف من تشويه تاريخنا وحضارتنا.

إذا كانت الثقافة هي القاعدة الراسخة في الوجدان العربي المشترك، فعلينا أن نضاعف من دعم مشروعات المعرفة سواء بالوسائل التقليدية (الورقية) أو الإلكترونية، وهو جهد لا يُكلف إلا أن نتسلح بالإرادة لدعم هذا القطاع الحيوي . وتعد فكرة البوابة الرقمية العربية القضية الجديرة بالعناية من خلال المؤسسات الثقافية في كل أقطارنا العربية، ونأمل أن يحظى هذا العمل بدعم المجتمع العربي، ولعل من المناسب أن تتولى إحدى الدول العربية رعاية هذا المشروع، الذي يقدم للعالم ما أنجزته الحضارة العربية في مختلف العلوم والفنون، ربما تتغير الصورة النمطية لتاريخ العرب وثقافتهم، والتي عجزنا حتى الآن عن تغييرها.

د. محمد صابر عرب أستاذ التاريخ بجامعة الأزهر ووزير الثقافة المصرية سابقا ورئيس مجلس إدارة الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية سابقا.