لم يكن مكتبا عاديا. كانت غرفة تضج بالإنتيكات المجلوبة من شتى بقاع العالم، ما يوحي بأن الغرفة تنتمي إلى عالم آثار، أكثر من إيحائها بأنها تعود إلى عالم نفس. لكن عينك تتجاهل كل التحف، واقعة على الأريكة؛ ليس لأن رجليك تعبتا من التجوال وحسب، بل لأنها على الأغلب ما جئت لتراه. تكاد تجزم بأنها الأريكة الأشهر في العالم، لا تعلو عليها شهرة -على الأغلب- سوى أريكة مقهى السنترل بارك.

فُرشت على الأريكة سجادة قشقائية منسوجة بخيوط زرقاء، حمراء، بنية، وبيضاء. سُدى السجادة ولحمتها من الصوف. ثمة أيضا عُقدٌ قُطرية تجمع الخطوط الأفقية والعمودية بمتانة. متن السجادة مزين بنمط فارسي تقليدي، فيما قُلمت حوافها بخطوط متوازية من الأزرق والأحمر، تلفها معا وتحافظ على النسيج في مكانه ضفائر زرقاء قصيرة.

أهدت الأريكة لفرويد -حوالي عام 1890- سيدة كان يُعالجها، وسافرت معه (الأريكة وليس السيدة) من فيينا إلى لندن عام 1938؛ لتستقر هناك، وتُصبح اليوم ليس مزارا يطوفه المئات فحسب، بل ورمزا للتحليل النفسي. إذ نرى أبطالنا على الشاشة يستلقون عليها قبل أن يُفصحوا عن أعمق مكنوناتهم.

تتحدث بإسهاب عن اللحظة، عن الأريكة، والسجادة، وما عليها من وسائد زاهية. فيما يقول صديق كان يُنصت لك أنه لا يهتم بتاريخ الأشخاص، وإنما بتاريخ الأفكار. ثم تسأل نفسك: ما الذي يجذبني إلى المتاحف التي تتخذ من البيوت التاريخية مكانا لها فيما يُطلق عليه بالسياحة الأدبية؟ ولماذا تمنحني هذه البيوت طاقة مختلفة عن تلك التي تمنحني إياها المتاحف ومعارض الحِقب؟

يزور الناس البيوت التاريخية؛ لأنها تمنحهم الحميمية التي لا تمنحها المتاحف. البيوت تُخبرك قصة سُكانها من الشخصيات المحبوبة (أو المعاداة) سلفا، أيا يكن فهي شخصيات لطالما حظيت باهتمامك. تحفظ البيوت التاريخية عناصرها في السياق الذي جاءت فيها. إنها تحفظ النسيج بأكمله، لا عناصره فحسب كما يحدث في المتاحف، التي يُصيبك سريعا الإنهاك من الدوران فيها لأنها لا تنفك تقفز بك من قصة لقصة، ومن موضوع لآخر.

كثيرا ما يحتار المرء -وهو يتجول في المتاحف- حول ما يُنتظر منه أن يتعلم منها، فيما تصرخ كل قطعة فيها بمعلومات لا يعرف المرء بالضرورة ماذا يفعل بها. فإن وجدت نفسك تائها -حرفيا واستعاريا- في الصالات العالية الأسقف، اعلم أن كثيرين يُشاطرونك هذا الشعور بالتيه.

في المقابل ما يُنفرّ البعض من البيوت التاريخية هو أنها تدور حول شخص ما -لا حول موضوع أو حقبة. أنها تُرسخ لفكرة العبقري، وتُشجع على رؤية التقدم (أيا يكن تحفظنا على الكلمة، أو تعريفنا للمفهوم) باعتباره سلسلة مما يُنجزه «العباقرة»، أو «الأبطال». فيما هم على الأغلب -أي النافرين من فكرة محورة التاريخ حول شخوصه- يختارون أن يروا التاريخ في العلاقات بين عناصره، وأن يروه باعتباره محكوما بصيرورة عضوية، لا يصنعها لاعبوه، بل التفاعل الحاصل بينهم. إنها رؤية تُركز على حتمية الحدث (أو الاكتشاف، أو الاختراع)، وتنزع عن الفاعلين المَثلنة (idealization) أو -وعلى الطرف المُقابل من الطيف- الشيطنة.

أو لعل مرد نفورهم هو رفض الانتماء إلى نادِي المُعجبين. والإصرار على التفريق بين الإعجاب بأعمال شخص ما، والإعجاب بشخصه. والآن لنحاول معا تحليل الآتي: من أين يأتي هذا الإصرار على صناعة هذه التفرقة؟ الجواب الأول الذي يتبادر إلى أذهاننا هو أننا نُصر على صناعة الفرق بين الفكرة ومفكرها؛ لأننا نُعجب أحيانا بفكرة (أو بفعل) تأتي من شخص لا يُعجبنا بالضرورة. وأننا بهذا نترك مساحة لأن نقول: رغم اختلافي مع فلان في كثير مما يقوله، إلا أنني أتفق معه في الشيء الفلاني. جواب آخر قد يكون في رؤية أن هذا -أي فكرة أن الإعجاب بعمل شخص، يعني الإعجاب به- يُلزمنا بفعل العكس أيضا. أي إلغاء الفاصل بين الفعل المستحق للوم (حتى لا نقول السيئ) ومن أتى به. فيبدو ذلك على نحو ما ضيق الأفق؛ لأنه لا يأخذ في الحسبان الملابسات والظروف التي وقع فيها الفعل المُستحق للوم. هذا يعني أن إلغاء الفاصل بين الإعجاب بالشخص أو بأعماله، يُهمل أيضا الظروف التي وفرت للشخص -المستحق لإعجابنا- المُناخ لأن ينمو ويزدهر، وهي ما قد يُعد رؤية قاصرة.

لكن ما هو الإعجاب في النهاية، إنه اهتمام موجه لشخص. إننا نُسائل عبر زيارتنا لبيته/ا، أو قراءة سيرته، كيف انتهى بأن يفعل ما فعله، ويفكر على النحو الذي يُفكر به، ويكتب لنا ما يكتبه. أمر تبجيله هو أمر جانبي، بإزاء النقطة الأساسية.

تُخبرنا البيوت ما تفشل المتاحف في قصه، وتمدنا بحرارة قليلا ما تمدنا بها المتاحف. إنها حميمية أن تشعر بالامتداد التاريخي لمن عاش فيه، دون قطيعة، ودون أن تُحمل عناصره (مثل دببة قطبية في حديقة حيوان) وتُوضع بعناية خلف الزجاج. تُوضع في غير مكانها.

إنه موسم السفر، وأيا تكن وجهتك للسياحة الثقافية أو الأدبية، أو موقعك في هذا النقاش.. استمتع!