المتابع لوسائل التواصل الاجتماعي وخصوصا «تويتر» يجد استياء كبيرا للخدمات المتعلقة بمنى بصورة أكبر، وعرفات بصورة أقل، كما يدرك المتابع الاستياء لارتفاع تكاليف الحاج بالنسبة للحملات مقابل الخدمات المقدمة، ويلقى كامل المسؤولية على بعثة الحج العمانية أولا، ووزارة الأوقاف العمانية المعنية بالحج والبعثة ذاتها ثانيا.
وهنا لستُ متحدثا عن أحد، وأدرك تماما معاناة الحجاج العُمانيين وغيرهم، فقد منَّ الله علي حج بيته الحرام تسع حجج، أغلبها مشيا متأملا ومتداخلا مع الحجاج، لأكتب رؤيتي في ذلك في مذكرة كاملة أضيفت إلى كتاب إضاءة قلم (الحلقة الأولى)، وفيها مراجعات عديدة، كما شاركت في بعثة الحج مرتين، وكتبت حولها مقالة منذ حوالي عشر سنوات: «في سبيل إصلاح بعثة الحج العمانية»، والعديد من المقالات الأخرى.
إن المشكلة أكبر من أن تحصر في «بعثة الحج العمانية» أو وزارة الأوقاف العمانية، فهي معنية بالحاج العماني فقط، بينما مشكلة الحج بما فيها مخيمات الحجاج بمنى هي أكبر بكثير، ولا ننكر جهود المملكة العربية السعودية في تنظيم الحج، وتطويره من عام إلى آخر، إلا أن الحج بحاجة في العديد من جزئياته إلى مراجعات هندسية في هندسة تطوير أماكن الحج، ومراجعات إدارية خصوصا في الاستغلال الفاحش للحاج، وما يتعلق بالتغذية والصحة والنظافة، والخدمات الأخرى الملازمة كالنقل ومكافحة التلوث، بجانب المراجعات الفقهية في العديد من جزئيات الحج وفق دائرة التيسير، بدل الأحوط المبالغ فيه، وخصوصا ما يتعلق بالمبيت في منى ورمي الجمار والإفاضة من منى وغيرها.
ولا أنكر هنا العديد من المراجعات التي يسرت على الناس أمر حجهم، واتجاه - علماء المملكة وغيرهم - إلى التيسير وفق المقاصد؛ عالج الكثير من القضايا، وأذكر من هذه مثلا مسألة الذبح يوم العاشر؛ فقد كان الحاج ينتظر لعشرات الساعات واقفا تحت الشمس حتى يأتي دوره في المعيصم، أمام زحام وتدافع، منهم من يسقط ومنهم يدافع معتمدا على قوته الجسمية، فكان اليوم العاشر متعبا ومجهدا، فلا هو نام جيدا في مزدلفة، ولولا جهد عرفة لما استطاع النوم أمام التلوث الصوتي وزحام الحجاج وتدافعهم، فضلا عن الطوابير أمام الحمامات حينها منتظرا دوره، فلابد أن تستيقظ قبل الفجر بساعة أو ساعتين لتتمكن من استخدام هذه المرافق بسهولة، وقد كان الهدي سابقا يستغني فقراء مكة عنه لكثرته، فيرمى في البر، فيتعفن، ويسبب الأمراض والروائح الكريهة، فأفتى الشيخ محمود شلتوت (ت 1963م) باستبدالها بالنقود لتحقيق الغاية مما واجه اعتراضا من الفقهاء، حتى جاءت المملكة ويسرت الأمر، فقامت باستبدال الهدي بالكوبونات ثم يتم الذبح وتوزيعه لفقراء العالم أثناء العام، ففهمت مراد قوله تعالى: {وَأَتِمُوا الْحَجَ وَالْعُمْرَةَ لِلَهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَهُ} (البقرة/ 196)، «وذلك لمن ساق الهدي معه، فلا يتحلل حتى يصل محله، أما الآن فالهدي في محله، وبدفع الكوبون برأت الذمة، وتحقق المقصد»، مع وجود آراء فقهية قديمة أكثر يسرا أيضا، منها في الفقه الإباضي المغاربي في ما يتعلق بالبعد الزمني لمن ساق الهدي وارتباطه بالمحل؛ فكان أكثر سعة من ربطه باليوم العاشر، إلا أن توحيد المملكة لهذا الأمر يسر للناس شعيرتهم زمنا، وحقق الغاية من الهدي، وما تفعله بعض الحملات من التنسيق مع شركات الذبح العديد يتلاعب به إما بيعا مستفيدا منه مرتين، أو تكديسا للحوم بطريقة عشوائية غير منظمة، رأينا شيئا من ذلك في بعض الحجج.
ومن ذلك أيضا التيسير في توسعة مكان رمي الجمار، وكان يومها من ذهب لرمي الجمار يعد في عداد الأموات، والخارج في عداد الأحياء، ومنهم من يشدد حتى على المرأة فعليها أن ترمي بنفسها، وفي اليوم العاشر عند رمي جمرة العقبة الكبرى منهم من يخرج عاريا، فهمه أن يخرج حيا، لهذا العديد يتبرع بردائه، كما أن الوضع سيئ يوم النفرة في الثاني عشر، لهذا رخص الفقهاء في الرمي قبل الزوال، ولهذا قامت المملكة بتوسيع مكان الرمي بدلا من عمود إلى حائط واسع، وفي طوابق منظمة، ومع هذا يحدث أحيانا من التدافع كما حدث في عام 2015م راح ضحيته ما يقارب من ثمانمائة شخص، وكنتُ حاضرا الحدث يومها، والكل يبحث عن مخرج ينجو منه، إلا أن الحال مع التنظيم أكثر يسرا من السابق.
ومن هذه أيضا النفرة من عرفات إلى مزدلفة قبل الغروب، وقد تعجبتُ من التشديد على الناس في المخيم العماني واعتبار حتى التحرك معصية، وقد يبطل حجه، وقد دخلت حينها في نقاش مع بعضهم، فللإفاضة من عرفة أقوال أشهرها: «يصح النفر قبل الغروب، وقيل يجوز التحرك إلى حدود عرفة قبل الغروب، وقيل يجب المكوث، ولولا سعة الخلاف لهلك الناس أثناء الإفاضة»، فينبغي التيسير في حال كهذا أمام أكثر من مليوني حاج في مكان واحد، فلو نفر الجميع في وقت واحد لهلك الناس، حيث المخارج قليلة، وبعضها ضيقة بسبب الخيام.
ولكي لا نطيل في الجوانب الفقهية نعود إلى الجانب الهندسي وهو المهم في نظري، فلا يعقل أن يكون حال منى اليوم كحالها قديما، فمنى منطقة صغيرة جدا، فهي واد صغير بين وادي محسر وموقع الجمرات الثلاث، يحدها من الجوانب جبال شاهقة، لا تتسع إلا لبضعة آلاف، فكيف اليوم يمكث فيها يومي التروية والنحر وأيام التشريق أكثر من مليوني حاج، في خيام تقدمت أنها ضد الحرائق؛ إلا أنها لا تليق وتطور عقل الإنسان وصحته، فقد كانت منى سابقا فضاء مفتوحا، يأتيك الهواء من كل مكان، أما اليوم فالخيمة الواحدة تشمل أكثر من مائة حاج، وأذكر سابقا أنك تلتصق بالآخر، ولا تنام إلا على جهة واحدة، هذا إن استطعت النوم بسبب الشخير وحرارة الجو، ومن الصعوبة أن تخرج ليلا حتى لا تؤذي الآخر، فيزاحم بعضهم أن ينام قريب باب الخيمة، إلا أنك ستتحمل إيذاء المارة والروائح الكريهة بسبب المياه، لهذا إن دخلت منى يوم التروية بصحتك؛ لن تخرج منها إلا مريضا، وقد كان المرض حالة طبيعية بين الناس، سيلازمك أسابيع بعد رجوعك إلى بلدك.
والعجيب أن تكون هذه المخيمات منها VIP، فضلا عن تقسيم خدمات الخيام وفق ما تدفع من مال، فطغى الجانب المالي على الجانب الإنساني، والنظرة إلى فوائد الشركات أكثر من النظرة إلى قيمة وصحة الحاج وراحته، ويزداد سوءا أمام تفاوت الحملات، فعليك أن تدفع أمام مغريات تقدمها لك الحملة قبل السفر، قد لا تجد العديد منها وقت الحج، وهناك عليك بالأمر الواقع، صابرا متصبرا.
وإذا جئنا إلى الحاج العماني - ولا أدري واقع المخيمات الأخرى - فمن تجربة لي كما أسلفت أن حال الحاج العماني يرثى له، ومقدر السخط السنوي الذي يُعانيه، إلا أن هذا السخط للأسف يترك للزمن أن يتجاوزه، دون شفافية في معرفة الأسباب، فهل هي أسباب خارجة عن إرادة البعثة ووزارة الأوقاف، أم أنها جزء من المشكلة، فالناس بحاجة لإجابة عن أسئلتها، وهذا حقهم الإنساني، وحتى لا يُظلم أحد، وتكون الصورة واضحة، وأما هذا السكوت العجيب فلا أدري ما أسبابه، في عالم مفتوح اليوم.
ففي الشتاء لا تستطيع النوم من حرارة الجو؛ فكيف بالصيف، حيث المكيفات غالبها لا تدرك منها إلا بشاعة صوتها، ولا أدري سبب بقاء الحمامات كما هي، فقد تجد الأنبوب مكسورا، والماء يخرج باندفاع، والقليل من يدخله؛ لأنه سيخرج ملطخا بالماء، وأحيانا يتوقف الماء بالكلية، وأذكر في بعض الحجج أن أحدهم سقط مغميا عليه من الوقوف والانتظار، كما أسمع كثيرا «حج يا حاج»، فبعضهم لا يتحمل فيسب البعثة، أو يرفع صوته بالصريخ، وإن كنت تعاني من الإسهال فتحمل الكلام الذي ستسمعه من الخارج حال تؤخرك، ففي هذه المواقف أن تصاب بحمى تجعلك رهين الفراش أسهل من أن تصاب بداء الإسهال، وإن تحدثت عن حمامات المخيم العماني في عرفة فالوضع أشد سوءا، إلا أنها قد يغفر لها لأنها لفترة قصيرة عكس منى، ومع هذا نحن نتحدث عن القرن الحادي والعشرين!!!
وفي كل سنة نجد سخطا على البعثة، إلا أن هناك من يعفي البعثة من المسؤولية لأنها تتسلم الخيم قبل فترة قصيرة، ولا أريد ظلم أحد هنا، فهذا يرجع إلى جهات المراقبة، ولأن البعثة اختارت المستوى D، فما أسباب اختيارها له، وهو مستوى متدن أمام أربعة عشر ألف حاج عماني، ثم ما مساحة الرقابة والمساءلة، ولماذا الحالة لا تتطور إلا ببطء شديد، عدا تكاليف الحاج المالية، ففي بداية الألفية تحج بسهولة بمبلغ أقل من خمسمائة ريال عماني، أما اليوم فالمبلغ تضاعف بشكل كبير، وبعضها مبالغ فيه، وأقرب إلى الاستغلال، وتحقق بعض الحملات الربح المبالغ فيه خلال عشرة أيام أو أقل.
وفي نظري أن يحدث خلل من البعثة فشيء طبيعي، فعمان بحاجة إلى هيئة مستقلة تعنى بشأن المقدسات، ومنها الحج، فضلا عن السياحة الدينية في عمان ذاتها، فلا يعقل من مكتب صغير في وزارة أن يعالج هذه الأزمة، ثم لا يعقل أن تعالجها بعثة تشكل قبل شهر أو شهرين، فهناك مسائل متعلقة بالرقابة أكبر من مخيمي منى وعرفة، حيث هناك تساؤلات ما زالت عالقة حول سكنى البعثة في المدينة ومكة وعهدتهما بعد مناسك الحج، ماذا عن تكاليفهما السنوية وعن العهدة، وهل يمكن استثمارهما للزائر العماني في غير أيام الحج، وماذا عن العدد الكبير المشارك في البعثة الذي قد يتجاوز المائتي شخص بتكاليفهم، ولماذا لا يفتح مجال التطوع الشبابي بعدد معقول لخدمة الحجاج فقط تتكفل الدولة لوازم النقل والسكن، دون تكاليف المكافآت التي قد تستثمر بشكل إيجابي في أمور أهم، ثم ما دور الرقابة حول هذا كله، وماذا عن التفكير الوقفي في دعم الحاج العماني، بحيث يكون للحج موارد ذاتية، بدلا من الاستهلاك السنوي من المالية العامة التي هي أقرب إلى الحق العام، وعن مراجعة جدية للحملات وتكاليفها وخدماتها.
أتصور أننا سندور في ذات الدائرة، وتمر عشر سنين أخرى وذات الإشكاليات تطرح، قد تخدر ببعض الإسقاطات النصوصية والمقارنات في غير محلها، تدعو إلى الصبر والاستطاعة، والمقارنة بالماضي، وببعض الدول الفقيرة، فنحن بحاجة إلى مراجعات تبدأ من مراجعة البعثة ذاتها، وتوسعة خدماتها من أيام الحج فقط إلى العام كله، شاملة الحج والعمرة وزيارة المقدسات مع السياحة الدينية داخل عمان، والانتقال من المستهلك فقط إلى المستثمر والمعتمد على الذات، مع الشفافية وتوسعة الرقابة، مما يخدم الإنسان العماني أولا، والمقيم في عمان ثانيا، والسائح إلى عمان ثالثا، وهذا كله يخدم رؤية عمان 2040.
وهنا لستُ متحدثا عن أحد، وأدرك تماما معاناة الحجاج العُمانيين وغيرهم، فقد منَّ الله علي حج بيته الحرام تسع حجج، أغلبها مشيا متأملا ومتداخلا مع الحجاج، لأكتب رؤيتي في ذلك في مذكرة كاملة أضيفت إلى كتاب إضاءة قلم (الحلقة الأولى)، وفيها مراجعات عديدة، كما شاركت في بعثة الحج مرتين، وكتبت حولها مقالة منذ حوالي عشر سنوات: «في سبيل إصلاح بعثة الحج العمانية»، والعديد من المقالات الأخرى.
إن المشكلة أكبر من أن تحصر في «بعثة الحج العمانية» أو وزارة الأوقاف العمانية، فهي معنية بالحاج العماني فقط، بينما مشكلة الحج بما فيها مخيمات الحجاج بمنى هي أكبر بكثير، ولا ننكر جهود المملكة العربية السعودية في تنظيم الحج، وتطويره من عام إلى آخر، إلا أن الحج بحاجة في العديد من جزئياته إلى مراجعات هندسية في هندسة تطوير أماكن الحج، ومراجعات إدارية خصوصا في الاستغلال الفاحش للحاج، وما يتعلق بالتغذية والصحة والنظافة، والخدمات الأخرى الملازمة كالنقل ومكافحة التلوث، بجانب المراجعات الفقهية في العديد من جزئيات الحج وفق دائرة التيسير، بدل الأحوط المبالغ فيه، وخصوصا ما يتعلق بالمبيت في منى ورمي الجمار والإفاضة من منى وغيرها.
ولا أنكر هنا العديد من المراجعات التي يسرت على الناس أمر حجهم، واتجاه - علماء المملكة وغيرهم - إلى التيسير وفق المقاصد؛ عالج الكثير من القضايا، وأذكر من هذه مثلا مسألة الذبح يوم العاشر؛ فقد كان الحاج ينتظر لعشرات الساعات واقفا تحت الشمس حتى يأتي دوره في المعيصم، أمام زحام وتدافع، منهم من يسقط ومنهم يدافع معتمدا على قوته الجسمية، فكان اليوم العاشر متعبا ومجهدا، فلا هو نام جيدا في مزدلفة، ولولا جهد عرفة لما استطاع النوم أمام التلوث الصوتي وزحام الحجاج وتدافعهم، فضلا عن الطوابير أمام الحمامات حينها منتظرا دوره، فلابد أن تستيقظ قبل الفجر بساعة أو ساعتين لتتمكن من استخدام هذه المرافق بسهولة، وقد كان الهدي سابقا يستغني فقراء مكة عنه لكثرته، فيرمى في البر، فيتعفن، ويسبب الأمراض والروائح الكريهة، فأفتى الشيخ محمود شلتوت (ت 1963م) باستبدالها بالنقود لتحقيق الغاية مما واجه اعتراضا من الفقهاء، حتى جاءت المملكة ويسرت الأمر، فقامت باستبدال الهدي بالكوبونات ثم يتم الذبح وتوزيعه لفقراء العالم أثناء العام، ففهمت مراد قوله تعالى: {وَأَتِمُوا الْحَجَ وَالْعُمْرَةَ لِلَهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَهُ} (البقرة/ 196)، «وذلك لمن ساق الهدي معه، فلا يتحلل حتى يصل محله، أما الآن فالهدي في محله، وبدفع الكوبون برأت الذمة، وتحقق المقصد»، مع وجود آراء فقهية قديمة أكثر يسرا أيضا، منها في الفقه الإباضي المغاربي في ما يتعلق بالبعد الزمني لمن ساق الهدي وارتباطه بالمحل؛ فكان أكثر سعة من ربطه باليوم العاشر، إلا أن توحيد المملكة لهذا الأمر يسر للناس شعيرتهم زمنا، وحقق الغاية من الهدي، وما تفعله بعض الحملات من التنسيق مع شركات الذبح العديد يتلاعب به إما بيعا مستفيدا منه مرتين، أو تكديسا للحوم بطريقة عشوائية غير منظمة، رأينا شيئا من ذلك في بعض الحجج.
ومن ذلك أيضا التيسير في توسعة مكان رمي الجمار، وكان يومها من ذهب لرمي الجمار يعد في عداد الأموات، والخارج في عداد الأحياء، ومنهم من يشدد حتى على المرأة فعليها أن ترمي بنفسها، وفي اليوم العاشر عند رمي جمرة العقبة الكبرى منهم من يخرج عاريا، فهمه أن يخرج حيا، لهذا العديد يتبرع بردائه، كما أن الوضع سيئ يوم النفرة في الثاني عشر، لهذا رخص الفقهاء في الرمي قبل الزوال، ولهذا قامت المملكة بتوسيع مكان الرمي بدلا من عمود إلى حائط واسع، وفي طوابق منظمة، ومع هذا يحدث أحيانا من التدافع كما حدث في عام 2015م راح ضحيته ما يقارب من ثمانمائة شخص، وكنتُ حاضرا الحدث يومها، والكل يبحث عن مخرج ينجو منه، إلا أن الحال مع التنظيم أكثر يسرا من السابق.
ومن هذه أيضا النفرة من عرفات إلى مزدلفة قبل الغروب، وقد تعجبتُ من التشديد على الناس في المخيم العماني واعتبار حتى التحرك معصية، وقد يبطل حجه، وقد دخلت حينها في نقاش مع بعضهم، فللإفاضة من عرفة أقوال أشهرها: «يصح النفر قبل الغروب، وقيل يجوز التحرك إلى حدود عرفة قبل الغروب، وقيل يجب المكوث، ولولا سعة الخلاف لهلك الناس أثناء الإفاضة»، فينبغي التيسير في حال كهذا أمام أكثر من مليوني حاج في مكان واحد، فلو نفر الجميع في وقت واحد لهلك الناس، حيث المخارج قليلة، وبعضها ضيقة بسبب الخيام.
ولكي لا نطيل في الجوانب الفقهية نعود إلى الجانب الهندسي وهو المهم في نظري، فلا يعقل أن يكون حال منى اليوم كحالها قديما، فمنى منطقة صغيرة جدا، فهي واد صغير بين وادي محسر وموقع الجمرات الثلاث، يحدها من الجوانب جبال شاهقة، لا تتسع إلا لبضعة آلاف، فكيف اليوم يمكث فيها يومي التروية والنحر وأيام التشريق أكثر من مليوني حاج، في خيام تقدمت أنها ضد الحرائق؛ إلا أنها لا تليق وتطور عقل الإنسان وصحته، فقد كانت منى سابقا فضاء مفتوحا، يأتيك الهواء من كل مكان، أما اليوم فالخيمة الواحدة تشمل أكثر من مائة حاج، وأذكر سابقا أنك تلتصق بالآخر، ولا تنام إلا على جهة واحدة، هذا إن استطعت النوم بسبب الشخير وحرارة الجو، ومن الصعوبة أن تخرج ليلا حتى لا تؤذي الآخر، فيزاحم بعضهم أن ينام قريب باب الخيمة، إلا أنك ستتحمل إيذاء المارة والروائح الكريهة بسبب المياه، لهذا إن دخلت منى يوم التروية بصحتك؛ لن تخرج منها إلا مريضا، وقد كان المرض حالة طبيعية بين الناس، سيلازمك أسابيع بعد رجوعك إلى بلدك.
والعجيب أن تكون هذه المخيمات منها VIP، فضلا عن تقسيم خدمات الخيام وفق ما تدفع من مال، فطغى الجانب المالي على الجانب الإنساني، والنظرة إلى فوائد الشركات أكثر من النظرة إلى قيمة وصحة الحاج وراحته، ويزداد سوءا أمام تفاوت الحملات، فعليك أن تدفع أمام مغريات تقدمها لك الحملة قبل السفر، قد لا تجد العديد منها وقت الحج، وهناك عليك بالأمر الواقع، صابرا متصبرا.
وإذا جئنا إلى الحاج العماني - ولا أدري واقع المخيمات الأخرى - فمن تجربة لي كما أسلفت أن حال الحاج العماني يرثى له، ومقدر السخط السنوي الذي يُعانيه، إلا أن هذا السخط للأسف يترك للزمن أن يتجاوزه، دون شفافية في معرفة الأسباب، فهل هي أسباب خارجة عن إرادة البعثة ووزارة الأوقاف، أم أنها جزء من المشكلة، فالناس بحاجة لإجابة عن أسئلتها، وهذا حقهم الإنساني، وحتى لا يُظلم أحد، وتكون الصورة واضحة، وأما هذا السكوت العجيب فلا أدري ما أسبابه، في عالم مفتوح اليوم.
ففي الشتاء لا تستطيع النوم من حرارة الجو؛ فكيف بالصيف، حيث المكيفات غالبها لا تدرك منها إلا بشاعة صوتها، ولا أدري سبب بقاء الحمامات كما هي، فقد تجد الأنبوب مكسورا، والماء يخرج باندفاع، والقليل من يدخله؛ لأنه سيخرج ملطخا بالماء، وأحيانا يتوقف الماء بالكلية، وأذكر في بعض الحجج أن أحدهم سقط مغميا عليه من الوقوف والانتظار، كما أسمع كثيرا «حج يا حاج»، فبعضهم لا يتحمل فيسب البعثة، أو يرفع صوته بالصريخ، وإن كنت تعاني من الإسهال فتحمل الكلام الذي ستسمعه من الخارج حال تؤخرك، ففي هذه المواقف أن تصاب بحمى تجعلك رهين الفراش أسهل من أن تصاب بداء الإسهال، وإن تحدثت عن حمامات المخيم العماني في عرفة فالوضع أشد سوءا، إلا أنها قد يغفر لها لأنها لفترة قصيرة عكس منى، ومع هذا نحن نتحدث عن القرن الحادي والعشرين!!!
وفي كل سنة نجد سخطا على البعثة، إلا أن هناك من يعفي البعثة من المسؤولية لأنها تتسلم الخيم قبل فترة قصيرة، ولا أريد ظلم أحد هنا، فهذا يرجع إلى جهات المراقبة، ولأن البعثة اختارت المستوى D، فما أسباب اختيارها له، وهو مستوى متدن أمام أربعة عشر ألف حاج عماني، ثم ما مساحة الرقابة والمساءلة، ولماذا الحالة لا تتطور إلا ببطء شديد، عدا تكاليف الحاج المالية، ففي بداية الألفية تحج بسهولة بمبلغ أقل من خمسمائة ريال عماني، أما اليوم فالمبلغ تضاعف بشكل كبير، وبعضها مبالغ فيه، وأقرب إلى الاستغلال، وتحقق بعض الحملات الربح المبالغ فيه خلال عشرة أيام أو أقل.
وفي نظري أن يحدث خلل من البعثة فشيء طبيعي، فعمان بحاجة إلى هيئة مستقلة تعنى بشأن المقدسات، ومنها الحج، فضلا عن السياحة الدينية في عمان ذاتها، فلا يعقل من مكتب صغير في وزارة أن يعالج هذه الأزمة، ثم لا يعقل أن تعالجها بعثة تشكل قبل شهر أو شهرين، فهناك مسائل متعلقة بالرقابة أكبر من مخيمي منى وعرفة، حيث هناك تساؤلات ما زالت عالقة حول سكنى البعثة في المدينة ومكة وعهدتهما بعد مناسك الحج، ماذا عن تكاليفهما السنوية وعن العهدة، وهل يمكن استثمارهما للزائر العماني في غير أيام الحج، وماذا عن العدد الكبير المشارك في البعثة الذي قد يتجاوز المائتي شخص بتكاليفهم، ولماذا لا يفتح مجال التطوع الشبابي بعدد معقول لخدمة الحجاج فقط تتكفل الدولة لوازم النقل والسكن، دون تكاليف المكافآت التي قد تستثمر بشكل إيجابي في أمور أهم، ثم ما دور الرقابة حول هذا كله، وماذا عن التفكير الوقفي في دعم الحاج العماني، بحيث يكون للحج موارد ذاتية، بدلا من الاستهلاك السنوي من المالية العامة التي هي أقرب إلى الحق العام، وعن مراجعة جدية للحملات وتكاليفها وخدماتها.
أتصور أننا سندور في ذات الدائرة، وتمر عشر سنين أخرى وذات الإشكاليات تطرح، قد تخدر ببعض الإسقاطات النصوصية والمقارنات في غير محلها، تدعو إلى الصبر والاستطاعة، والمقارنة بالماضي، وببعض الدول الفقيرة، فنحن بحاجة إلى مراجعات تبدأ من مراجعة البعثة ذاتها، وتوسعة خدماتها من أيام الحج فقط إلى العام كله، شاملة الحج والعمرة وزيارة المقدسات مع السياحة الدينية داخل عمان، والانتقال من المستهلك فقط إلى المستثمر والمعتمد على الذات، مع الشفافية وتوسعة الرقابة، مما يخدم الإنسان العماني أولا، والمقيم في عمان ثانيا، والسائح إلى عمان ثالثا، وهذا كله يخدم رؤية عمان 2040.