سواء كان تمرد فاجنر على القيادة العسكرية الروسية حقيقة أم مسرحية، فإنه يكشف سيناريو مخيفا لكل الدول، وقد جاء في الوقت المناسب رغم أن مؤشراته بدأت منذ الغزو الأمريكي لأفغانستان 2001، والعراق 2003، وذلك عندما عجز الاحتلال الأمريكي عن صناعة جيشين بعقيدة وطنية، وبعد مرور أكثر من 20 عاما على الغزو الأمريكي للعراق، انكشف الآن هذا السيناريو، وهو أنه لا يمكن الرهان على الشركات الأمنية الخاصة التي تتكون من مرتزقة أو مليشيات مسلحة مدفوعة الثمن، ولاؤها للمال، وأفرادها خليط من خلفيات متعددة، وقد أصبحت تقوم بأعمال موازية للجيوش الوطنية بل ولها تداعيات اجتماعية.
وبالتالي، فإن من يدفع أكثر ستكون بوصلتها إليه سواء في داخل الدولة أو من خارجها عاجلا أم آجلا، ومن كثرة اعتماد دول كبرى وأخرى إقليمية على الشركات الأمنية، حتى أصبحنا نتوقع أن تحل محل الجيوش الوطنية، ومرتزقة فاجنر ليست الوحيدة في العالم، فهناك الكثير من المرتزقة قد أصبحت مشرعنة دوليا تحت مظلة كيانات نفعية في هيئة شركات، وينظمها القانون الدولي، لأنها صنيعة الدول الكبرى، وبالتالي تكون تبعيتها معلنة أو مستترة لدول مثل فاجنر لروسيا، وبلاك ووتر لأمريكا... الخ، وتؤجر لدول أخرى، ويستعان بها لمهمات قتالية أو لحراسة شخصيات قيادية ومنشآت سيادية.
وعندما قرر قائد فاجنر يفجيني بريغوجين ترك ساحة القتال في أوكرانيا، ودخول موسكو لتحقيق ما أسماه « بالعدالة »، وحرك فعلا قواته وأسلحته الثقيلة إليها، تعاظمت قوة المرتزقة على الجيش الروسي، وأعطيت لها سيناريوهات مخيفة، لعل أبرزها اندلاع حرب أهلية، ووضعت مستقبل الرئيس بوتين في مدى شعبيته بين الروس وقادته العسكريين والأمنيين، أي الولاء والانتماء له.. وهذا ينبغي أن يكون أهم الدروس المستفادة الآن لكل الدول حتى لو كانت قصة فاجنر مسرحية، فقد صورت مشهد ضعف دولة عظمى في مواجهة مرتزقة من صناعتها باعتراف بوتين نفسه.
من هنا نرى أن يوم السبت 24 يونيو الماضي، وهو تاريخ تمرد / مسرحية / شركة فاجنر الأمنية قد وضع كل دول العالم بما فيهم الدول الخليجية، وليس موسكو فحسب، أمام مخاطر أي قوة أمنية أو عسكرية تتشكل بصورة متوازية مع قوتها الوطنية، أو يستعان بها لمهمات وطنية داخلة أو خارجية، أو حتى أي قوة محلية لا ترتبط بالمنظومة الأمنية والعسكرية الوطنية، ولا تنسجم مع عقيدتها الأيديولوجية، فكيف إذا ما كانت هذه القوة تتبع شركات أجنبية، وأفرادها من ضباط وأفراد متقاعدين أو أصحاب سجون.. وشكلتها دول كبرى.. الخ ؟.
كيف يوثق بها، وهي تفتقد للعقيدة الوطنية؟ وأي قوة أمنية وعسكرية أو حتى مدنية لا تتأسس بمرجعية وطنية، فلن تصمد طويلا في دفاعها عن المصالح والقضايا التي من أجلها أسست أو أنيط بها الدفاع عنها، وهنا منطقة استشراف موازية للمشهد الروسي، وهي تكمن في استعانة بعض الأنظمة في المنطقة بهذه الشركات الأمنية لحراسة منشآت سيادية داخلها وخارجها، وكذلك دخول الحرب نيابة عنها في مناطق نزاع خارجية.. وتمنحها امتيازات مالية ومعنوية أكثر من قوتها الأمنية والعسكرية الوطنية.
وهي تكمن كذلك في تبني الأنظمة بالمنطقة خططا وسياسات تضعف من قوتها الاجتماعية.. مما سينعكس سلبا على العقائد الوطنية التي تأسست عليها قواها الوطنية «المدنية والعسكرية والأمنية» ولنا مثل في الجيش الأفغاني الذي شكلته واشنطن وزودته بأرقى العتاد والعدة، إذ أنفقت عليه 83 مليار دولار منذ عام 2001، فهو لم يصمد في وجه المقاتلين الأفغان، وذلك لغياب العقيدة الوطنية، مقابل قوة العقيدة للمقاتلين، وهناك نماذج عدة يمكن أن تعضد هذا الاستنتاج.
وبذلك تكون الشركات الأمنية الخاصة تمس جوهر وشكل العقائد الوطنية لكل دولة في المنطقة، مثل العقيدة العسكرية والعقيدة الدينية والعقيدة الاجتماعية... الخ، وتطال كذلك الدروس المستفادة من ماضيها، مما يعني أن هذه الشركات تحطم القواعد التأسيسية الاستراتيجية للدولة الوطنية، وبالتالي تفرغ الوطنية من مقوماتها الأساسية مثل التضحية في سبيل الوطن.. دون أن تكون هناك ضمانة مستدامة على عدم خيانة هذه الشركات عقودها مع الدول، وتميل مع من يدفع لها أكثر، أو مع الدول التي أسستها، ويتزامن معها ضعف المعنويات الاجتماعية من جراء الضرائب والرسوم والمرتبات الضعيفة.. الخ.
ومن هنا، يكون الخطر المحدق بالدول داخليا، وقد يتقاطع معه الخارج، ومن هنا كذلك، تبرز أهمية تحليل النتائج التي تخرج من قضية فاجنر مع موسكو من جهة، واعتماد الأنظمة على المرتزقة في حماية مصالحها الاستراتيجية من جهة أخرى، فالدول الكبرى لم تعد فيها الثقة قائمة رغم الاتفاقيات الاستراتيجية طويلة الأجل معها، فكيف يثق في هذه الشركات الأمنية؟
وكل متابع لعدد وانتشار الشركات الأمنية في العالم يصيبه الرعب، ويتساءل، من وراءها ؟ وكيف تمكنت من عبور الحدود الوطنية للدول؟ وكيف لم تنتبه الدول لمخاطرها؟ والباحث باسل النيرب يقدر في كتابه «المرتزقة » الصادر عام 2008، عدد الشركات الأمنية في العالم، ويطلق عليها كذلك جيوش الظل، بما يزيد على 300 ألف شركة، وفي العراق وحده 60 شركة، وعددهم ما بين 15- 20 ألفا، منهم ما بين 5- 10 آلاف من جنوب إفريقيا -وفق مصادر الجزيرة- وتقدر وزارة الخارجية الفرنسية قيمة عائدات شركات الأمن الخاصة بحوالي 400 مليار دولار، وفي دراسة للباحث الأردني وليد عبدالحي نشرتها الجزيرة، ذكر فيها أن مجموع أرباح هذه الشركات في الوطن العربي 45 مليار ما بين 2011 و2014.
وهنا يظهر ما تستنزفه هذه الشركات من حجم مالي ضخم من خزائن الدول، أولى بها تنميتها الداخلية، وكذلك ما تستنزفه من معنويات داخلية متعددة، وهنا المفارقة، وهي أن الدول التي تستعين بهذه الشركات تكون بذلك مخاطرة بأمنها واستقرارها داخليا وخارجيا معا، وفي آن واحد، حيث تضعف قوتها الصلبة المتمثلة في قوتها الأمنية والعسكرية والمجتمع ومؤسساته ، وواقعة فاجنر تفترض أن يكون الاعتماد على الشركات الأمنية قد انتهى الآن.
والرهان المطلق على القوة الوطنية المتعددة الأنواع -الاجتماعية والأمنية والعسكرية والاقتصادية- وجعلها دائما صلبة بصورة مستدامة، خاصة أن الظرفية الراهنة، تؤسس عولمة الفقر والإلحاد والمثلية، واستغلال فتح المجتمعات الخليجية من خلال عدة أبواب أساسية، كالباب الاستثماري الذي يقود كبرى المتغيرات في منطقة الخليج، وفي كل القطاعات الاستراتيجية، ولن يستثنى أي قطاع بما فيه السياسي، ونشدد هنا على تعميق التركيبة السكانية في الخليج، لذلك فدول المنطقة بحاجة ماسة ليس إلى الحفاظ، بل تعزيز قوتها الصلبة سالفة الذكر، فهي ضمانات لمستقبل الاستقرار والأمن للدول بشعوبها وأنظمتها.
د. عبدالله باحجاج كاتب عماني مهتم بالشأن الخليجي والتغيرات الاجتماعية والسياسية التي تطرأ عليه
وبالتالي، فإن من يدفع أكثر ستكون بوصلتها إليه سواء في داخل الدولة أو من خارجها عاجلا أم آجلا، ومن كثرة اعتماد دول كبرى وأخرى إقليمية على الشركات الأمنية، حتى أصبحنا نتوقع أن تحل محل الجيوش الوطنية، ومرتزقة فاجنر ليست الوحيدة في العالم، فهناك الكثير من المرتزقة قد أصبحت مشرعنة دوليا تحت مظلة كيانات نفعية في هيئة شركات، وينظمها القانون الدولي، لأنها صنيعة الدول الكبرى، وبالتالي تكون تبعيتها معلنة أو مستترة لدول مثل فاجنر لروسيا، وبلاك ووتر لأمريكا... الخ، وتؤجر لدول أخرى، ويستعان بها لمهمات قتالية أو لحراسة شخصيات قيادية ومنشآت سيادية.
وعندما قرر قائد فاجنر يفجيني بريغوجين ترك ساحة القتال في أوكرانيا، ودخول موسكو لتحقيق ما أسماه « بالعدالة »، وحرك فعلا قواته وأسلحته الثقيلة إليها، تعاظمت قوة المرتزقة على الجيش الروسي، وأعطيت لها سيناريوهات مخيفة، لعل أبرزها اندلاع حرب أهلية، ووضعت مستقبل الرئيس بوتين في مدى شعبيته بين الروس وقادته العسكريين والأمنيين، أي الولاء والانتماء له.. وهذا ينبغي أن يكون أهم الدروس المستفادة الآن لكل الدول حتى لو كانت قصة فاجنر مسرحية، فقد صورت مشهد ضعف دولة عظمى في مواجهة مرتزقة من صناعتها باعتراف بوتين نفسه.
من هنا نرى أن يوم السبت 24 يونيو الماضي، وهو تاريخ تمرد / مسرحية / شركة فاجنر الأمنية قد وضع كل دول العالم بما فيهم الدول الخليجية، وليس موسكو فحسب، أمام مخاطر أي قوة أمنية أو عسكرية تتشكل بصورة متوازية مع قوتها الوطنية، أو يستعان بها لمهمات وطنية داخلة أو خارجية، أو حتى أي قوة محلية لا ترتبط بالمنظومة الأمنية والعسكرية الوطنية، ولا تنسجم مع عقيدتها الأيديولوجية، فكيف إذا ما كانت هذه القوة تتبع شركات أجنبية، وأفرادها من ضباط وأفراد متقاعدين أو أصحاب سجون.. وشكلتها دول كبرى.. الخ ؟.
كيف يوثق بها، وهي تفتقد للعقيدة الوطنية؟ وأي قوة أمنية وعسكرية أو حتى مدنية لا تتأسس بمرجعية وطنية، فلن تصمد طويلا في دفاعها عن المصالح والقضايا التي من أجلها أسست أو أنيط بها الدفاع عنها، وهنا منطقة استشراف موازية للمشهد الروسي، وهي تكمن في استعانة بعض الأنظمة في المنطقة بهذه الشركات الأمنية لحراسة منشآت سيادية داخلها وخارجها، وكذلك دخول الحرب نيابة عنها في مناطق نزاع خارجية.. وتمنحها امتيازات مالية ومعنوية أكثر من قوتها الأمنية والعسكرية الوطنية.
وهي تكمن كذلك في تبني الأنظمة بالمنطقة خططا وسياسات تضعف من قوتها الاجتماعية.. مما سينعكس سلبا على العقائد الوطنية التي تأسست عليها قواها الوطنية «المدنية والعسكرية والأمنية» ولنا مثل في الجيش الأفغاني الذي شكلته واشنطن وزودته بأرقى العتاد والعدة، إذ أنفقت عليه 83 مليار دولار منذ عام 2001، فهو لم يصمد في وجه المقاتلين الأفغان، وذلك لغياب العقيدة الوطنية، مقابل قوة العقيدة للمقاتلين، وهناك نماذج عدة يمكن أن تعضد هذا الاستنتاج.
وبذلك تكون الشركات الأمنية الخاصة تمس جوهر وشكل العقائد الوطنية لكل دولة في المنطقة، مثل العقيدة العسكرية والعقيدة الدينية والعقيدة الاجتماعية... الخ، وتطال كذلك الدروس المستفادة من ماضيها، مما يعني أن هذه الشركات تحطم القواعد التأسيسية الاستراتيجية للدولة الوطنية، وبالتالي تفرغ الوطنية من مقوماتها الأساسية مثل التضحية في سبيل الوطن.. دون أن تكون هناك ضمانة مستدامة على عدم خيانة هذه الشركات عقودها مع الدول، وتميل مع من يدفع لها أكثر، أو مع الدول التي أسستها، ويتزامن معها ضعف المعنويات الاجتماعية من جراء الضرائب والرسوم والمرتبات الضعيفة.. الخ.
ومن هنا، يكون الخطر المحدق بالدول داخليا، وقد يتقاطع معه الخارج، ومن هنا كذلك، تبرز أهمية تحليل النتائج التي تخرج من قضية فاجنر مع موسكو من جهة، واعتماد الأنظمة على المرتزقة في حماية مصالحها الاستراتيجية من جهة أخرى، فالدول الكبرى لم تعد فيها الثقة قائمة رغم الاتفاقيات الاستراتيجية طويلة الأجل معها، فكيف يثق في هذه الشركات الأمنية؟
وكل متابع لعدد وانتشار الشركات الأمنية في العالم يصيبه الرعب، ويتساءل، من وراءها ؟ وكيف تمكنت من عبور الحدود الوطنية للدول؟ وكيف لم تنتبه الدول لمخاطرها؟ والباحث باسل النيرب يقدر في كتابه «المرتزقة » الصادر عام 2008، عدد الشركات الأمنية في العالم، ويطلق عليها كذلك جيوش الظل، بما يزيد على 300 ألف شركة، وفي العراق وحده 60 شركة، وعددهم ما بين 15- 20 ألفا، منهم ما بين 5- 10 آلاف من جنوب إفريقيا -وفق مصادر الجزيرة- وتقدر وزارة الخارجية الفرنسية قيمة عائدات شركات الأمن الخاصة بحوالي 400 مليار دولار، وفي دراسة للباحث الأردني وليد عبدالحي نشرتها الجزيرة، ذكر فيها أن مجموع أرباح هذه الشركات في الوطن العربي 45 مليار ما بين 2011 و2014.
وهنا يظهر ما تستنزفه هذه الشركات من حجم مالي ضخم من خزائن الدول، أولى بها تنميتها الداخلية، وكذلك ما تستنزفه من معنويات داخلية متعددة، وهنا المفارقة، وهي أن الدول التي تستعين بهذه الشركات تكون بذلك مخاطرة بأمنها واستقرارها داخليا وخارجيا معا، وفي آن واحد، حيث تضعف قوتها الصلبة المتمثلة في قوتها الأمنية والعسكرية والمجتمع ومؤسساته ، وواقعة فاجنر تفترض أن يكون الاعتماد على الشركات الأمنية قد انتهى الآن.
والرهان المطلق على القوة الوطنية المتعددة الأنواع -الاجتماعية والأمنية والعسكرية والاقتصادية- وجعلها دائما صلبة بصورة مستدامة، خاصة أن الظرفية الراهنة، تؤسس عولمة الفقر والإلحاد والمثلية، واستغلال فتح المجتمعات الخليجية من خلال عدة أبواب أساسية، كالباب الاستثماري الذي يقود كبرى المتغيرات في منطقة الخليج، وفي كل القطاعات الاستراتيجية، ولن يستثنى أي قطاع بما فيه السياسي، ونشدد هنا على تعميق التركيبة السكانية في الخليج، لذلك فدول المنطقة بحاجة ماسة ليس إلى الحفاظ، بل تعزيز قوتها الصلبة سالفة الذكر، فهي ضمانات لمستقبل الاستقرار والأمن للدول بشعوبها وأنظمتها.
د. عبدالله باحجاج كاتب عماني مهتم بالشأن الخليجي والتغيرات الاجتماعية والسياسية التي تطرأ عليه