في سياق رغبتي في تعديل كفّة الاهتمام النقدي بالنشاط السردي في عُمان من خلال تجارب هي الأحدث في الكتابة القصصيّة، أردتُ أن أمهّد بهذا المقال قبل الانصراف إلى أخْذ كلّ تجربة على حدة، وأن أشير إلى بعض الملامح العامّة للتجربة القصصيّة العُمانيّة في مجموعاتٍ قديمة بعض الشيء وأن أخرج منها بأسئلةٍ معرفيّة تُمهّد لي طريق البحث في الحادث، فكما سبق أن أشرتُ في مقالي السابق إلى وجود تراكم في الكتابة القصصيّة في عُمان، وهو تراكمٌ احتوى رؤية أحيانا وخلا منها أحيانا، وقد استخلصتُ من هذا التراكم جملة من النتائج التي وسمتُ بها مساراتٍ أعتبرها فاعلة في تحديد ملامح القصّة القصيرة العُمانيّة، ملامح صاغها عددٌ من الكُتّاب الذين كانت رحلةُ الكتابة عندهم هي رحلة تجريب وفعل وجود. ثلاث مسائل تعنيني جدّا في دراستي للقصّة القصيرة أولاها أن تكون القصّة متقبّلة القبول الحسن بما تُحْدثه من أثرٍ في القارئ بهتة أو عجبا أو غضبا أو تساؤلا أو مفاجَأة (وهو عُمق اختلافها عن الرواية)، وثانيها أن تكون اللّغة مسايرةً لأجواء القصّة، سُخريّةً أو جديّةً أو فلسفيّة أو روحية وأن تحوي مضمونا ممكنا غيما كان أو صفاء. في هذا يحقّ لي أن أتساءل هل اختلفت تجربة جوخة الحارثي الحاليّة عمّا كتبته في مجموعتها القصصيّة «صبيّ على السطح»؟ وهل سنّ يحيى سلام المنذري سبيلا يخرج عن سُبله في تجاربه القصصيّة السابقة «نافذتان لذلك البحر» و«الطيور الزجاجيّة»؟ وهل وجدت هُدى حمد ما به تنزعُ جبّة «نميمة مالحة» والإشارة برتقاليّة الآن»؟ وهل خطّ حمود سعود وجهه القصصيّ الذي يُفرده؟ لعلّي كنتُ وما زلتُ أرى أنّ السرْد معقودٌ على برزخ قاطع واصل بين المرجع الواقع والمرجع التخييل وصاحبُ هذا البرزخ هو الراوي الذي يتهيّأ إنسانا طورا ويتبخّرُ خطابا أطورا. الراوي عُنصرٌ أساسٌ في بناء القصّة، وعلى كاتبها أن يُفكّر في تصاريفه ووجهاته، فهو ضروريّ، مركزيّ في البناء السردي، ذلك أنّه الجهة التي يتأسّس عليها الخطاب القصصي والطرف الذي يُنجز الأحداث ويدير الشخصيّات ويتصرّف في الزمن، وهي العناصر المشكّلة للقصّة. وبسبب من تنوّع مظاهر القصّة في الأدب العماني وتعدّد تجاربها فإنّ صُوَر الراوي تأخذ ألوانا وأشكالا ووجوها مختلفة (وهو أمرٌ لا تختصّ به القصّة في عُمان، وإنّما هو مشكِّل لظاهرة قصصيّة عامّة)، وقد أدركتُ امتدادا بيّنا لحضور الراوي في مختلف من القصص التي درستُها، وهو حضورٌ منبئ بتجلّي الذات الكاتبة (مع احترام الفصل النظريّ المنهجيّ في السرديّات بين الكاتب من حيث وجوده الجثمانيّ التاريخيّ والراوي من حيث وجوده اللغويّ الخطابيّ) وذاك لا يعني أنّ القصّة العمانية بتمامها متوجّهة إلى احتواء هذه الذات في مختلف حالاتها، وإنّما هي ظاهرة غالبة أدركتُ حضورها في مقاربتي لحركة الرؤية. ذلك أنّ أشكال ظهور الراوي ومراتبه تختلف من قصّة إلى أخرى، وقد يتوفّر فيها التكلّم بضمير الأنا، بناء للشخصيّة الراوية، وقد تَحدث المغايرة بين الشخصيّة والذات الراوية. وقد كانت الذات الراوية في تعالق ملحوظ مع الذات الكاتبة في عدد من القصص، بشكل صارخ وواضح أحيانا، وهي طريقٌ في البحث نعمد إليها لإثبات أنّ وجود الراوي في بنية السرد عموما لا يُفصل عن كونه الخارجي ولا يُعزل عنه، وإنّما من أسباب قوّة السرد هو هذه القدرة على احتواء الخارج واستيعابه في أنساق الخطاب المتعدّدة. وفي هذا السياق ذاته فإنّ عددا من الأعمال القصصيّة توجّهت إلى الارتباط بظاهرة السيرة الذاتية في شكلها الموسّع، أي إلى التقاط مشاهد من واقع المتكلّم، وهنا تتداخل أطراف ثلاثة على قدر من الأهميّة وهي الكاتب والراوي والشخصيّة، وفي تداخلها تأسيسٌ لخطاب تَعْلُق أحداثه بمسار الكاتب، وهي سمةٌ هامّة، نلحظها في التمسّك بالمكان الإحالي، وفي الإحالة إلى وقائع بعينها، في التماهي بين الكاتب والراوي، إذ يصدر القاصّ العماني من واقعه في قسم ممّا يقصّ، يُعبّر عنه بشكل بيّن، حيث يُوظّف جملة من الإحالات الاسميّة والوصفيّة والمكانية والحَدَثيّة التي تُظهر للقارئ واقعا محليّا كثيرا ما يتوجّه إليه السارد بسرده. لاحظت ذلك في «لماذا لا تمزح معي» لمحمود الرحبي، وفي «الأشياء أقرب مما تبدو في المرآة» لسليمان المعمري وفي «لا يفل الحنين إلاّ الحنين» لعبد العزيز الفارسي وفي «لعنة الأمكنة» للخطّاب المزروعي وفي غيرها من أعمال عديدة، فهل خرجت هذه الأعمال من نطاق «السيرة» إلى نطاق «تقصيص السيرة» أو تمثيلها وتصويغها وتحويل جوهرها؟ التصاق القاصّ العماني بواقعه –وهو أمرٌ لا خلل فيه ولا عيب في اعتماده- يعمل على تحويله قصصا يُروى، وبسبب من انفتاح القصّة القصيرة وقدرتها على استيعاب الواقع وإعادة تمثيله، فقد مثّلت الجنس الذي انصرف إليه الكتّاب حتّى يحوي جموحهم ورغبتهم في التعبير عمّا يُزعج في هذا الواقع. هي ليست القصّة الواقعيّة بالمعنى التقليدي وإنّما هي تمثّل للواقع وإعادة تركيب لعناصره وعرضه في هيئة قصصيّة، ومن منظور خاصّ، إنّ ما عبّرنا عنه بقصّة السيرة الذاتية لا ينفي قدرة على القصّ وتحكّما في المادّة الحدثيّة، عين الراوي هي عين الكاتب ولا فاصل بينهما في عدد من القصص وهو أمر يؤسّس لنمط قصصي فيه من الاختلاف والرغبة في التجديد باعتبار التحكّم في الأشكال السرديّة وعدم الجنوح إلى نقل الواقع، وإنّما إلى تمثيله بطريقة قد تكون قريبة إلى الواقع وقد تكون بعيدة عنه. القُربُ من الوقائع أو النأي عنها بأشكال ووسائط مختلفة، أي القُدرة على محو المرجع وإثباته في الآن ذاته هو المعيار الذي أتوخّاه في بيان القُدرة التخييليّة للتجارب القصصيّة التي أتناولها في لاحق المقالات.