في الثاني عشر من شهر أغسطس 2022 ذُهل عالم الأدب بمحاولة اغتيالٍ وحشيّة لسلمان رشدي Salman Rushdie وهو بصدد بدء وإلقاء محاضرة لمؤسّسة Chautauqua في ولاية نيويورك بالولايات المتّحدة الأمريكية، حين اقتحم رجلٌ المسرح وطعنه عدّة مرّات بسكّين. نُقل رشدي إلى المشفى مصابا بجروحٍ خطيرة وخضع لعملية جراحية طارئة. أصبح رشدي منذ هذا الهجوم أعمى بعين واحدة.
اعتُقل المعتدي هادي مطر Hadi Matar البالغ من العمر 24 عاما المنحدر من نيوجرسي New Jersey، وهو ابن لمهاجر لبناني، في مكان إقامة الفعالية بتهمة الشروع في القتل.
وُلد سلمان رشدي في بومباي Bombay عام 1947، وفي سنّ الرابعة عشر ذهب ليدرس في مدرسة بإنجلترا، ودرس التاريخ في جامعة كامبريدج Cambridge وعمل في بادئ الأمر في كتابة الإعلانات وصحفيّا. نجح في اختراق الأدب في عام 1981 مع رواية أطفال منتصف الليل Mitternachtskinder التي حصل بسببها على جائزة البوكر BookerPreis التي تُعدُّ أهمّ جائزة أدبية بريطانيّة. بعد نشر روايته آيات شيطانية Die satanischen Verse نطق قائد الثورة الإيرانية آية الله روح الله الخميني Ajatollah Ruhollah Chomeini بما يُسمّى بالفتوى مطالبا بقتله، ليعيش رشدي مختبئا تحت تدابير أمنية احتياطيّة مشدّدة، ولكن مع مرور الزمن عاد للحياة العامة مرّة أخرى.
قبل محاولة اغتياله في العام الماضي، كان سلمان رشدي قد انتهى بالفعل من روايته الخامسة عشرة مدينة النصر Victory City التي ستصدر قريبا باللغة الألمانية. أساس الرواية ونسيجها مستوحى من إمبراطورية فيجاياناغارا VijayanagarReich في جنوبيّ الهند. لعبت مدينة النصر دورا في الفترة ما بين القرنين الرابع عشر والسادس عشر. المؤسّسة الافتراضية للامبراطورية بامبا كامبانا Pampa Kampana تحديدا عاشت على مدار قرنين من الزمن تقريبا، حيث قادت صعود بلدها وفي النهاية عاشت انحداره أيضا كما يُفترض. في امبراطوريتها سادت حرّية الدين والمساواة، ولكن كانت مهدّدة باستمرار بالمكائد السياسية والولايات المتنازعة، وبالتزمّت الديني.
يجب أن أعيش إلى أن أموت
عبارة الكاتب سلمان رشدي في حديث عن روايته الجديدة «مدينة النصر»، وعن الهجوم عليه في شهر أغسطس الماضي وشعاره في الحياة الذي منحه السلوان لسنواتٍ عديدة
* كيف حالك؟ كيف قضيتَ فترة الصباح؟
لقد جلستُ على طاولة الكتابة محاولا الكتابة قليلا. حسنا، لأكون صادقا لم يكن هنالك الكثير من النجاح اليوم.
•عمّا تكتب الآن؟
عمّا حدث لي.
• عن الهجوم بالسكّين عليك في الـ Chautauqua في أغسطس الماضي؟
أحاول الآن الاستدلال على ما يمكن أن يبدو عليه نصٌّ ما عن ذلك، ومعرفة ما إذا كان يمكنه أن يعمل جيّدا. ما زلتُ حقا في البداية تماما من هذا المُراد.
• الآن ينشر كتاب سبق لكم أن كتبتموه قبل الهجوم، يتحدّثُ عن مملكة فيجاياناغارا Vijayanagar العظمى من القرن الرابع عشر الميلادي، التي وُجدت في جنوبي الهند حوالي مائتي عام. تتحدّثون عن صعود وسقوط هذه الإمبراطورية، مع وجود أبطالٍ كثر للرواية. ملحمة تاريخية حقيقية. كيف تصفونها شخصيّا؟
مشكلة فيجاياناغارا التاريخية هي وجود فجواتٍ كبيرة مما وصلنا عنها، لكن هذا بالضبط ما نقدّمه مع وجود هامشٍ هائل لحركة الروائي. لن أقوم بتدريس التاريخ لأحد، وأوصي بإعارة كتابي الكثير من الاهتمام، لكن هنالك أشياء معيّنة في عملي وهي وقائع تاريخية حقيقية في الواقع. على سبيل المثال، فقد سيطر تسامح مذهل في فيجاياناغارا، فقد كان هنالك تسامح مع أديان كانت هي الأكثر تنوّعا واختلافا، مع انفتاح واسع جدا في الموقف من دور المرأة في المجتمع، فقد وُجدت إناثٌ من التجّار ومحامياتٌ حقوقيّات، بل إنه كانت هنالك جنرالات عسكرية من النساء. ساد ذلك قبل قرون عديدة في جنوبيّ الهند، وهذا أمرٌ مفروغٌ منه تماما.
• أووه، لقد اعتقدتُ أنّ هذا بالضبط سيكون من اختلاقك وتخيّلك.
نعم، كما ترى فإنّ المضحك في كتابي هو أنّ كل الأشياء التي افترض القرّاء أنّها متخيّلة مختلقة كانت حقيقية، وكل ما افترضه القرّاء تاريخيّا هو متخيّل.
• ما الذي ابتكرته (تخيّلته) قبل كلّ شيء؟
من الواضح جدا أنها بطلتي الرئيسية بامبا كامبانا Pampa Kampana.
• مع بامبا كامبانا يتعلّقُ الأمر بامرأة اختارتها إحدى الآلهة لتكون قدّيسة شفيعة تخدم فيجاياناغارا، وتشيخُ ببطء مدهش بحيث تعيش طويلا كما هي حال المملكة نفسها، وهو ما يقارب الـ 250 سنة.
بالطبع كان عليّ طرح السؤال عن كيفية تكثيف قصّةٍ استمرّت على مدار حقبة زمنية طويلة، وحين تمعّنتُ في المشكلة خطرت بذهني بامبا التي قالت لي:
«فقط استمع إليّ وسأُخبرك بالقصّة الآن».
• تماما مثلما تمّ اختيار بامبا من قبل إحدى الآلهة.
نعم، وهذا نادرا ما يحدث، بحيث تظهر شخصيّةٌ من العدم. حسنا، ربّما ليس من العدم تماما. يبدأ الكتاب بمشهدٍ تاريخيّ، حيث وبسبب مقتل كلّ الرجال من أحد الشعوب بالهند في الحرب تبادر النساء في زمنٍ ما إلى انتحار جماعي، فوجدتُ أمام عينيّ بامبا كفتاةٍ يانعة كان عليها أن تشهد موت والدتها. روايتي تتحدّث أيضا عن علاقة الأمّهات ببناتهنّ.
• ينحدر الرجال -ولا سيما أولاد بامبا- بوضوح إلى أسوا درك، جشعٌ وغباءٌ مستفحل.
نعم، الشباب فظيعون، وبالمقابل فإنّ بامبا تجسّد شكلا معيّنا من أشكال النظام الأمومي. توجد في بلدي الأمّ (الهند) رؤى ثقافية عن الهند الأمّ، عن البلاد كوطنٍ أمّ، لكن مع ذلك فإنّ كلتا الملحمتين الهنديتين الأكبر-المهابهاراتا Mahabharata والرامايانا Ramayana- تُشكّلان قصصا عن البطولة الذكورية. أريد أن أضيف مع روايتي منظورا أنثويّا.
• هل تؤمنون بوجود كتابة أنثوية مميّزة، أي بمنظور أنثوي على وجه التحديد؟
نعم، بسبب الدور الذي تشغله النساء في العالم، فإنّهنّ بحاجة لتحسين ذلك.
• هذا يرد في روايتك ضمن حقبة زمنية محدّدة فقط في التاريخ الهندي. على مرّ العقود كان الكهنة الأرثوذكس على الدوام يهدّدون التسامح والحرية الدينية والتحرّر الجنسي.
نعم، هكذا هي طبيعة البشر، وأنا لست طوباويّا، بينما بطلتي لديها مشروع طوباوي يتحطّم على الدوام في الواقع، والتاريخ لا يمضي وفق خطّ مستقيم أبدا، بحيث يتناوب فيه التقدّم والانتكاس. انظروا إلى الحاضر حيث نجد فيه الكثير من الظلام، لكنّني إنسان متفائل بطبيعتي، بل إنّني وفي روايتي الأخيرة «كيخوته Quichotte» كنت مفرطا في التفاؤل بعض الشيء. لقد سخرت من نفسي ذاتها في وقت ما.
• أنت لست طوباويّا، لكنّك أحد المتفائلين؟
قبل أن أصبح كاتبا درست التاريخ، وفي النهاية ما زلت حتى يومنا هذا طالبا في دراسة التاريخ. لقد تعلّمت أنّ التحوّل التاريخي مباغت جدّا ويمكنه أن يحدث بشكل مفاجئ جدا. قبل ثلاثة أشهر من سقوط جدار برلين بالكاد كان هنالك من يراهن على ذلك. في الواقع نعم هنالك
تفاؤل في كتابي لكن ليس هنالك من تفاؤل ساذج، وفي كل الأحوال فإنّ المملكة التي أكتب عنها هي أكثر ليبرالية وتسامحا من الهند اليوم.
• على الرغم من كوننا نتعامل مع نظام ملكي غير ديمقراطي؟
كان الاهتمام الأكبر في مملكة فيجاياناغارا يتركّز على الفنّ والأدب والعمارة وفنّ النحت. لقد كانت ثقافة متنوّرة ومتمدّنة جدّا.
• كانت فيجاياناغارا طيّ النسيان لفترة طويلة جدا.
يتمّ التفكير بالشمال كثيرا مع دراسة تاريخ الهند، ونحن نعرف الأوابد التاريخية مثل قصر «تاج محلّ Tadsch Mahal». في الجنوب كانت هنالك بالفعل حضارة مزدهرة سابقة على إمبراطورية المغول الهندية لكن تمّ إهمالها، حيث دخل هذا الجزء من التاريخ الهندي إلى الظلّ تماما بفضل الاستعمار، وفقط في الآونة الأخيرة تمّت العودة إلى التاريخ المبكّر وإحياء أنقاض فيجاياناغارا Vijayanagar.
• هل واظبت على زيارة الهند مؤخّرا؟
نعم، لكن آخر زيارة لي كانت قبل الوباء. لقد كنت في جنوبيّ الهند عند الأطلال التاريخيّة وأنا في شبابي، وهذا ما شكّل على الدوام مادّة أدبية في ذهني.
• توجد في روايتك آلهة وبشر، غربان تتحدّث، قرود تقود الحروب، رجال يتحوّلون إلى نساء، وهنالك تمييز وفصل واضح بين الخير والشرّ. هل تعدّ روايتكم الجديدة حكاية خرافيّة؟
يمكنك قول ذلك، لكن ربّما كان هذا المصطلح مضلّلا. لا تشدّني الحكايات الخرافية الأوروبيّة بل التقاليد القصصيّة الهنديّة حيث لا يمكن الفصل بوضوح بين الآلهة والبشر، وبامبا كامبانا هي كذلك شخصيّة هندية مختلطة. الراوي في كتابي يزعم أنه يعيد إنتاج قصّة قديمة جدّا وجد مصدرها للتوّ فقط ولأول مرّة.
• ويمارس عبرها لعبة من ألعاب ما بعد الحداثة التي تترك الكثير من الارتباك. نحن لا نعرف مصدرها، ولا يعرف المرء بالفعل فيما إذا كان يمكن الوثوق بها حقّا.
نعم، في روايتي يكمن القليل من إيتالو كالفينوItalo Calvino. في النصّ إحالات لأحداث تاريخيّة حدثت في وقت لاحق. على سبيل المثال هنالك القرود الورديّة الشرّيرة تجوب الغابة كلّها بهدف إخضاع الجميع لسلطتها وهؤلاء بالطبع هم المستعمرون الإنجليز.
• هل تعالج روايتكم الاستعمار؟
حين كنت طفلا استمتعت بقراءة «كتاب الأدغال Dschungelbuch» لـ (روديارد كبلينغ Rudyard Kipling) ( ). لاحقا لاحظت أنّ القرود الغبيّة الواردة هناك (يقصد في كتاب الأدغال) يقصد بها الهنود باستهزاء. في روايتي هنالك أخذ بالثأر لهذا. إنّني أعبث بالتاريخي والتاريخ الأدبي، والرواية التاريخيّة الجيدة لن تكون جيّدة إلا إذا تعاملت مع الحاضر، والسؤال الذي يشغلني على الدوام في الرواية هو: لماذا كانت هنالك الكثير من الأشياء في الهند قبل 600 عام متقدّمة على ما هي عليه في الوقت الحاضر، بما في ذلك التعامل مع الصراعات الدينيّة؟
• يوظّف التاريخ في الهند، في الوقت الحاضر، بشكل كبير سياسيّا، والماضي الإسلامي يتمّ اعتباره على وجه الحصر حقبة سرطانية
يمكن العثور على أحد الأمثلة المبكّرة عن هذا النوع من التفكير الاستقطابي في كتاب لـ (فيديادر سوراجبراساد نيبول V. S. Naipaul)( ) وهو كتاب «الهند: حضارة مجروحة» من سبعينيّات القرن العشرين، وفيه تم الحديث عن المسلمين الأشرار والهندوس الطيّبين الخيّرين، وهذا ما يمارسه حزب «بهاراتيا جاناتا Bharatiya Janata Party» الحاكم في السياسة اليوم في وقت كان فيه التاريخ الهندي متداخلا متشابكا بشكل عميق بين المسلمين والهندوس ثقافيا ودينيا، فقد كان هنالك جنرالات مسلمون، وحفلات زفاف بين العائلات المالكة الهندوسيّة والمسلمة وتبادل وحوار مفتوح بشكل مذهل بين الأديان.
• اليوم تبدو غير مطمئنّ كثيرا لما يتعلّق بالتقدّم في التاريخ.
لا أتّفق مع هذا، وأريد فقط الإتيان بمثال: طبّ الأسنان. ربّما كنا غير بعيدين كثيرا بما يتعلّق بالناحية الأخلاقية، ولكن حين يتعلّق الأمر بمعرفتنا بالكون فنحن بالتأكيد بعيدون. لقد أرادت عائلتي أن أصبح فيزيائيّا وكنت جيدا في الفيزياء والرياضيّات في المدرسة، لكنّني حسمت أمري في اتّخاذ قرار سيكون له عواقب وخيمة وهو أن أصبح كاتبا.
• ليس قرارا خاطئا، أليس كذلك؟
لقد نجحت إلى حدّ ما، نعم.
• مع سقوط المملكة في روايتك يزعم أنّ الكلمات وحدها هي المنتصرة. يتداعى كلّ شيء لكن تبقى الكلمات. ماذا تقصد بذلك؟
نحن لا نعرف فيما إذا كانت حرب طروادة قد حدثت مع بطلها آنذاك كما وصلتنا، فهي أيضا يمكن أن تكون خيالا. حسنا، فعلماء الآثار يجدون شيئا ما تحت الأرض ويحاولون تفسيره، لكن ما الذي أبقى العالم القديم على قيد الحياة؟ إنها حكاية هوميروس. إنّها الكلمات وقد بقيت على قيد الحياة. نحن نقرأ «الحرب والسلام» لـ (تولستوي Tolstoi)، ولدينا صورة واضحة عن الجنرال الروسي كوتوزوف Kutusow الذي يملك القليل من القواسم المشتركة مع الشخصية التاريخية على مستوى الشخصية، لكنّه نجا فقط كشخصية لتولستوي. الكلمة الأخيرة في الواقع هي للفنّان.
• تماما كما هي الحال في تاريخ فيجاياناغارا، لديك الكلمة الأخيرة؟
من الممكن أن يكون الأمر كذلك.
• يرد في كتابك أنّ عاصمة إمبراطورية بامبا كامبانا قد بنيت عبر تعويذة سحريّة، حيث يتمّ نشر البذور لتبزغ الأبنية والشوارع وكذلك البشر من مختلف الأعمار من الأرض، ويجب الهمس للناس بقصّة حياتهم كي يتمكنوا من التعامل مع الحياة اليومية. إنّه فعل خلق شعري، تساءلت للحظة فيما إذا كنتم تريدون القول إنّنا جميعا مجرّد خيال في النهاية؟
كتابي هو استعارة لكيفية نشأة الخيال. البشر يصوغون أنفسهم ولكنّهم في البداية فارغون تماما، ويجب ملؤهم بالحكايات شيئا فشيئا وإلّا لن يعيشوا.
• كتابكم يعالج التعايش السلمي بين الأديان، قبل فترة قصيرة كان هنالك هجوم على حياتك، فهل كنت متفائلا عند كتابة هذه الرواية؟
لقد ولدت في عالم يتبع الليبرالية أكثر من اليوم. ترعرعت في مدينة بومباي Bombay التي كانت عالميّة للغاية. أتذكّر الأمسيات في حديقة والديّ حيث كان الأصدقاء موجودون هناك وتمّت مناقشة وجود الله. لم تكن هنالك محرّمات وتابوات في مواضيع الحديث، وكان لدينا أصدقاء ينتمون إلى جميع الديانات، بمن فيهم الشيوعيّون.
• انتقلت عائلتك المسلمة مما كانت تعرف آنذاك بدلهي القومية إلى بومباي.
نعم، كان ذلك في الفترة التي سبقت استقلال وتقسيم الهند، حيث لم يرغب والدي في الذهاب إلى باكستان فذهبنا إلى بومباي التي كانت منفتحة على العالم، ثمّ وفي سياق التقسيم اندلعت أعمال العنف بين الجماعات الدينيّة في وقت بقيت فيه بومباي آمنة نسبيّا. في النهاية فإنّ «مدينة النصر» تعالج تجربة طفولتي بشكل غير مباشر، وعن بومباي فإنني أكتب طوال حياتي.
• ما العلاقة التي تربط بين كتابك الحالي ومجموع أعمالك؟
في وقت ما وأنا أكتب تذكّرت «أطفال منتصف الليل Mitternachtskinder».
• أطفال منتصف الليل تدور حول تاريخ الهند في القرن العشرين وتقسيم البلاد.
أطفال منتصف الليل أيضا تدور حول التاريخ الهندي، وبتعبير أدقّ: حول الصراع الداخلي بين التاريخ والذاكرة الفرديّة. حين أنهيت أطفال منتصف الليل كنت في الثالثة والثلاثين من العمر واليوم أنا في الخامسة والسبعين 75، لكنّ الكتاب الجديد يلامس الشباب والحيويّة، إذ ليس من السهل أن تتمكّن من ذلك حين تبلغ الـ75.
• إذا جاز لي القول، فأنت ما زلت تبدو قويّا في حالة جيدة.
منذ متى كان الهجوم؟ سبعة أشهر أو ما يقارب ذلك. والآن، لقد كنت محظوظا للغاية. لو أنّ المهاجم ضربني في أنحاء أخرى من جسدي لكانت قصّتي قد انتهت. أنا سعيد لكونه لم يضرب تلك الأنحاء من الجسم (يبدو أنه يشير للأعضاء الهامة) وبالتالي فإنّ للجسم قدرة مذهلة على الشفاء.
• لا بدّ أنّه (وكما أظنّ) كان أمرا مرعبا لك. كيف واجهت الهجوم؟
كما تعلم، كنت .. حسنا، لم أفقد وعيي.
• ولا في أيّ وقت من الأوقات؟
إلى أن أتى طبيب التخدير في المشفى، لكن ليس قبل ذلك. كنت في حالة سيّئة ومضطّربة للغاية وأعاني من آلام شديدة، لكن بإمكاني تذكّر الكثير، نعم.
• هل تمكّنت من التحدّث إلى عائلتك وأصدقائك سريعا؟
لبعض الوقت كان لديّ أنبوب التنفّس الصناعي وبالتالي لم يكن بمقدوري التحدّث، وتمكّنت من الحديث لأول مرة فقط حين تمّت إزالة الأنبوب، وفي البداية بالكاد كان بإمكاني التواصل مع أحد ما. لقد حاولت فقط التعافي واستعادة قواي، لكنني كنت واعيا للواقعة، ذلك أنّه كانت هنالك نجدة ومساندة وحتّى حين تضاءلت الرعاية التي كنت أتلقاها. لقد روي لي ما حصل، ومن ثمّ مع مضيّ الوقت أصبحت قادرا على بدء التحدّث مع الناس ورؤيتهم، ليصبح كلّ ذلك مهمّا جدا.
• هل كنت مدركا لردود الفعل في وسائل الإعلام وأنت ملقى في المشفى؟
لا. بالطبع أعرف أنّه كانت هنالك الكثير من التقارير وردود الفعل ولم أشاهدها حتى اليوم، لكن على الأرجح يجب عليّ مشاهدتها لأنّني أفكّر بكتابة شيء ما عن الهجوم، فهنالك تجربتي مع ما حدث ولكن أيضا تجربة الآخرين كلّهم مع ما حدث، وباعتقادي سيكون من الجيّد أن أتمكّن من رؤية وجهة نظر أخرى مختلفة عن وجهة نظري.
• ألم يكن لديك خوف أبدا من إمكانية حدوث هذه اللحظة الخطيرة في حياتك؟
نظريا، كنت خائفا، لكن التهديد بالقتل كان منذ زمن طويل، قبل 33 سنة عابرة. لقد ألقيت في السنوات الأخيرة مئات المحاضرات في جميع أنحاء أمريكا وأوروبا وفي كلّ مكان، ولطالما قلت للمنظّمين: لا تكونوا مهووسين حين يتعلّق الأمر بإجراءات السلامة، ولكن عليكم ضمان مستوى معيّن وحدّ أدنى من الأمان تماما كما تفعلون مع جميع الناس المشهورين، افعلوا ذلك بكل بساطة. لكن للأسف لم يتمّ فعل شيء في هذا المكان.
• ألم تكن هنالك إجراءات أمنية على الإطلاق؟
لا، لا شيء على الإطلاق، وكان ذلك أحد الأخطاء. حين انقضّ عليّ هذا الشاب لم يقف أحد في طريقه.
• ألم تكن تعلم أنك تقف على المسرح دون حماية؟
لا لم أكن أعرف. لقد ظننت أن المنظّمين قاموا بفعل ما يفترض بأي أحد أن يفعله.
• هل تواصلت فيما بعد مع المنظّمين؟
قليلا. لا أرغب في التحدّث عن هذا الأمر.
• الآن تودّ أن تكتب عما حدث. هل تمعّنت في دوافع المعتدي؟
نعم، لكن أستطيع التحدّث عن ذلك فقط حين أكون قد كتبت الكتاب. أنتم تعلمون قبل كلّ شيء أنني أشعر بارتياح كبير لأنني تمكّنت من إنهاء «مدينة النصر» قبل الهجوم. قبل أسبوع من الهجوم كنت قد تمكّنت من إدخال التصحيحات الأخيرة وبالتالي كان منجزا تماما، وهذا يعني أنني أستطيع أن أقول للناس: ههنا فنّان مبدع، ههنا كاتب يكتب الكتب، وههنا أحد تلك الكتب. بطريقة ما كان مجرّد حظّ: لو أنني لم أكن قد انتهيت من إنهاء هذا الكتاب قبل الهجوم، لشكّل ذلك خطرا كبيرا إذ كنت سأفقد إيقاعي المعتاد مع الرواية، ولذلك يمكن القول إنّه كان توقيتا جيّدا.
• بما انشغلت بعد الهجوم؟ بما فكّرت؟
بالشيء الأكثر بساطة، كما تعلمون، بالعائلة، حيث يفكّر كلّ إنسان عادة في حالات كهذه، وبالطبع فكّرت في الموت. لم أعد شابا ولا أعرف كم من الوقت بقي لي لأعيشه، لكن المرء يبدأ التفكير في النهاية ومن ثمّ عليه أن يقول لنفسه أنّ عليه أن يكفّ عن التفكير في النهاية، بل عليه ببساطة أن يتابع حياته.
• هل يمكنك التصالح مع ما حدث؟
نعم، هذا ما سيحصل. أعلم أنّ وودي آلن Woody Allen شخصية مثيرة للجدل هذه الأيّام، لكنّني أتذكّر لقاء أجراه أحد الصحفيّين معه. قال الصحفي بما معناه (أي ليس حرفيا): «سيّد آلن يجب أن تكون سعيدا لأنّك أنجزت كلّ هذه الأعمال التي لا تصدّق. حين تموت ستستمرّ في الحياة عبر أعمالك» فأجابه السيّد آلن «أفضّل أن أستمرّ في العيش بشقّتي»( )، وهذا هو موقفي بالضبّط.
• قبل أكثر من عشر سنوات، قمت بكتابة سيرة شخصيّة ذاتية بعنوان «جوزيف أنطون Joseph Anton»( ). جوزيف يشير إلى جوزيف كونراد Conrad أمّا أنطون فيشير إلى أنطون تشيخوف Anton Tschechow. هل ما زالا كاتباك المفضّلين كما كانا من قبل؟
بالطبع ليسا الوحيدين. بعد عام 1989..
• ذلك العام الذي أعلنت فيه الفتوى..
لقد عشت في عزلة شديدة، وفي تلك الأوقات فكّرت في دراما «الشقيقات الثلاث» لأنطون تشيخوف. تتوق الشقيقات الثلاثة اللواتي يعشن في الريف إلى العيش في موسكو Moskau، لكنّهنّ يتوجّسن من عدم وصولهنّ إلى هناك أبدا. هذا ما يذكّرني بحالتي. في رواية «زنجي النرجس» لجوزيف كونراد حيث يحتضر أحد البحّارة ويلفظ أنفاسه الأخيرة، فيقلق عليه كثيرون ممن على السفينة، ليسأله أحدهم ساخطا: لماذا أتيت إلينا بالذات على متن السفينة؟ لا بدّ إنّك كنت تعرف أنك مريض. يجيب عليه البحّار المريض إجابة رائعة، حيث قال: «يجب أن أعيش إلى أن أموت، أليس كذلك؟». لقد غدت هذه العبارة شعارا بالنسبة لي، وهي صالحة حتى اليوم.
• هل تعتقد أنّه سيأتي وقت تتمكّن فيه من الظهور مجدّدا في الحياة العامّة؟
هذا سؤال كبير لا أملك إجابة عليه بعد.
آدم زوبوتسينسكي كاتب وأكاديمي ألماني من أصول بولندية
اعتُقل المعتدي هادي مطر Hadi Matar البالغ من العمر 24 عاما المنحدر من نيوجرسي New Jersey، وهو ابن لمهاجر لبناني، في مكان إقامة الفعالية بتهمة الشروع في القتل.
وُلد سلمان رشدي في بومباي Bombay عام 1947، وفي سنّ الرابعة عشر ذهب ليدرس في مدرسة بإنجلترا، ودرس التاريخ في جامعة كامبريدج Cambridge وعمل في بادئ الأمر في كتابة الإعلانات وصحفيّا. نجح في اختراق الأدب في عام 1981 مع رواية أطفال منتصف الليل Mitternachtskinder التي حصل بسببها على جائزة البوكر BookerPreis التي تُعدُّ أهمّ جائزة أدبية بريطانيّة. بعد نشر روايته آيات شيطانية Die satanischen Verse نطق قائد الثورة الإيرانية آية الله روح الله الخميني Ajatollah Ruhollah Chomeini بما يُسمّى بالفتوى مطالبا بقتله، ليعيش رشدي مختبئا تحت تدابير أمنية احتياطيّة مشدّدة، ولكن مع مرور الزمن عاد للحياة العامة مرّة أخرى.
قبل محاولة اغتياله في العام الماضي، كان سلمان رشدي قد انتهى بالفعل من روايته الخامسة عشرة مدينة النصر Victory City التي ستصدر قريبا باللغة الألمانية. أساس الرواية ونسيجها مستوحى من إمبراطورية فيجاياناغارا VijayanagarReich في جنوبيّ الهند. لعبت مدينة النصر دورا في الفترة ما بين القرنين الرابع عشر والسادس عشر. المؤسّسة الافتراضية للامبراطورية بامبا كامبانا Pampa Kampana تحديدا عاشت على مدار قرنين من الزمن تقريبا، حيث قادت صعود بلدها وفي النهاية عاشت انحداره أيضا كما يُفترض. في امبراطوريتها سادت حرّية الدين والمساواة، ولكن كانت مهدّدة باستمرار بالمكائد السياسية والولايات المتنازعة، وبالتزمّت الديني.
يجب أن أعيش إلى أن أموت
عبارة الكاتب سلمان رشدي في حديث عن روايته الجديدة «مدينة النصر»، وعن الهجوم عليه في شهر أغسطس الماضي وشعاره في الحياة الذي منحه السلوان لسنواتٍ عديدة
* كيف حالك؟ كيف قضيتَ فترة الصباح؟
لقد جلستُ على طاولة الكتابة محاولا الكتابة قليلا. حسنا، لأكون صادقا لم يكن هنالك الكثير من النجاح اليوم.
•عمّا تكتب الآن؟
عمّا حدث لي.
• عن الهجوم بالسكّين عليك في الـ Chautauqua في أغسطس الماضي؟
أحاول الآن الاستدلال على ما يمكن أن يبدو عليه نصٌّ ما عن ذلك، ومعرفة ما إذا كان يمكنه أن يعمل جيّدا. ما زلتُ حقا في البداية تماما من هذا المُراد.
• الآن ينشر كتاب سبق لكم أن كتبتموه قبل الهجوم، يتحدّثُ عن مملكة فيجاياناغارا Vijayanagar العظمى من القرن الرابع عشر الميلادي، التي وُجدت في جنوبي الهند حوالي مائتي عام. تتحدّثون عن صعود وسقوط هذه الإمبراطورية، مع وجود أبطالٍ كثر للرواية. ملحمة تاريخية حقيقية. كيف تصفونها شخصيّا؟
مشكلة فيجاياناغارا التاريخية هي وجود فجواتٍ كبيرة مما وصلنا عنها، لكن هذا بالضبط ما نقدّمه مع وجود هامشٍ هائل لحركة الروائي. لن أقوم بتدريس التاريخ لأحد، وأوصي بإعارة كتابي الكثير من الاهتمام، لكن هنالك أشياء معيّنة في عملي وهي وقائع تاريخية حقيقية في الواقع. على سبيل المثال، فقد سيطر تسامح مذهل في فيجاياناغارا، فقد كان هنالك تسامح مع أديان كانت هي الأكثر تنوّعا واختلافا، مع انفتاح واسع جدا في الموقف من دور المرأة في المجتمع، فقد وُجدت إناثٌ من التجّار ومحامياتٌ حقوقيّات، بل إنه كانت هنالك جنرالات عسكرية من النساء. ساد ذلك قبل قرون عديدة في جنوبيّ الهند، وهذا أمرٌ مفروغٌ منه تماما.
• أووه، لقد اعتقدتُ أنّ هذا بالضبط سيكون من اختلاقك وتخيّلك.
نعم، كما ترى فإنّ المضحك في كتابي هو أنّ كل الأشياء التي افترض القرّاء أنّها متخيّلة مختلقة كانت حقيقية، وكل ما افترضه القرّاء تاريخيّا هو متخيّل.
• ما الذي ابتكرته (تخيّلته) قبل كلّ شيء؟
من الواضح جدا أنها بطلتي الرئيسية بامبا كامبانا Pampa Kampana.
• مع بامبا كامبانا يتعلّقُ الأمر بامرأة اختارتها إحدى الآلهة لتكون قدّيسة شفيعة تخدم فيجاياناغارا، وتشيخُ ببطء مدهش بحيث تعيش طويلا كما هي حال المملكة نفسها، وهو ما يقارب الـ 250 سنة.
بالطبع كان عليّ طرح السؤال عن كيفية تكثيف قصّةٍ استمرّت على مدار حقبة زمنية طويلة، وحين تمعّنتُ في المشكلة خطرت بذهني بامبا التي قالت لي:
«فقط استمع إليّ وسأُخبرك بالقصّة الآن».
• تماما مثلما تمّ اختيار بامبا من قبل إحدى الآلهة.
نعم، وهذا نادرا ما يحدث، بحيث تظهر شخصيّةٌ من العدم. حسنا، ربّما ليس من العدم تماما. يبدأ الكتاب بمشهدٍ تاريخيّ، حيث وبسبب مقتل كلّ الرجال من أحد الشعوب بالهند في الحرب تبادر النساء في زمنٍ ما إلى انتحار جماعي، فوجدتُ أمام عينيّ بامبا كفتاةٍ يانعة كان عليها أن تشهد موت والدتها. روايتي تتحدّث أيضا عن علاقة الأمّهات ببناتهنّ.
• ينحدر الرجال -ولا سيما أولاد بامبا- بوضوح إلى أسوا درك، جشعٌ وغباءٌ مستفحل.
نعم، الشباب فظيعون، وبالمقابل فإنّ بامبا تجسّد شكلا معيّنا من أشكال النظام الأمومي. توجد في بلدي الأمّ (الهند) رؤى ثقافية عن الهند الأمّ، عن البلاد كوطنٍ أمّ، لكن مع ذلك فإنّ كلتا الملحمتين الهنديتين الأكبر-المهابهاراتا Mahabharata والرامايانا Ramayana- تُشكّلان قصصا عن البطولة الذكورية. أريد أن أضيف مع روايتي منظورا أنثويّا.
• هل تؤمنون بوجود كتابة أنثوية مميّزة، أي بمنظور أنثوي على وجه التحديد؟
نعم، بسبب الدور الذي تشغله النساء في العالم، فإنّهنّ بحاجة لتحسين ذلك.
• هذا يرد في روايتك ضمن حقبة زمنية محدّدة فقط في التاريخ الهندي. على مرّ العقود كان الكهنة الأرثوذكس على الدوام يهدّدون التسامح والحرية الدينية والتحرّر الجنسي.
نعم، هكذا هي طبيعة البشر، وأنا لست طوباويّا، بينما بطلتي لديها مشروع طوباوي يتحطّم على الدوام في الواقع، والتاريخ لا يمضي وفق خطّ مستقيم أبدا، بحيث يتناوب فيه التقدّم والانتكاس. انظروا إلى الحاضر حيث نجد فيه الكثير من الظلام، لكنّني إنسان متفائل بطبيعتي، بل إنّني وفي روايتي الأخيرة «كيخوته Quichotte» كنت مفرطا في التفاؤل بعض الشيء. لقد سخرت من نفسي ذاتها في وقت ما.
• أنت لست طوباويّا، لكنّك أحد المتفائلين؟
قبل أن أصبح كاتبا درست التاريخ، وفي النهاية ما زلت حتى يومنا هذا طالبا في دراسة التاريخ. لقد تعلّمت أنّ التحوّل التاريخي مباغت جدّا ويمكنه أن يحدث بشكل مفاجئ جدا. قبل ثلاثة أشهر من سقوط جدار برلين بالكاد كان هنالك من يراهن على ذلك. في الواقع نعم هنالك
تفاؤل في كتابي لكن ليس هنالك من تفاؤل ساذج، وفي كل الأحوال فإنّ المملكة التي أكتب عنها هي أكثر ليبرالية وتسامحا من الهند اليوم.
• على الرغم من كوننا نتعامل مع نظام ملكي غير ديمقراطي؟
كان الاهتمام الأكبر في مملكة فيجاياناغارا يتركّز على الفنّ والأدب والعمارة وفنّ النحت. لقد كانت ثقافة متنوّرة ومتمدّنة جدّا.
• كانت فيجاياناغارا طيّ النسيان لفترة طويلة جدا.
يتمّ التفكير بالشمال كثيرا مع دراسة تاريخ الهند، ونحن نعرف الأوابد التاريخية مثل قصر «تاج محلّ Tadsch Mahal». في الجنوب كانت هنالك بالفعل حضارة مزدهرة سابقة على إمبراطورية المغول الهندية لكن تمّ إهمالها، حيث دخل هذا الجزء من التاريخ الهندي إلى الظلّ تماما بفضل الاستعمار، وفقط في الآونة الأخيرة تمّت العودة إلى التاريخ المبكّر وإحياء أنقاض فيجاياناغارا Vijayanagar.
• هل واظبت على زيارة الهند مؤخّرا؟
نعم، لكن آخر زيارة لي كانت قبل الوباء. لقد كنت في جنوبيّ الهند عند الأطلال التاريخيّة وأنا في شبابي، وهذا ما شكّل على الدوام مادّة أدبية في ذهني.
• توجد في روايتك آلهة وبشر، غربان تتحدّث، قرود تقود الحروب، رجال يتحوّلون إلى نساء، وهنالك تمييز وفصل واضح بين الخير والشرّ. هل تعدّ روايتكم الجديدة حكاية خرافيّة؟
يمكنك قول ذلك، لكن ربّما كان هذا المصطلح مضلّلا. لا تشدّني الحكايات الخرافية الأوروبيّة بل التقاليد القصصيّة الهنديّة حيث لا يمكن الفصل بوضوح بين الآلهة والبشر، وبامبا كامبانا هي كذلك شخصيّة هندية مختلطة. الراوي في كتابي يزعم أنه يعيد إنتاج قصّة قديمة جدّا وجد مصدرها للتوّ فقط ولأول مرّة.
• ويمارس عبرها لعبة من ألعاب ما بعد الحداثة التي تترك الكثير من الارتباك. نحن لا نعرف مصدرها، ولا يعرف المرء بالفعل فيما إذا كان يمكن الوثوق بها حقّا.
نعم، في روايتي يكمن القليل من إيتالو كالفينوItalo Calvino. في النصّ إحالات لأحداث تاريخيّة حدثت في وقت لاحق. على سبيل المثال هنالك القرود الورديّة الشرّيرة تجوب الغابة كلّها بهدف إخضاع الجميع لسلطتها وهؤلاء بالطبع هم المستعمرون الإنجليز.
• هل تعالج روايتكم الاستعمار؟
حين كنت طفلا استمتعت بقراءة «كتاب الأدغال Dschungelbuch» لـ (روديارد كبلينغ Rudyard Kipling) ( ). لاحقا لاحظت أنّ القرود الغبيّة الواردة هناك (يقصد في كتاب الأدغال) يقصد بها الهنود باستهزاء. في روايتي هنالك أخذ بالثأر لهذا. إنّني أعبث بالتاريخي والتاريخ الأدبي، والرواية التاريخيّة الجيدة لن تكون جيّدة إلا إذا تعاملت مع الحاضر، والسؤال الذي يشغلني على الدوام في الرواية هو: لماذا كانت هنالك الكثير من الأشياء في الهند قبل 600 عام متقدّمة على ما هي عليه في الوقت الحاضر، بما في ذلك التعامل مع الصراعات الدينيّة؟
• يوظّف التاريخ في الهند، في الوقت الحاضر، بشكل كبير سياسيّا، والماضي الإسلامي يتمّ اعتباره على وجه الحصر حقبة سرطانية
يمكن العثور على أحد الأمثلة المبكّرة عن هذا النوع من التفكير الاستقطابي في كتاب لـ (فيديادر سوراجبراساد نيبول V. S. Naipaul)( ) وهو كتاب «الهند: حضارة مجروحة» من سبعينيّات القرن العشرين، وفيه تم الحديث عن المسلمين الأشرار والهندوس الطيّبين الخيّرين، وهذا ما يمارسه حزب «بهاراتيا جاناتا Bharatiya Janata Party» الحاكم في السياسة اليوم في وقت كان فيه التاريخ الهندي متداخلا متشابكا بشكل عميق بين المسلمين والهندوس ثقافيا ودينيا، فقد كان هنالك جنرالات مسلمون، وحفلات زفاف بين العائلات المالكة الهندوسيّة والمسلمة وتبادل وحوار مفتوح بشكل مذهل بين الأديان.
• اليوم تبدو غير مطمئنّ كثيرا لما يتعلّق بالتقدّم في التاريخ.
لا أتّفق مع هذا، وأريد فقط الإتيان بمثال: طبّ الأسنان. ربّما كنا غير بعيدين كثيرا بما يتعلّق بالناحية الأخلاقية، ولكن حين يتعلّق الأمر بمعرفتنا بالكون فنحن بالتأكيد بعيدون. لقد أرادت عائلتي أن أصبح فيزيائيّا وكنت جيدا في الفيزياء والرياضيّات في المدرسة، لكنّني حسمت أمري في اتّخاذ قرار سيكون له عواقب وخيمة وهو أن أصبح كاتبا.
• ليس قرارا خاطئا، أليس كذلك؟
لقد نجحت إلى حدّ ما، نعم.
• مع سقوط المملكة في روايتك يزعم أنّ الكلمات وحدها هي المنتصرة. يتداعى كلّ شيء لكن تبقى الكلمات. ماذا تقصد بذلك؟
نحن لا نعرف فيما إذا كانت حرب طروادة قد حدثت مع بطلها آنذاك كما وصلتنا، فهي أيضا يمكن أن تكون خيالا. حسنا، فعلماء الآثار يجدون شيئا ما تحت الأرض ويحاولون تفسيره، لكن ما الذي أبقى العالم القديم على قيد الحياة؟ إنها حكاية هوميروس. إنّها الكلمات وقد بقيت على قيد الحياة. نحن نقرأ «الحرب والسلام» لـ (تولستوي Tolstoi)، ولدينا صورة واضحة عن الجنرال الروسي كوتوزوف Kutusow الذي يملك القليل من القواسم المشتركة مع الشخصية التاريخية على مستوى الشخصية، لكنّه نجا فقط كشخصية لتولستوي. الكلمة الأخيرة في الواقع هي للفنّان.
• تماما كما هي الحال في تاريخ فيجاياناغارا، لديك الكلمة الأخيرة؟
من الممكن أن يكون الأمر كذلك.
• يرد في كتابك أنّ عاصمة إمبراطورية بامبا كامبانا قد بنيت عبر تعويذة سحريّة، حيث يتمّ نشر البذور لتبزغ الأبنية والشوارع وكذلك البشر من مختلف الأعمار من الأرض، ويجب الهمس للناس بقصّة حياتهم كي يتمكنوا من التعامل مع الحياة اليومية. إنّه فعل خلق شعري، تساءلت للحظة فيما إذا كنتم تريدون القول إنّنا جميعا مجرّد خيال في النهاية؟
كتابي هو استعارة لكيفية نشأة الخيال. البشر يصوغون أنفسهم ولكنّهم في البداية فارغون تماما، ويجب ملؤهم بالحكايات شيئا فشيئا وإلّا لن يعيشوا.
• كتابكم يعالج التعايش السلمي بين الأديان، قبل فترة قصيرة كان هنالك هجوم على حياتك، فهل كنت متفائلا عند كتابة هذه الرواية؟
لقد ولدت في عالم يتبع الليبرالية أكثر من اليوم. ترعرعت في مدينة بومباي Bombay التي كانت عالميّة للغاية. أتذكّر الأمسيات في حديقة والديّ حيث كان الأصدقاء موجودون هناك وتمّت مناقشة وجود الله. لم تكن هنالك محرّمات وتابوات في مواضيع الحديث، وكان لدينا أصدقاء ينتمون إلى جميع الديانات، بمن فيهم الشيوعيّون.
• انتقلت عائلتك المسلمة مما كانت تعرف آنذاك بدلهي القومية إلى بومباي.
نعم، كان ذلك في الفترة التي سبقت استقلال وتقسيم الهند، حيث لم يرغب والدي في الذهاب إلى باكستان فذهبنا إلى بومباي التي كانت منفتحة على العالم، ثمّ وفي سياق التقسيم اندلعت أعمال العنف بين الجماعات الدينيّة في وقت بقيت فيه بومباي آمنة نسبيّا. في النهاية فإنّ «مدينة النصر» تعالج تجربة طفولتي بشكل غير مباشر، وعن بومباي فإنني أكتب طوال حياتي.
• ما العلاقة التي تربط بين كتابك الحالي ومجموع أعمالك؟
في وقت ما وأنا أكتب تذكّرت «أطفال منتصف الليل Mitternachtskinder».
• أطفال منتصف الليل تدور حول تاريخ الهند في القرن العشرين وتقسيم البلاد.
أطفال منتصف الليل أيضا تدور حول التاريخ الهندي، وبتعبير أدقّ: حول الصراع الداخلي بين التاريخ والذاكرة الفرديّة. حين أنهيت أطفال منتصف الليل كنت في الثالثة والثلاثين من العمر واليوم أنا في الخامسة والسبعين 75، لكنّ الكتاب الجديد يلامس الشباب والحيويّة، إذ ليس من السهل أن تتمكّن من ذلك حين تبلغ الـ75.
• إذا جاز لي القول، فأنت ما زلت تبدو قويّا في حالة جيدة.
منذ متى كان الهجوم؟ سبعة أشهر أو ما يقارب ذلك. والآن، لقد كنت محظوظا للغاية. لو أنّ المهاجم ضربني في أنحاء أخرى من جسدي لكانت قصّتي قد انتهت. أنا سعيد لكونه لم يضرب تلك الأنحاء من الجسم (يبدو أنه يشير للأعضاء الهامة) وبالتالي فإنّ للجسم قدرة مذهلة على الشفاء.
• لا بدّ أنّه (وكما أظنّ) كان أمرا مرعبا لك. كيف واجهت الهجوم؟
كما تعلم، كنت .. حسنا، لم أفقد وعيي.
• ولا في أيّ وقت من الأوقات؟
إلى أن أتى طبيب التخدير في المشفى، لكن ليس قبل ذلك. كنت في حالة سيّئة ومضطّربة للغاية وأعاني من آلام شديدة، لكن بإمكاني تذكّر الكثير، نعم.
• هل تمكّنت من التحدّث إلى عائلتك وأصدقائك سريعا؟
لبعض الوقت كان لديّ أنبوب التنفّس الصناعي وبالتالي لم يكن بمقدوري التحدّث، وتمكّنت من الحديث لأول مرة فقط حين تمّت إزالة الأنبوب، وفي البداية بالكاد كان بإمكاني التواصل مع أحد ما. لقد حاولت فقط التعافي واستعادة قواي، لكنني كنت واعيا للواقعة، ذلك أنّه كانت هنالك نجدة ومساندة وحتّى حين تضاءلت الرعاية التي كنت أتلقاها. لقد روي لي ما حصل، ومن ثمّ مع مضيّ الوقت أصبحت قادرا على بدء التحدّث مع الناس ورؤيتهم، ليصبح كلّ ذلك مهمّا جدا.
• هل كنت مدركا لردود الفعل في وسائل الإعلام وأنت ملقى في المشفى؟
لا. بالطبع أعرف أنّه كانت هنالك الكثير من التقارير وردود الفعل ولم أشاهدها حتى اليوم، لكن على الأرجح يجب عليّ مشاهدتها لأنّني أفكّر بكتابة شيء ما عن الهجوم، فهنالك تجربتي مع ما حدث ولكن أيضا تجربة الآخرين كلّهم مع ما حدث، وباعتقادي سيكون من الجيّد أن أتمكّن من رؤية وجهة نظر أخرى مختلفة عن وجهة نظري.
• ألم يكن لديك خوف أبدا من إمكانية حدوث هذه اللحظة الخطيرة في حياتك؟
نظريا، كنت خائفا، لكن التهديد بالقتل كان منذ زمن طويل، قبل 33 سنة عابرة. لقد ألقيت في السنوات الأخيرة مئات المحاضرات في جميع أنحاء أمريكا وأوروبا وفي كلّ مكان، ولطالما قلت للمنظّمين: لا تكونوا مهووسين حين يتعلّق الأمر بإجراءات السلامة، ولكن عليكم ضمان مستوى معيّن وحدّ أدنى من الأمان تماما كما تفعلون مع جميع الناس المشهورين، افعلوا ذلك بكل بساطة. لكن للأسف لم يتمّ فعل شيء في هذا المكان.
• ألم تكن هنالك إجراءات أمنية على الإطلاق؟
لا، لا شيء على الإطلاق، وكان ذلك أحد الأخطاء. حين انقضّ عليّ هذا الشاب لم يقف أحد في طريقه.
• ألم تكن تعلم أنك تقف على المسرح دون حماية؟
لا لم أكن أعرف. لقد ظننت أن المنظّمين قاموا بفعل ما يفترض بأي أحد أن يفعله.
• هل تواصلت فيما بعد مع المنظّمين؟
قليلا. لا أرغب في التحدّث عن هذا الأمر.
• الآن تودّ أن تكتب عما حدث. هل تمعّنت في دوافع المعتدي؟
نعم، لكن أستطيع التحدّث عن ذلك فقط حين أكون قد كتبت الكتاب. أنتم تعلمون قبل كلّ شيء أنني أشعر بارتياح كبير لأنني تمكّنت من إنهاء «مدينة النصر» قبل الهجوم. قبل أسبوع من الهجوم كنت قد تمكّنت من إدخال التصحيحات الأخيرة وبالتالي كان منجزا تماما، وهذا يعني أنني أستطيع أن أقول للناس: ههنا فنّان مبدع، ههنا كاتب يكتب الكتب، وههنا أحد تلك الكتب. بطريقة ما كان مجرّد حظّ: لو أنني لم أكن قد انتهيت من إنهاء هذا الكتاب قبل الهجوم، لشكّل ذلك خطرا كبيرا إذ كنت سأفقد إيقاعي المعتاد مع الرواية، ولذلك يمكن القول إنّه كان توقيتا جيّدا.
• بما انشغلت بعد الهجوم؟ بما فكّرت؟
بالشيء الأكثر بساطة، كما تعلمون، بالعائلة، حيث يفكّر كلّ إنسان عادة في حالات كهذه، وبالطبع فكّرت في الموت. لم أعد شابا ولا أعرف كم من الوقت بقي لي لأعيشه، لكن المرء يبدأ التفكير في النهاية ومن ثمّ عليه أن يقول لنفسه أنّ عليه أن يكفّ عن التفكير في النهاية، بل عليه ببساطة أن يتابع حياته.
• هل يمكنك التصالح مع ما حدث؟
نعم، هذا ما سيحصل. أعلم أنّ وودي آلن Woody Allen شخصية مثيرة للجدل هذه الأيّام، لكنّني أتذكّر لقاء أجراه أحد الصحفيّين معه. قال الصحفي بما معناه (أي ليس حرفيا): «سيّد آلن يجب أن تكون سعيدا لأنّك أنجزت كلّ هذه الأعمال التي لا تصدّق. حين تموت ستستمرّ في الحياة عبر أعمالك» فأجابه السيّد آلن «أفضّل أن أستمرّ في العيش بشقّتي»( )، وهذا هو موقفي بالضبّط.
• قبل أكثر من عشر سنوات، قمت بكتابة سيرة شخصيّة ذاتية بعنوان «جوزيف أنطون Joseph Anton»( ). جوزيف يشير إلى جوزيف كونراد Conrad أمّا أنطون فيشير إلى أنطون تشيخوف Anton Tschechow. هل ما زالا كاتباك المفضّلين كما كانا من قبل؟
بالطبع ليسا الوحيدين. بعد عام 1989..
• ذلك العام الذي أعلنت فيه الفتوى..
لقد عشت في عزلة شديدة، وفي تلك الأوقات فكّرت في دراما «الشقيقات الثلاث» لأنطون تشيخوف. تتوق الشقيقات الثلاثة اللواتي يعشن في الريف إلى العيش في موسكو Moskau، لكنّهنّ يتوجّسن من عدم وصولهنّ إلى هناك أبدا. هذا ما يذكّرني بحالتي. في رواية «زنجي النرجس» لجوزيف كونراد حيث يحتضر أحد البحّارة ويلفظ أنفاسه الأخيرة، فيقلق عليه كثيرون ممن على السفينة، ليسأله أحدهم ساخطا: لماذا أتيت إلينا بالذات على متن السفينة؟ لا بدّ إنّك كنت تعرف أنك مريض. يجيب عليه البحّار المريض إجابة رائعة، حيث قال: «يجب أن أعيش إلى أن أموت، أليس كذلك؟». لقد غدت هذه العبارة شعارا بالنسبة لي، وهي صالحة حتى اليوم.
• هل تعتقد أنّه سيأتي وقت تتمكّن فيه من الظهور مجدّدا في الحياة العامّة؟
هذا سؤال كبير لا أملك إجابة عليه بعد.
آدم زوبوتسينسكي كاتب وأكاديمي ألماني من أصول بولندية