مثلت الميثولوجيا -الأسطورة/الأساطير- جنبا إلى جنب مع الدين شيئا خاصا لازمَ الإنسان منذ بدء الخليقة حتى اللحظة. فمن لا يؤمن بدين ما -وإن كان مُحرَّفا- لم يستطع أن يظل غير مؤمن بشيء ألبتة، بل تمسك بالأسطورة بوصفها بديلا مقدسا للدين.
بدأت الأساطير في مرحلة متقدمة من الزمن، وجسدت المعاناة الإنسانية في قصص وملاحم لا تتعلق بحادثة بعينها فحسب فتظل مرتبطة بها وتنتهي بانتهاء تلك الحقبة الزمنية، وإنما كانت موضوعاتها شمولية تصلح لكل زمان ومكان كقصة الخلق والموت والعالم الآخر، وهو ما منحها القداسة عند من يؤمن بها، وهو ما تشترك فيه مع النصوص المقدسة بالمناسبة. فالنصوص المقدسة لرمزيتها العالية وما نسميه مجازا أيضا، يجعلها قابلة للتأويل والتداول والإسقاط على حوادث مضت وولت وعلى أمور تستحدث حداثة الزمن نفسه.
بعد زمن من الميثولوجيا والدين، ولد العلم. هذا الوليد الجديد كان بارا بوالديه موافقا لهما تارة، وناقدا لهما تارة أخرى. ومع مرور الزمن، أصبح العلم دينا عند بعضهم. هذا الدين الجديد بدأ يستقل بنفسه ويستقل به تابعوه المخلصون له وحده والمنكرون للدين الذي جاءت به الرسل، حتى صار الغور عميقا بين المؤمنين بالدين المأخوذ من رسالة رسول مرسل من الله، وبين من رفع العلم لمكانة الدين فلا يؤمن إلا به.
ما الدين إذن؟ هو الطاعة والعبادة، دِنْتُ لله أي أطعته. يرى المؤمنون بالعلم وحده أنه البديل الموضوعي الذي يُعطي الحقيقة المجردة من أي تحيز مبني على الدوافع البشرية كالعاطفة والنشأة الأولى بما يصاحبها من ثقافة مجتمعية ودينية، لكن السؤال الذي يبرز للوجود مباشرة؛ من يُوجد العلم؟ أليس العلم مأخوذا من العلماء؟ أليس العلماء بشرا؟ هكذا نصل إلى سلسلة لانهائية من الأسئلة التي تجعلنا لا نستطيع أن نعدّ العلم فيها موازيا للدين فضلا عن أن يكون بديلا له. لو قلنا إن الحقيقة الموضوعية هي التي تكون مبنية على العلم وحده، فسيُعيدنا ذلك مرة أخرى إلى العِلَّة الأولى، وهي أن العالم أو العلماء الذين يُصدِّرون تلك الحقيقة ليسوا منفصلين عن ذواتهم الإنسانية؛ فالإنسان يُحس ويشعر ويتأثر بمن حوله بصورة منطقية وغير منطقية كذلك. صحيح أن العلم كشيء بحت لا يمكنه الشعور وليس مُوجَّها بدوافعه الذاتية، لكن النتائج العلمية المستخلصة بواسطة البشر مُوجهة تماما. والأمثلة التاريخية التي تؤكد هذه الحقيقة غير قابلة للحصر، فالعلماء بوصفهم بشرا من بقعة جغرافية ما تحت سُلطة بشرية ما، يتأثرون بتلك السلطة رغبة ورهبة. فبمقدار جيد من المال يمكن توجيه العلم نحو نتائج شنيعة، كاعتبار أن الشعب الفلاني أقل بشرية من البشر، وبالتالي يصبح احتلال أرضه ونهب ثرواتها وإبادته شيئا مشروعا بناء على ما توصلت إليه النتيجة العلمية -الموضوعية جدا!!-. أو أن العِرق الأنقى هو من نصيب الدولة الأقوى في ذلك الوقت، وبالتالي فلها مطلق الاستحقاق في استعباد بقية الشعوب وسلبها الحق في إنسانيتها واستقلالها.
العلم أداة بالغة الأهمية، ومن الحماقة الاستغناء عنه تماما، كما من الحماقة الأخذ بكل نتائجه واعتبارها شيئا منفصلا عن الدوافع الإنسانية. ولنا في العصر الحديث أنموذج بالغ الأهمية في جانب تسييس العلم وتوجيه نتائجه، وهي مسألة التحول الجنسي، والفرق بين الجنس «SEX» والنوع «GENDER». فما هو الجندر وما مفهومه؟ ، أقتبس المفهوم من مقال لليلى الرفاعي نشرته شبكة الجزيرة بعنوان («مفاهيم جندرية».. من ملكية الجسد إلى تطبيع الشذوذ) ، تقول ليلى «ومفهوم «الجندر» يوضِّح الفروق بين الرجل والمرأة الحاصلة من الدور الاجتماعي المنوط بهما، والمنظور الثقافي والوظيفة لكل منهما، وهذه الفروق هي نتاج لعوامل دينية وثقافية، وسياسية واجتماعية؛ أي: أنها فروق صنعها البشر عبر تاريخهم الطويل، وهي فروق يمكن تجاوزها في إطار المساواة بين الرجل والمرأة في حين لا يمكن فعل ذلك في الفروق الفيزيولوجية بين الرجل والمرأة التي تقف حاجزا استفهاميا أمام مساواة مطلقة». أما الجنس «SEX» فهو لتحديد الفرق البيولوجي بين الذكر والأنثى كما هو معروف منذ الأزل. حسنا، ما علاقة هذا بحديثنا عن العلم؟
يشهد العالم اليوم موجة متطرفة وشرسة تدعو للانحلال بشكل فج وتمييع الفروقات الجوهرية بين الرجل من حيث كونه ذكرا بصفاته البيولوجية، وبين المرأة من حيث صفاتها البيولوجية التي تؤكد بأنها أنثى. يقف خلف هذا التوجه سياسيون وعلماء وأطباء يدفعون بقوة تجاه هذا الخراب المفصلي في تاريخ البشرية، وما كنا نراه علما موضوعيا، صار أداة يتم توجيهها ودفعها بكل قوة نحو تجهيل العقل الجمعي للناس بأداة إعلامية جبارة تكرس تمييع الفروقات الجوهرية بين الذكر والأنثى.
قدم المذيع الأمريكي مات والش فيلما وثائقيا أمريكيا بعنوان «ما هي المرأة؟»What is a Woman?))، يسأل فيه أطباء وعلماء اجتماع وسياسيين فضلا عن عامة الناس هذا السؤال البديهي؟. هذا السؤال الذي يجعلنا للوهلة الأولى نتعجب من كونه موضوعا للنقاش والطرح، فمن ذا الذي لا يعرف ما هي المرأة!!. لكن، وفور مشاهدة المرء للفيلم الوثائقي، فإنه يتلقى صدمات متتالية تجعله يتساءل (من يحدد ما هو علمي وما هو ليس كذلك؟). ومن السخرية المضاعفة في الفيلم، أن نشاهد طبيبا يحمل شهادة علمية يجيب بأن المرأة هي التي تشعر بأنها امرأة ولو كانت مولودة بصفات الذكر البيولوجية!.
أقتبس مرة أخرى من شبكة الجزيرة توصيف هذا الفيلم الوثائقي، «يناقش المذيع فكرة ترويج التحول الجنسي وخصوصا للأطفال، حيث ينتقد أن تكون هذه المواضيع معروضة للنقاش لأطفال لا يمكنهم تمييز الحقيقة من الخيال، ولا يملكون القدر الكافي من الوعي لأخذ قرار بهذه الخطورة». يشعر الإنسان السوي بالهلع لدى مشاهدته لهذا الفيلم، كما يدرك أن الأسس الأخلاقية للدين لا يمكن تعويضها ببديل بتاتا ولو كان العلم نفسه. إن العلم أداة لتحسين حياة البشر والوصول إلى الكمال الإنساني في عمارة هذه الأرض، ولا يمكن له بحال أن يغنينا أو يشفي تساؤلاتنا الإنسانية القديمة كالمصير الذي نصير إليه بعد الموت، كما لا يمكن له بحال أن يمنحنا الأسس الأخلاقية التي منحنا إياها الدين في الكيفية التي نتعامل بها مع إخوتنا في الإنسانية ومع حياتنا والغاية النهائية منها. لا ننكر أن المؤسسة الدينية عبر التاريخ الطويل للبشرية كان لها دور في الخراب والقتل والتدمير حين تكون موجهة سياسيا، لكن الأساس الحقيقي للدين هي الكتب السماوية وليست أفعال رجال الدين. على الجانب الآخر، يضع البشر القوانين العلمية التي تتطور وتتبدل كل يوم، تطورَ التجربة البشرية ذاتها. فلا يمكن لعاقل أن يستبدل بشيء ثابت شيئا متغيرا ويساوي بينهما في المكانة.
ختاما، أشير إلى حديث عالم النفس الأمريكي جوردان بيترسون في كتابه «12 قاعدة للحياة» حيث يقول في ص91 بتصرف «ونظرا لأننا صرنا نعتمد على العلم إلى حد بعيد الآن -وصرنا ماديين حتى النخاع- فقد أصبح من الصعب جدا علينا حتى أن نفهم أنه قد تكون ثمة طرق أخرى للرؤية، بل إنها موجودة في الأساس».
بدأت الأساطير في مرحلة متقدمة من الزمن، وجسدت المعاناة الإنسانية في قصص وملاحم لا تتعلق بحادثة بعينها فحسب فتظل مرتبطة بها وتنتهي بانتهاء تلك الحقبة الزمنية، وإنما كانت موضوعاتها شمولية تصلح لكل زمان ومكان كقصة الخلق والموت والعالم الآخر، وهو ما منحها القداسة عند من يؤمن بها، وهو ما تشترك فيه مع النصوص المقدسة بالمناسبة. فالنصوص المقدسة لرمزيتها العالية وما نسميه مجازا أيضا، يجعلها قابلة للتأويل والتداول والإسقاط على حوادث مضت وولت وعلى أمور تستحدث حداثة الزمن نفسه.
بعد زمن من الميثولوجيا والدين، ولد العلم. هذا الوليد الجديد كان بارا بوالديه موافقا لهما تارة، وناقدا لهما تارة أخرى. ومع مرور الزمن، أصبح العلم دينا عند بعضهم. هذا الدين الجديد بدأ يستقل بنفسه ويستقل به تابعوه المخلصون له وحده والمنكرون للدين الذي جاءت به الرسل، حتى صار الغور عميقا بين المؤمنين بالدين المأخوذ من رسالة رسول مرسل من الله، وبين من رفع العلم لمكانة الدين فلا يؤمن إلا به.
ما الدين إذن؟ هو الطاعة والعبادة، دِنْتُ لله أي أطعته. يرى المؤمنون بالعلم وحده أنه البديل الموضوعي الذي يُعطي الحقيقة المجردة من أي تحيز مبني على الدوافع البشرية كالعاطفة والنشأة الأولى بما يصاحبها من ثقافة مجتمعية ودينية، لكن السؤال الذي يبرز للوجود مباشرة؛ من يُوجد العلم؟ أليس العلم مأخوذا من العلماء؟ أليس العلماء بشرا؟ هكذا نصل إلى سلسلة لانهائية من الأسئلة التي تجعلنا لا نستطيع أن نعدّ العلم فيها موازيا للدين فضلا عن أن يكون بديلا له. لو قلنا إن الحقيقة الموضوعية هي التي تكون مبنية على العلم وحده، فسيُعيدنا ذلك مرة أخرى إلى العِلَّة الأولى، وهي أن العالم أو العلماء الذين يُصدِّرون تلك الحقيقة ليسوا منفصلين عن ذواتهم الإنسانية؛ فالإنسان يُحس ويشعر ويتأثر بمن حوله بصورة منطقية وغير منطقية كذلك. صحيح أن العلم كشيء بحت لا يمكنه الشعور وليس مُوجَّها بدوافعه الذاتية، لكن النتائج العلمية المستخلصة بواسطة البشر مُوجهة تماما. والأمثلة التاريخية التي تؤكد هذه الحقيقة غير قابلة للحصر، فالعلماء بوصفهم بشرا من بقعة جغرافية ما تحت سُلطة بشرية ما، يتأثرون بتلك السلطة رغبة ورهبة. فبمقدار جيد من المال يمكن توجيه العلم نحو نتائج شنيعة، كاعتبار أن الشعب الفلاني أقل بشرية من البشر، وبالتالي يصبح احتلال أرضه ونهب ثرواتها وإبادته شيئا مشروعا بناء على ما توصلت إليه النتيجة العلمية -الموضوعية جدا!!-. أو أن العِرق الأنقى هو من نصيب الدولة الأقوى في ذلك الوقت، وبالتالي فلها مطلق الاستحقاق في استعباد بقية الشعوب وسلبها الحق في إنسانيتها واستقلالها.
العلم أداة بالغة الأهمية، ومن الحماقة الاستغناء عنه تماما، كما من الحماقة الأخذ بكل نتائجه واعتبارها شيئا منفصلا عن الدوافع الإنسانية. ولنا في العصر الحديث أنموذج بالغ الأهمية في جانب تسييس العلم وتوجيه نتائجه، وهي مسألة التحول الجنسي، والفرق بين الجنس «SEX» والنوع «GENDER». فما هو الجندر وما مفهومه؟ ، أقتبس المفهوم من مقال لليلى الرفاعي نشرته شبكة الجزيرة بعنوان («مفاهيم جندرية».. من ملكية الجسد إلى تطبيع الشذوذ) ، تقول ليلى «ومفهوم «الجندر» يوضِّح الفروق بين الرجل والمرأة الحاصلة من الدور الاجتماعي المنوط بهما، والمنظور الثقافي والوظيفة لكل منهما، وهذه الفروق هي نتاج لعوامل دينية وثقافية، وسياسية واجتماعية؛ أي: أنها فروق صنعها البشر عبر تاريخهم الطويل، وهي فروق يمكن تجاوزها في إطار المساواة بين الرجل والمرأة في حين لا يمكن فعل ذلك في الفروق الفيزيولوجية بين الرجل والمرأة التي تقف حاجزا استفهاميا أمام مساواة مطلقة». أما الجنس «SEX» فهو لتحديد الفرق البيولوجي بين الذكر والأنثى كما هو معروف منذ الأزل. حسنا، ما علاقة هذا بحديثنا عن العلم؟
يشهد العالم اليوم موجة متطرفة وشرسة تدعو للانحلال بشكل فج وتمييع الفروقات الجوهرية بين الرجل من حيث كونه ذكرا بصفاته البيولوجية، وبين المرأة من حيث صفاتها البيولوجية التي تؤكد بأنها أنثى. يقف خلف هذا التوجه سياسيون وعلماء وأطباء يدفعون بقوة تجاه هذا الخراب المفصلي في تاريخ البشرية، وما كنا نراه علما موضوعيا، صار أداة يتم توجيهها ودفعها بكل قوة نحو تجهيل العقل الجمعي للناس بأداة إعلامية جبارة تكرس تمييع الفروقات الجوهرية بين الذكر والأنثى.
قدم المذيع الأمريكي مات والش فيلما وثائقيا أمريكيا بعنوان «ما هي المرأة؟»What is a Woman?))، يسأل فيه أطباء وعلماء اجتماع وسياسيين فضلا عن عامة الناس هذا السؤال البديهي؟. هذا السؤال الذي يجعلنا للوهلة الأولى نتعجب من كونه موضوعا للنقاش والطرح، فمن ذا الذي لا يعرف ما هي المرأة!!. لكن، وفور مشاهدة المرء للفيلم الوثائقي، فإنه يتلقى صدمات متتالية تجعله يتساءل (من يحدد ما هو علمي وما هو ليس كذلك؟). ومن السخرية المضاعفة في الفيلم، أن نشاهد طبيبا يحمل شهادة علمية يجيب بأن المرأة هي التي تشعر بأنها امرأة ولو كانت مولودة بصفات الذكر البيولوجية!.
أقتبس مرة أخرى من شبكة الجزيرة توصيف هذا الفيلم الوثائقي، «يناقش المذيع فكرة ترويج التحول الجنسي وخصوصا للأطفال، حيث ينتقد أن تكون هذه المواضيع معروضة للنقاش لأطفال لا يمكنهم تمييز الحقيقة من الخيال، ولا يملكون القدر الكافي من الوعي لأخذ قرار بهذه الخطورة». يشعر الإنسان السوي بالهلع لدى مشاهدته لهذا الفيلم، كما يدرك أن الأسس الأخلاقية للدين لا يمكن تعويضها ببديل بتاتا ولو كان العلم نفسه. إن العلم أداة لتحسين حياة البشر والوصول إلى الكمال الإنساني في عمارة هذه الأرض، ولا يمكن له بحال أن يغنينا أو يشفي تساؤلاتنا الإنسانية القديمة كالمصير الذي نصير إليه بعد الموت، كما لا يمكن له بحال أن يمنحنا الأسس الأخلاقية التي منحنا إياها الدين في الكيفية التي نتعامل بها مع إخوتنا في الإنسانية ومع حياتنا والغاية النهائية منها. لا ننكر أن المؤسسة الدينية عبر التاريخ الطويل للبشرية كان لها دور في الخراب والقتل والتدمير حين تكون موجهة سياسيا، لكن الأساس الحقيقي للدين هي الكتب السماوية وليست أفعال رجال الدين. على الجانب الآخر، يضع البشر القوانين العلمية التي تتطور وتتبدل كل يوم، تطورَ التجربة البشرية ذاتها. فلا يمكن لعاقل أن يستبدل بشيء ثابت شيئا متغيرا ويساوي بينهما في المكانة.
ختاما، أشير إلى حديث عالم النفس الأمريكي جوردان بيترسون في كتابه «12 قاعدة للحياة» حيث يقول في ص91 بتصرف «ونظرا لأننا صرنا نعتمد على العلم إلى حد بعيد الآن -وصرنا ماديين حتى النخاع- فقد أصبح من الصعب جدا علينا حتى أن نفهم أنه قد تكون ثمة طرق أخرى للرؤية، بل إنها موجودة في الأساس».