إذا عدنا إلى تاريخ بلادنا في عام 1970 فسنجد أنه كان يتوفى 19% من الأطفال العمانيين دون سن الخامسة بسبب الأمراض، والتي كانت أكثرها أمراضًا معدية، أي أن الأمهات والآباء كانوا يفقدون ما يقارب واحدًا من كل خمسة أبناء وبنات لهم في عمر مبكر. ونجح العمانيون في عصر نهضة البلاد في وقف هذا النزيف، حيث انخفضت هذه النسبة بفضل الله أضعافًا مضاعفة حتى وصلت إلى ما هي عليه اليوم: أقل من 1%، ويعود الفضل في هذا بعد الله إلى ملحمة من الجهود والإنجازات في تعزيز الصحة العامة، يذكر من ضمنها السيطرة على البعوض الناقل للملاريا، وتوفير المضادات لعلاج الالتهابات البكتيرية، وتوفير الصرف الصحي في المدن، وإنشاء المراكز الصحية والمستشفيات، أما أبرز هذه الإنجازات فكانت حملة التحصين ضد الأمراض المعدية. التحصينات هي ربما أنجح الإجراءات في مجال الطب، فبجرعات صغيرة، قليلة، وعالية الكفاءة والسلامة يمكن وقاية الناس من أخطر الأمراض المعدية، إذ نجحت التحصينات في عُمان في القضاء على شلل الأطفال، والجدري، والحصبة، والحصبة الألمانية، وتمت السيطرة على الكزاز والخناق، وانخفضت بأكثر من 90% الإصابات بالبكتيريا العقدية الرئوية، والبكتيريا المستدمية (ب)، والسعال الديكي، والكبد الوبائي (ب)، والحماق، والنكاف، كما بدأنا نلاحظ انخفاضا في الكبد الوبائي (أ) بعد إدراج التحصين ضده مؤخرًا. وصلنا مع بعض هذه الأمراض إلى درجة أن جيلنا الشاب بات ينسى وجودها من الأساس، في حين كان آباؤنا وأجدادنا يرونها بشكل يومي، وقد تحقق كل هذا بفضل تطعيمات ذات سلامة عالية جدًا، تضاهي في سلامتها أدوية بسيطة كالبروفين أو الأدول، ومع تحقيق أعلى نسبة للتحصين على مستوى العالم (99%)، والمحافظة عليها على مدى السنين -الإنجاز الذي يدعو فعلًا إلى الفخر- حصلنا على أكبر فائدة من التحصين ولصالح الجميع.

وبالتالي عندما عصفت بنا جائحة «كوفيد-19» في عام 2020، ورأينا المستشفيات تمتلئ فوق طاقتها بمرضى مصابين بالتهابات رؤية شديدة، من شتى الأجناس والأعمار، يشعرون بالاختناق ويتألمون مع كل نفس، حياتهم معتمدة على أقنعة الأوكسجين، وتألمنا لمفارقة عشرات المرضى للحياة بشكل يومي، عندها كان التحصين ضد المرض من أهم الحلول التي تمنيناها لوقف نزيف الأرواح وحماية الناس من مخاطر هذا الوباء الجديد، وبفضل الله ثم بجهود حثيثة لعلماء من مختلف دول العالم، طورت مئات اللقاحات، وفي غضون عام اجتاز عدد منها جميع مراحل إثبات السلامة والفعالية (بداية من التجريب في الحيوان، ثم التجريب المتدرج في المتطوعين البشر على ثلاث مراحل، بحيث يزداد عدد الناس مع اجتياز كل مرحلة ليصل إلى ثبوت الفعالية والمأمونية لدى عشرات الآلاف في المرحلة الثالثة)، وتم ترخيصها للاستخدام. وبالفعل شاهدنا إقبالا جميلا من أبناء الوطن على اللقاحات، حيث تقدم أكثر من 90% من الناس للتطعيم، وانطفأت مع حملة التحصين نار الجائحة في غضون أسابيع، فتوقفت الوفيات الإضافية وخلت المستشفيات من مرضى «كوفيد-19»، وبالرغم من تحور الفيروس وظهور سلالة أوميكرون التي سببت موجة إصابات جديدة، إلا أن المناعة التي اكتسبناها حمتنا بشكل ممتاز من الإصابات الشديدة، فأعداد المنومين كانت قليلة، وبقيت وحدات العناية المركزة شبه خالية من مرضى «كوفيد-19»، ونجحت المناعة المكتسبة في تحييد خطورة الفيروس، وجعلته أقل خطرًا من الإنفلونزا الموسمية، تنفسنا الصعداء وعادت الحياة تدريجيًا إلى طبيعتها التي كانت قبل الجائحة.

نحمد الله اليوم على نعمة المناعة، ونشكره على أن سخر لنا العقل، والعلم، والعلماء الذين اجتهدوا ووفروا للإنسانية الأدوية والتحصينات التي حمت مليارات البشر من المخاطر، ومع أننا نحتفل اليوم بهذه الإنجازات وبتلاشي خطر الجائحة، إلا أن ثمة شيئا يعكر صفو هذا الاحتفال، ألا وهو جائحة الإشاعات، فالمتصفح لوسائل التواصل الاجتماعي في الأشهر الأخيرة يجد أن الإشاعات المغرضة ونظريات المؤامرة والأنباء الباطلة تنتشر فيها بشكل مفرط، ورواجها للأسف أكبر بكثير من المعلومات الموثوقة والحقائق العلمية، وأصبح من الصعب على عامة الناس التفرقة بين ما يمكن تصديقه وما يجب تكذيبه، فتجد الكثير من «صانعي المحتوى» يبحث عن الشهرة والتفاعل مع أطروحاته عن طريق ترويج أخبار شائكة، أو صياغة خبر بطريقة مغرضة، أو تأجيج رأي عامة الناس ضد إجراءات مهمة كالتحصين، وتجد هذه الأطروحات للأسف رواجًا في شبكات التواصل الاجتماعي لما تثيره من مشاعر غضب أو خوف أو دهشة تجذب اهتمام الناس، تنتشر وتؤثر بشكل واسع بغض النظر عن صحتها العلمية، ولربما يكسب «صانع المحتوى» من ورائها ثمنًا قليلًا، لكن في ضياع الحقيقة وتضليل عامة الناس، ندفع كمجتمع ثمنًا باهظا.

يقع الكثير من الناس في فخ هذه الشائعات الزائفة، ومع تكررها بكثرة وانتشارها بشكل واسع، يبدأ البعض بتصديقها. فعلى سبيل المثال كثر في وسائل التواصل الاجتماعي من يحاول نسب الزيادة في الجلطات والسكتات القلبية أثناء الجائحة إلى اللقاحات، واستغلوا وجود التهاب القلب كعرض جانبي لبعض اللقاحات لإقناع الناس بأنها مضرة، إلا أن الحقيقة بناء على العلم تشير إلى عكس ذلك، فجميع الدراسات العلمية أشارت إلى أن هناك زيادة متوقعة في الجلطات والسكتات القلبية بعد الإصابة بـ«كوفيد-19»، وذلك لأن الفيروس له آثار على الشرايين، وتجلط الدم، وعضلة القلب، وبالفعل رأينا في مختلف الدول ارتفاع هذه المضاعفات بعد كل موجة من موجات «كوفيد-19»، في المقابل أظهرت الدراسات العلمية أن حصول هذه المضاعفات (الجلطات والسكتات) أقل عند المطعمين مقارنة بغير المطعمين، أي أن التطعيم في الحقيقة حمى الناس من هذه المضاعفات، وماذا عن التهاب عضلة القلب كعرض جانبي للقاح؟ بينت الدراسات أن هذا العرض نادر جدًا (نسبته 1 لكل 100 ألف مطعم) ونسبة التعافي منه عالية جدًا (فوق 95%). بالرغم من وضوح المعلومات والدراسات العلمية، وإجماع خبراء الصحة العامة وخبراء الأمراض المعدية على أهمية التحصين وفائدته، إلا أن مثل هذه الإشاعات أثرت في الرأي العام، وتسببت في رفض الكثير للقاح، ففي عمان وبعد انتشار الشائعات أقدم أقل من 15% من الناس على الجرعة الثالثة، أما في الولايات المتحدة فقد رفض ما يقارب 20% من الناس جميع جرعات اللقاح، قدرت دراسة قامت بها جامعة براون بأن أكثر من 300 ألف حالة وفاة من «كوفيد-19» كان من الممكن تجنبها بسهولة بأخذ التحصين1، لكن الإشاعات للأسف حالت بين هؤلاء الناس وحصولهم على حماية التحصين، وكأن حياتهم راحت ضحية إشاعات خاطئة. بينما نحتفل بما تحقق من إنجازات علمية خدمت الإنسانية، نتألم كذلك عندما نرى جهود العلماء تذهب سدًا بسبب التشويش والتضليل الذي عم وسائل التواصل الاجتماعي، دونما إحساس بالمسؤولية، ودونما محاسبة، ويزداد الألم شدة عندما ندرك أن هناك من فارق الحياة وراح ضحية إشاعة زائفة، ولربما كان من أرسل إليه الإشاعة قريب أو زميل. نعم التحصين حمى أجسادنا من مخاطر جائحة «كوفيد-19».

د. زيد بن الخطاب الهنائي أستاذ مساعد واستشاري الأمراض المعدية لدى الأطفال بكلية الطب والعلوم الصحية بجامعة السلطان قابوس