ربما كان الهجوم العسكري الأوكراني المضاد الذي بدأ مؤخرا هو أكثر معركة في هذه الحرب المندلعة منذ عام ونصف التي تتفوق دوافعها السياسية بوضوح وبفارق كبير على دوافعها العسكرية. وإذا كان هناك شبه اتفاق عام على أن الحرب الأوكرانية هي في جوهرها حرب ما قبل عالمية بالوكالة بين الغرب وروسيا وليس حربا إقليمية أو حدودية بين روسيا وأوكرانيا فإن هناك اتفاقا عاما جديدا ينمو بثبات وهو أن الحرب الأوكرانية تتحول - خاصة مع استمرارها المتوقع لسنوات قادمة - إلى ورقة في بورصة التنافس الحزبي الداخلي للدول الغربية وبالتحديد الولايات المتحدة.

إذ تدل كل المؤشرات على أن الهجوم الأوكراني المضاد تم تحت ضغوط غربية تستهدف رؤية مكاسب عسكرية حقيقية للجيش الأوكراني يسترد فيها أراضيه في الدونباس والجنوب التي استولت عليها القوات الروسية، بالإضافة إلى مكاسب يمكن الإعلان عنها ساعتها باعتبارها هزيمة واضحة للجيش الروسي، وانتصارا واضحا للجيش الأوكراني ومستشاريه وأسلحته الغربية.

بعبارة أخرى تبدو هذه الحرب مطلبا غربيا على سلطات كييف لرؤية عائد حقيقي على استثمارها الكثيف في الجيش الأوكراني.

الاستثمار الذي لم يسبق له مثيل في التاريخ كما وكيفا في هذه الفترة الزمنية المحدودة أوصل المحللين الأمريكيين للتباهي بالقول إن الجيش الأوكراني بات بفضل التسليح والتدريب الغربي أقوى جيش في أوروبا!!

فمنذ نجاح الجيش الروسي في السيطرة على ٢٠٪ من أراضي أوكرانيا الذي توجه بالاستيلاء على مدينة «باخموت» ذات الأهمية الاستراتيجية الرمزية باتت النخب الحاكمة في واشنطن والاتحاد الأوروبي والناتو عامة في وضع حرج أمام ناخبيهم الذين يواجهون مشكلات التضخم وارتفاع أسعار الطاقة ومعدلات البطالة في وقت ترسل فيه حكوماتهم مئات المليارات من الدولارات إلى كييف كمساعدات عسكرية واقتصادية، مساعدات اقتربت من حدود ٥٠٠ مليار دولار بحلول الذكرى الأولى للحرب في فبراير الماضي.

هناك عاملان مهمان ينهضان في هذا السياق يفسران الضغوط الغربية على كييف لشن الهجوم المضاد الحالي:

العامل الأول: هو التراجع البطيء ولكن المستمر في نسبة تأييد المواطنين في الدول الغربية لاستمرار الدعم لأوكرانيا مقارنة ببداية الحرب وهو تراجع يعود حسب استطلاعات الرأي إلى تنامي إدراك لدى الناخبين الغربيين بأن ما تم تقديمه لأوكرانيا أكثر من كاف، وأن استمراره بنفس المعدلات سيكون سببا في استمرار وتفاقم معاناتهم الراهنة من ارتفاع في أسعار الغذاء والسكن والكهرباء والبنزين..إلخ.

هذا التراجع الشعبي النسبي ولكن المطرد في تأييد الحرب والإنفاق عليها سيدخل في حسابات كل النخب السياسية الغربية الموجودة في الحكم أو الطامحة إليه خاصة إذا لم تنجح السياسات النقدية المشددة المطبقة حاليا مثل رفع سعر الفائدة في احتواء التضخم والسيطرة على تدهور الأوضاع الاقتصادية.

العامل الثاني: هو دورية الاستحقاقات الانتخابية في الديمقراطيات الغربية سواءً كانت انتخابات عامة أو رئاسية وهي تجعل من التورط الغربي التام في الحرب لصالح أوكرانيا مسألة رئيسية في هذه الانتخابات.

وإذا أخذنا المانح الغربي الأكبر لأوكرانيا وهي الولايات المتحدة «ضخت لوحدها في عام ٢٠٢٢ فقط ما يقرب من ٢٠٠ مليار دولار»، سنجد أنها تواجه الاستحقاق الانتخابي الرئاسي في نوفمبر من العام المقبل. وبما أن الرئيس الديمقراطي الحالي جو بايدن قد أعلن عن نيته في ترشيح نفسه للانتخابات المقبلة ولا يبدو - في الوقت الراهن على الأقل - أنه سيواجه صعوبة في الحصول على ترشيح حزبه فإنه مطالب أن يقدم للناخبين برهانا دامغا على صحة سياسته في التورط المالي والعسكري في دعم أوكرانيا وأنه نجح في تحقيق هدفه في إزالة الاجتياح الروسي لباقي الدول الأوروبية كما تفترض «السردية» الأمريكية والأطلسية. وليس من شيء يستطيع أن يقدم هذا البرهان إلا دفع أوكرانيا لهجوم يستفيد من فصلي الصيف والخريف في تحقيق انتصارات على الأرض واستعادة كل أو معظم أراضيها الواقعة الآن تحت السيطرة الروسية.

أما لماذا يبدو ذلك مسألة حيوية لفرص بايدن في الفوز بفترة رئاسية ثانية في البيت الأبيض فذلك يرجع لحقيقة أن منافسه المحتمل من الحزب الجمهوري سواء كان ترامب أو غيره لديهم موقف سلبي معارض لتحويل أموال هائلة إضافية لأوكرانيا فيقولون أو يغازلون الناخب الأمريكي بالإشارة إلى أنه من الأجدر توجيهها لكبح التضخم وزيادة فرص العمل للمواطنين الأمريكيين.

من المدهش أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يواجه نفس المأزق الذي يواجهه بايدن ورغم اختلاف مستويات التطور الديمقراطي بالمعايير الغربية بين كل من روسيا وأوكرانيا من جهة والولايات المتحدة وأوروبا من جهة أخرى فإنه يتصادف أن الانتخابات الرئاسية الروسية والرئاسية الأوكرانية ستجري في وقت متقارب في مارس أو أبريل من العام المقبل. ويسعى كل من الغريمين بوتين وزيلينسكي ليس فقط للفوز بالانتخابات في بلده ولكن أيضًا لتحقيق نتائج في الحرب تكون كفيلة بسقوط خصمه وعدم بقائه في السلطة.

وبما أن مصير الرئيس الأوكراني هو في الكفة نفسها مع بايدن فإن بوتين سيفعل عبر قواته العسكرية كل ما بوسعه لإفشال الهجوم الأوكراني المضاد الراهن ومنعه من تحقيق اختراقات كبرى أو استعادة أراض لها قيمة عسكرية أو معنوية تقع تحت حوزة الجيش الروسي حاليا.

ماذا تقول المؤشرات الراهنة بعد نحو أسبوعين على بدء الهجوم الأوكراني؟

تقول المؤشرات باختصار غير مخل إن الأوكرانيين عجزوا حتى الآن عن تحقيق نصر عسكري كبير تكون له قيمة سياسية تفيد انتخابات بايدن وزيلينسكي وأن الأراضي التي تمت استعادتها بعد الهجوم من يد الروس كانت محدودة للغاية وإنها على حد قول محللين غربيين ستقاس بالمتر وليس بالكيلومترات!!

ورغم حصول الأوكرانيين على أحدث أنواع الأسلحة المتقدمة من الغرب إلا أن هناك اتفاقا بين كثير من الجنرالات الأطلسيين على أن الروس استفادوا من أخطائهم السابقة في الحرب وقلصوا الفارق في الطائرات المسيرة الذي كان لصالح أوكرانيا وأقاموا خطوطا دفاعية شديدة الصلابة في المناطق التي استولوا عليها وطوروا قنابل قديمة لديهم إلى قنابل فرط صوتية مؤثرة بالإضافة لتحسين أداء طائراتهم بعد التحسن الكبير الذي طرأ على الدفاعات الجوية الأوكرانية.

بعبارة أخرى يبدو أن بوتين في وضع أفضل نسبيا من الناحية العسكرية في منع الهجوم الأوكراني الحالي من تحقيق دوافعه السياسية الخاصة بتعزيز أو إضعاف فرص بايدن في الانتخابات المقبلة ولكنه وضع محدود لا يمكنه في الوقت نفسه من أن يهزم الجيش الأوكراني هزيمة ساحقة تجعل من الحرب الأوكرانية هي العنصر الوحيد والحاسم في نجاح بايدن من عدمه بل ستكون عاملا ضمن عوامل أخرى على رأسها نجاحه أو إخفاقه في كبح التضخم وتوفير الوظائف خلال الستة عشر شهرا المقبلة.

حسين عبدالغني إعلامي وكاتب مصري