لماذا يجب أن نقرأ الكتب سيئة الصيت؟ وهل يجوز لنا أخلاقيا الاستفادة منها؟ وهل هي شر مطلق، أم أنها لا تخلو من الفائدة؟ يقف القارئ متأملا هذه الأسئلة وأسئلة أخرى كلما وجد نفسه يشرع بقراءة كتاب ذاعت سمعته السيئة، ولا يذكر ذلك الكتاب إلا مصحوبا بذكر الشر المطلق المتجسد فيه كما يرى بعض النقاد خصوصا والقراء عموما، فما العمل كي نقرأ هذه الكتب بعين مختلفة؟ وهل ينبغي لنا قراءتها أصلا؟
أكتب هذه الكلمات، وكتاب الأمير لنيكولو مكيافيللي يستفزني للكتابة عنه. فقد رافقت هذا الكتاب ورافقني مرارا، وذلك لأن هذا الكتاب الذي ترجمه محمد لطفي جمعة مسجل صوتيا، وأستمع إليه أحيانا في الطرق الطويلة وأنا أقود السيارة. نيكولو مكيافيللي هو مفكر وفيلسوف سياسي إيطالي، عاش في العصر الذهبي لإيطاليا في القرنين الخامس عشر والسادس عشر الميلاديين. أبتدئ كلامي هذا باقتباس من كتاب فيلسوف عصر التنوير الفرنسي مونتسكيو «روح القوانين» أو «روح الشرائع» في ترجمة أخرى، حيث يقول: «أرجو من قرائي أن يتفضلوا عليّ بجميل -قد لا يمنحوني إياه- ، وهو ألّا يحكموا نتيجة قراءاتهم بضع ساعات في كتابي، على عمل استغرق مني عشرين عاما، وأن يحكموا على الكتاب في مجموعه، إما قبولا أو رفضا، لا على فقرات معينة منه، وإذا قُدِّرَ لهم أن يفعلوا ذلك بدراسة ما رسمه المؤلف من مخطط، فإن خير ما يفعلونه هو أن يتعمّقوا في دراسة مخطط الكتاب نفسه».
أما عن القراءة للكتب سيئة الصيت، فإنني أعمل بنصيحة العقاد الذي يرى أن القراءة نافعة للكتاب الحسن ونقيضه، وهي نافعة للنافع والضار كذلك؛ فالقارئ قبل أن يقرأ أي شيء هو ناقد مطّلع عاقل، وليس الذي يسلم عقله لأي مؤلف كان ممن نستطيع أن نعتبره من العقلاء، فالقراءة التي تكون بيد العقل ترفقها الرغبة المتَّقِدة في المعرفة، هي القراءة الحقّة التي تعود على المرء بالفائدة، ويغدو الكتاب السيئ نافعا حين نستعمله في تحقيق الخير بتطويعه وفق المبادئ الخيِّرة والنافعة، فلا يعقل أن نواجه المدفع الرشاش بسيف ورمح، إنما نوجه تلك الآلة القاتلة في سبيل حفظ الأمن وحماية المستضعفين، فتكون بذلك آلة حفظ للحياة بعدما كانت وسيلة لوأد الحياة وتقويضها. هكذا تكون الاستفادة من الكتب سيئة الصيت جائزة أخلاقيا ومعرفيا على السواء. بل إن قراءتها واجبة لمعرفة مراميها وتفكيكها وصقلها بعد ذلك لتكون نافعة وفي خدمة الخير الإنساني.
ذكرنا بأن كتاب الأمير من الكتب التي أصيبت ببلاء كثير من مثيلاتها، فتأطير فكرة أو شخص أو كتاب؛ عِلّة لم يسلم منها كثير من العظماء ولم تسلم منها كثير من الكتب والنظريات. ويستدل القارئ المطلع بكتاب «أصل الأنواع» لعالم الأحياء البريطاني تشارلز داروين، الذي تم تسخيف نظريته على مدى عقود من الزمن -ولا يزال الأمر على حاله- دون أن يبذل المستخفون بنظريته أدنى جهد لقراءة كتابه الذي تُرجِم إلى كل اللغات تقريبا!. فمقولة أن أصل الإنسان «قرد»، مقولة لم يذكرها داروين لا من قريب ولا من بعيد!، إنما هي مقولة ألصقها مناوئوه به وبنظريته لتسخيفها وزعزعة ثقة الناس بها وإبعادهم عن الاطلاع عليها. حسنا، لنعد إلى كتاب الأمير، فهذا الكتاب فيه من الفوائد ما لا يحصى، بل إن فيه من الحِكَم المنثورة في سياسة الدولة وسياسة المرء لنفسه وماله ما لا يُحصى، ولكن تأطير هذا الكتاب في بوتقة واحدة وضيقة هو ما أكسبه هذه السمعة السيئة. وهي ادعاء كثير من الأكاديميين والمثقفين أن هذا الكتاب هو المنهاج لكل شيطان أراد القتل والتدمير، وهو شيء لا يمكن إنكاره تماما، كما لا يمكن إثباته تماما أيضا، فالأمر معتمد بالكلية على الزاوية التي ننظر منها إلى الكتاب. معرفة ظروف المؤلف الذاتية والظروف المحيطة به نفسيا وسياسيا واجتماعيا واقتصاديا، تكشف لنا أسباب تأليفه للكتاب والمرامي والدوافع الحقيقية له، وهذا ينطبق على كل ما ألفته البشرية تقريبا.
ثم إن قراءة الكتاب اليوم، أضحت ضرورة بالغة في فهم الدولة كنظام قائم بذاته، وفهم سياسات المستعمِر والمستعمَر على السواء. كما يفهم القارئ الأسباب والنتائج لكثير مما يعايشه اليوم، والقضية الفلسطينية والاحتلال الأمريكي للعراق خير مثال وشاهد على ذلك. ففي الفصل الخامس من كتاب الأمير «كيف تحكم البلاد التي كانت قبل الفتح مستقلة» يذكر مكيافيللي ثلاث طرائق، أولاها «أن يخرب الفاتح البلاد المفتوحة ثم يؤسس سلطنته على أنقاض السلطنة الغابرة» ثم يشرع في شرح تلك الطرائق حتى يصل إلى قوله بأن «الأساس المتين في حكم البلاد الحرة بعد فتحها هو تخريبها وتدميرها، فإن لم يهلكها الفاتح أهلكته، لأن مثل تلك البلاد إذا سالمت الفاتح أمدا تفتأ تذكر الحرية فتشعل الذكرى في قلوب أهليها نيران الغيظ والفتنة ولا تهدأ تلك النيران ما دام تاريخ الآباء والأجداد لا يزال محفوظا في قلوب الأولاد والأحفاد لأنه لا يمحو اسم الحرية شيء، فلا مَنْحُ المِنَحِ ولا كَرُّ الدهور يمحوان اسمها من قلوبٍ نشأت عليها وتعودتها».
وتمثل القضية الفلسطينية واحتلالها من قبل الصهاينة والاحتلال الأمريكي للعراق، الجانب المظلم من المعرفة؛ حيث اعتمدت هذه الأنظمة على المعرفة التدميرية إنْ من كتاب الأمير أو غيرها من الكتب المشابهة له. وما يؤكد ذلك، بعض المستشارين الذين يملكون المعرفة القوية ويستخدمونها في سبيل خدمة الشر الحاكم للسياسي الأبرز في فترة بعينها، كهنري كيسنجر وبيرجنسكي والصحفي الأمريكي توماس فريدمان آخر البارزين من هذه العينة السيئة. ويلحظ القارئ لدى مقارنته بما قاله مكيافيللي هنا وما فعله الأمريكيون والصهاينة من قبلهم، من طمس لمعالم التاريخ والذاكرة الشعبية، وما فعله الإنجليز في ويلز، والفرنسيون في الجزائر.. والأمثلة كثيرة عصية على الحصر.
أما ما قلته عن أن في كتاب الأمير -ومثيلاته من الكتب- من الخير لمن يريد أن ينظر من زاوية مغايرة، فأضع اقتباسا منه حيث يقول: «نرى أن الفرص هي التي سهلت الطريق لهؤلاء الرجال، وأن صفاتهم العظيمة مكّنتهم من الانتفاع بتلك الفرص ليمجّدوا أوطانهم وليزيدوها عزا وقوة». ويقول قبلها منبها «ولولا قواهم وكفايتهم لولّت تلك الفرص أدراج الرياح». ويقول في موضع آخر «لأن الرجل إن لم يكن عبقريا لا يستطيع أن يأمر إذا كان قد قضى شطرا من حياته خاملا». وفي حديثه عن «أجاتوكل» الصقلي «الذي صار ملك سرقسطة» وقد كان ابن نجار، ذكر مكيافيللي مساوئه ولكن امتدحه أيضا بقوله: «شرّه وخبثه كانا مصحوبين على الدوام بقوة العقل ونشاط البدن».
لا يسع المقام لتعداد الأمثلة الحسنة من الكتاب، ولكنني أوردت طرفا منها وكما يقول الحكماء: يعلمُكَ بجنى الشجرة الواحدةُ من ثمرها. والخلاصة أن المعرفة كالماء، يكون عذبا زلالا، ويكون موتا زؤاما. ولنا اليد الطولى والإرادة الحرة في الكيفية التي نستعملها بها، وكما يقول ابن الوردي في لاميته:
أنا مثـلُ الماءِ سهلٌ سائغٌ ومتـى أُسخِـنَ آذى وقَتَـلْ
أكتب هذه الكلمات، وكتاب الأمير لنيكولو مكيافيللي يستفزني للكتابة عنه. فقد رافقت هذا الكتاب ورافقني مرارا، وذلك لأن هذا الكتاب الذي ترجمه محمد لطفي جمعة مسجل صوتيا، وأستمع إليه أحيانا في الطرق الطويلة وأنا أقود السيارة. نيكولو مكيافيللي هو مفكر وفيلسوف سياسي إيطالي، عاش في العصر الذهبي لإيطاليا في القرنين الخامس عشر والسادس عشر الميلاديين. أبتدئ كلامي هذا باقتباس من كتاب فيلسوف عصر التنوير الفرنسي مونتسكيو «روح القوانين» أو «روح الشرائع» في ترجمة أخرى، حيث يقول: «أرجو من قرائي أن يتفضلوا عليّ بجميل -قد لا يمنحوني إياه- ، وهو ألّا يحكموا نتيجة قراءاتهم بضع ساعات في كتابي، على عمل استغرق مني عشرين عاما، وأن يحكموا على الكتاب في مجموعه، إما قبولا أو رفضا، لا على فقرات معينة منه، وإذا قُدِّرَ لهم أن يفعلوا ذلك بدراسة ما رسمه المؤلف من مخطط، فإن خير ما يفعلونه هو أن يتعمّقوا في دراسة مخطط الكتاب نفسه».
أما عن القراءة للكتب سيئة الصيت، فإنني أعمل بنصيحة العقاد الذي يرى أن القراءة نافعة للكتاب الحسن ونقيضه، وهي نافعة للنافع والضار كذلك؛ فالقارئ قبل أن يقرأ أي شيء هو ناقد مطّلع عاقل، وليس الذي يسلم عقله لأي مؤلف كان ممن نستطيع أن نعتبره من العقلاء، فالقراءة التي تكون بيد العقل ترفقها الرغبة المتَّقِدة في المعرفة، هي القراءة الحقّة التي تعود على المرء بالفائدة، ويغدو الكتاب السيئ نافعا حين نستعمله في تحقيق الخير بتطويعه وفق المبادئ الخيِّرة والنافعة، فلا يعقل أن نواجه المدفع الرشاش بسيف ورمح، إنما نوجه تلك الآلة القاتلة في سبيل حفظ الأمن وحماية المستضعفين، فتكون بذلك آلة حفظ للحياة بعدما كانت وسيلة لوأد الحياة وتقويضها. هكذا تكون الاستفادة من الكتب سيئة الصيت جائزة أخلاقيا ومعرفيا على السواء. بل إن قراءتها واجبة لمعرفة مراميها وتفكيكها وصقلها بعد ذلك لتكون نافعة وفي خدمة الخير الإنساني.
ذكرنا بأن كتاب الأمير من الكتب التي أصيبت ببلاء كثير من مثيلاتها، فتأطير فكرة أو شخص أو كتاب؛ عِلّة لم يسلم منها كثير من العظماء ولم تسلم منها كثير من الكتب والنظريات. ويستدل القارئ المطلع بكتاب «أصل الأنواع» لعالم الأحياء البريطاني تشارلز داروين، الذي تم تسخيف نظريته على مدى عقود من الزمن -ولا يزال الأمر على حاله- دون أن يبذل المستخفون بنظريته أدنى جهد لقراءة كتابه الذي تُرجِم إلى كل اللغات تقريبا!. فمقولة أن أصل الإنسان «قرد»، مقولة لم يذكرها داروين لا من قريب ولا من بعيد!، إنما هي مقولة ألصقها مناوئوه به وبنظريته لتسخيفها وزعزعة ثقة الناس بها وإبعادهم عن الاطلاع عليها. حسنا، لنعد إلى كتاب الأمير، فهذا الكتاب فيه من الفوائد ما لا يحصى، بل إن فيه من الحِكَم المنثورة في سياسة الدولة وسياسة المرء لنفسه وماله ما لا يُحصى، ولكن تأطير هذا الكتاب في بوتقة واحدة وضيقة هو ما أكسبه هذه السمعة السيئة. وهي ادعاء كثير من الأكاديميين والمثقفين أن هذا الكتاب هو المنهاج لكل شيطان أراد القتل والتدمير، وهو شيء لا يمكن إنكاره تماما، كما لا يمكن إثباته تماما أيضا، فالأمر معتمد بالكلية على الزاوية التي ننظر منها إلى الكتاب. معرفة ظروف المؤلف الذاتية والظروف المحيطة به نفسيا وسياسيا واجتماعيا واقتصاديا، تكشف لنا أسباب تأليفه للكتاب والمرامي والدوافع الحقيقية له، وهذا ينطبق على كل ما ألفته البشرية تقريبا.
ثم إن قراءة الكتاب اليوم، أضحت ضرورة بالغة في فهم الدولة كنظام قائم بذاته، وفهم سياسات المستعمِر والمستعمَر على السواء. كما يفهم القارئ الأسباب والنتائج لكثير مما يعايشه اليوم، والقضية الفلسطينية والاحتلال الأمريكي للعراق خير مثال وشاهد على ذلك. ففي الفصل الخامس من كتاب الأمير «كيف تحكم البلاد التي كانت قبل الفتح مستقلة» يذكر مكيافيللي ثلاث طرائق، أولاها «أن يخرب الفاتح البلاد المفتوحة ثم يؤسس سلطنته على أنقاض السلطنة الغابرة» ثم يشرع في شرح تلك الطرائق حتى يصل إلى قوله بأن «الأساس المتين في حكم البلاد الحرة بعد فتحها هو تخريبها وتدميرها، فإن لم يهلكها الفاتح أهلكته، لأن مثل تلك البلاد إذا سالمت الفاتح أمدا تفتأ تذكر الحرية فتشعل الذكرى في قلوب أهليها نيران الغيظ والفتنة ولا تهدأ تلك النيران ما دام تاريخ الآباء والأجداد لا يزال محفوظا في قلوب الأولاد والأحفاد لأنه لا يمحو اسم الحرية شيء، فلا مَنْحُ المِنَحِ ولا كَرُّ الدهور يمحوان اسمها من قلوبٍ نشأت عليها وتعودتها».
وتمثل القضية الفلسطينية واحتلالها من قبل الصهاينة والاحتلال الأمريكي للعراق، الجانب المظلم من المعرفة؛ حيث اعتمدت هذه الأنظمة على المعرفة التدميرية إنْ من كتاب الأمير أو غيرها من الكتب المشابهة له. وما يؤكد ذلك، بعض المستشارين الذين يملكون المعرفة القوية ويستخدمونها في سبيل خدمة الشر الحاكم للسياسي الأبرز في فترة بعينها، كهنري كيسنجر وبيرجنسكي والصحفي الأمريكي توماس فريدمان آخر البارزين من هذه العينة السيئة. ويلحظ القارئ لدى مقارنته بما قاله مكيافيللي هنا وما فعله الأمريكيون والصهاينة من قبلهم، من طمس لمعالم التاريخ والذاكرة الشعبية، وما فعله الإنجليز في ويلز، والفرنسيون في الجزائر.. والأمثلة كثيرة عصية على الحصر.
أما ما قلته عن أن في كتاب الأمير -ومثيلاته من الكتب- من الخير لمن يريد أن ينظر من زاوية مغايرة، فأضع اقتباسا منه حيث يقول: «نرى أن الفرص هي التي سهلت الطريق لهؤلاء الرجال، وأن صفاتهم العظيمة مكّنتهم من الانتفاع بتلك الفرص ليمجّدوا أوطانهم وليزيدوها عزا وقوة». ويقول قبلها منبها «ولولا قواهم وكفايتهم لولّت تلك الفرص أدراج الرياح». ويقول في موضع آخر «لأن الرجل إن لم يكن عبقريا لا يستطيع أن يأمر إذا كان قد قضى شطرا من حياته خاملا». وفي حديثه عن «أجاتوكل» الصقلي «الذي صار ملك سرقسطة» وقد كان ابن نجار، ذكر مكيافيللي مساوئه ولكن امتدحه أيضا بقوله: «شرّه وخبثه كانا مصحوبين على الدوام بقوة العقل ونشاط البدن».
لا يسع المقام لتعداد الأمثلة الحسنة من الكتاب، ولكنني أوردت طرفا منها وكما يقول الحكماء: يعلمُكَ بجنى الشجرة الواحدةُ من ثمرها. والخلاصة أن المعرفة كالماء، يكون عذبا زلالا، ويكون موتا زؤاما. ولنا اليد الطولى والإرادة الحرة في الكيفية التي نستعملها بها، وكما يقول ابن الوردي في لاميته:
أنا مثـلُ الماءِ سهلٌ سائغٌ ومتـى أُسخِـنَ آذى وقَتَـلْ