لعل من المناسب هنا اللجوء إلى أندريه تاركوفسكي Andrea Tarkovsky الذي تعاطى مع الأدب والسينما معا بحساسية شعرية وفلسفية مشهود بعلوها، وذلك في معرض حديثه عن فيلمه الروائي الطويل الأول «طفولة إيفان» (أو «اسمي إيفان» كما في الترجمة الواردة في بعض النسخ غير الروسية/ السوفييتية عهد ذاك) (1962) والذي اقتبسه من قصة قصيرة لمواطنه فلاديمير بوموغولوفVladimir Bomogolov. يقول تاركوفسكي في هذا الصدد: «ليس كل النثر قابلا للتحويل إلى الشاشة؛ فبعض الأعمال تنطوي على كمال، وهي موقوفة على صورة أدبية دقيقة وأصيلة، إذ إن الشخصيات مرسومة في أعماق لا تسبر أغوارها، والتركيب يتمتع بطاقة سحر استثنائية... وفقط فإن من لا يبالي فعليا بالنثر البديع وبالسينما معا يمكن أن يتصور الرغبة الملحة لأفلمتها. [وفي الوجه الآخر من العملة] هناك أعمال نثرية تقف وراءها الأفكار، ووضوح ورسوخ البنية... هكذا كتابات لا تبدو معنية بالتطوير الجمالي للفكرة التي تتضمنها. إنني أعتقد أن [«إيفان»] بوموغولوف تنتمي إلى هذه الفئة» (22).
من أجل إضاءة محاججة تاركوفسكي وإيضاحها فإنني أعتقد أن من المناسب أن أعرج على الاقتباس السينمائي لرواية نيكوس كازانتزاكيس Nikos Kazantzikes الأشهر في النثر اليوناني الحديث، «زوربا»، والذي أجراه مواطنه ميخائيل كوكايانيس Michael Cacoyannis (1964)؛ ففي الرواية نجد «الشخصيات [الـ]-مرسومة في أعماق لا تسبر أغوارها» (كما في تعبير تاركوفسكي) تتجاوز محدودياتها المادية والتجسيدية لتصل إلى هضاب روحية وفلسفية أبعد مدى وأكثر رحابة. غير أننا لا نرى، في الاقتباس السينمائي للرواية، البحر، على سبيل المثال، مجسدا إلا باعتباره كمية هائلة من المياه التي تستلقي بركود يائس، وغير ناطق بالتعبير، أمام كاميرا هي بدورها عاجزة ومرتبكة. وبذلك فإن الفيلم غريب عن عالم الرواية غير الظاهرة للعيان، والحقيقة إنه غير «مخلص» في التعامل معها.
وبينما يأخذ تاركوفسكي بعين الاعتبار النوعية التعبيرية البنيوية للعمل الأدبي المراد اقتباسه سينمائيا، فإن مخرجين سينمائيين آخرين بنفس درجة الأهمية يتخذون مواقف أكثر تشددا، فها هو فيردريكو فليني Ferdrico Fellini يقول بصرامة متطرفة: «إنني أجد هذه التحويلات من شكل فني إلى آخر بشعة وسخيفة، وبعيدة عن الموضوع... إني أؤمن أن السينما ليست بحاجة إلى الأدب، فهي تحتاج فقط إلى كتاب سيناريو... إن التأويلات الأدبية للأحداث لا علاقة لها بالتأويلات السينمائية لتلك الأحداث ذاتها» (23). والحقيقة أنه يمكن لنا فهم الحذر المطلوب والحظر الكامل - أي إشارة تاركوفسكي إلى النصوص الـ«موقوفة على صورة أدبية دقيقة وأصيلة» وموقف فليني المتزمت - إذا ما نحن تأملنا في حال الاقتباس السينمائي الذي أخرجه إيفو دفوراك Ivo Dvorak لعمل فرانز كافكا Franz Kafka «المسخ». (1975) تفتتح تلك الرواية القصيرة الشهيرة بتلك الجملة الكابوسية الخالدة في تاريخ الأدب الحديث: «إذ أفاق غريغوري سامسا ذات صباح من أحلام مزعجة وجد نفسه وقد تحول على سريره إلى حشرة عملاقة» (24). وفي الاقتباس السينمائي جسد دفوراك الحشرة بصريا في هيئة صرصور ميكانيكي ضخم. لكن ذلك التجسيد البصري كان هو بالتحديد والضبط ما اعترض عليه كافكا نفسه في حياته؛ حيث إنه أثناء العمل على نشر «المسخ» ضمن مجموعة من الأعمال القصصية القليلة التي رأت النور أثناء حياته، تعاون كافكا مع المصمم والرسام أتومار ستاركي Ottomar Starke، وقد أراد هذا وضع رسمة لغلاف الكتاب. لكن كافكا كان ضد الفكرة بصورة قاطعة، فاحتج: «ليس ذلك! من فضلك، ليس ذلك!... لا ينبغي رسم الحشرة نفسها، بل إنه لا ينبغي إبانتها حتى من مسافة». (25) تلك «المسافة» التي يتكلم عنها كافكا هي بالضبط المسافة الحرجة: إنها الـ«أعماق [التي] لا تسبر أغوارها» التي حذر تاركوفسكي السينما من محاولة مد الجسور نحوها. وهكذا فإن «صرْصرة» (من «الصرصور») «حشرة» كافكا ليست معالجة تفتقد إلى الخيال الخلاق فحسب، ولكنها أيضا ترقى إلى درجة من اللامبالاة برغبة عبر عنها الكاتب بصورة صريحة.
لكن بينما تبرر حالة دفوراك المؤسفة تصلب فليني، فإن الموافقة غير المشروطة على وجهة نظره ستقود لا محالة إلى وضع قمعي يتوقف فيه الحوار بين الأدب والسينما في الإمكانات الزاخرة التي يمكن أن يقدمها أحدهما لإثراء وتعزيز الآخر. وعلاوة على ذلك فإن الفرق بين «التأويل السينمائي» موضوعا في مقابل «التأويل الأدبي» لحدث ما، على النحو الذي أسعى لاكتشافه وعرضه في «الأموات»، لهو علامة إبداعية أبعد ما تكون عن «السخف» الذي يقترحه علينا فليني؛ فالبنية الأدبية لنص جويس متصورة بطريقة لن يتردد تاركوفسكي في وصفها بأنها «مناسبة» للاقتباس السينمائي. والحقيقة أنه حتى في وقت مبكر نسبيا، وهو العام 1968، حاجج بول دين Paul Deane في مقالة تنبؤية بأن «كل التقنيات السينمائية موجودة في «الأموات»» (26). وفي هذا يلاحظ دين أن جويس، في نصه هذا، يعمل ضمن معطيات المشاهد [scenes] والمشاهد المتصلة [sequences] بدلا من الفصول والأجزاء» (27). وهو يجْمل الأمر بصورة دقيقة تتنبأ بفيلم هيوستن قائلا عن قصة جويس إنها «من خلال بنائها بالمشاهد المتصلة، والمشاهد، واللقطات [shots]، وأطوالها البؤرية [focal lengths] المختلفة، واسترجاعات الماضي [flashbacks]، واستشرافات المستقبل [flashforwards]، والقطع البيني [intercutting]، والتركيز الناعم [soft focus]، والمزج [dissolve]، و[استخدام] عدة زوايا للرؤية، والتقطيع [cutting]، والتغييرات السريعة في حجم اللقطة [zooms]، فإن جويس، سواء كان واعيا أو لا واعيا، قد استخدم الأدوات السينمائية الرئيسة» (28).
---------------------
تتواصل أرقام الحواشي من الحلقات السابقة:
(22): Andrea Tarkovsky, Sculpting in Time: Reflections on the Cinema, trans., Kitty Hunter-Blair (London: The Bodley Head, 1986), 15-16.
(23): Federico Fellini, Fellini on Fellini, ed., Carla Jean Miller (Frenso: The Press at California State University, 1988), 28.
(24): Franz Kafka, “The Metamorphosis,” The Penal Colony: Stories and Pieces, trans., Willa and Edwin Muir (New York: Schocken Books, 1976), 67.
(25): Ronald Hayman, Kafka: A Biography (New York: Oxford University Press, 1982), 203.
(26): Paul Deane, “Motion Picture Techniques in James Joyce’s ‘The Dead,’” James Joyce Quarterly 3 (1968-69): 231.
:(27) نفس المصدر السابق، 231--2.
(28): نفس المصدر السابق، 236.
عبدالله حبيب كاتب وشاعر عماني
من أجل إضاءة محاججة تاركوفسكي وإيضاحها فإنني أعتقد أن من المناسب أن أعرج على الاقتباس السينمائي لرواية نيكوس كازانتزاكيس Nikos Kazantzikes الأشهر في النثر اليوناني الحديث، «زوربا»، والذي أجراه مواطنه ميخائيل كوكايانيس Michael Cacoyannis (1964)؛ ففي الرواية نجد «الشخصيات [الـ]-مرسومة في أعماق لا تسبر أغوارها» (كما في تعبير تاركوفسكي) تتجاوز محدودياتها المادية والتجسيدية لتصل إلى هضاب روحية وفلسفية أبعد مدى وأكثر رحابة. غير أننا لا نرى، في الاقتباس السينمائي للرواية، البحر، على سبيل المثال، مجسدا إلا باعتباره كمية هائلة من المياه التي تستلقي بركود يائس، وغير ناطق بالتعبير، أمام كاميرا هي بدورها عاجزة ومرتبكة. وبذلك فإن الفيلم غريب عن عالم الرواية غير الظاهرة للعيان، والحقيقة إنه غير «مخلص» في التعامل معها.
وبينما يأخذ تاركوفسكي بعين الاعتبار النوعية التعبيرية البنيوية للعمل الأدبي المراد اقتباسه سينمائيا، فإن مخرجين سينمائيين آخرين بنفس درجة الأهمية يتخذون مواقف أكثر تشددا، فها هو فيردريكو فليني Ferdrico Fellini يقول بصرامة متطرفة: «إنني أجد هذه التحويلات من شكل فني إلى آخر بشعة وسخيفة، وبعيدة عن الموضوع... إني أؤمن أن السينما ليست بحاجة إلى الأدب، فهي تحتاج فقط إلى كتاب سيناريو... إن التأويلات الأدبية للأحداث لا علاقة لها بالتأويلات السينمائية لتلك الأحداث ذاتها» (23). والحقيقة أنه يمكن لنا فهم الحذر المطلوب والحظر الكامل - أي إشارة تاركوفسكي إلى النصوص الـ«موقوفة على صورة أدبية دقيقة وأصيلة» وموقف فليني المتزمت - إذا ما نحن تأملنا في حال الاقتباس السينمائي الذي أخرجه إيفو دفوراك Ivo Dvorak لعمل فرانز كافكا Franz Kafka «المسخ». (1975) تفتتح تلك الرواية القصيرة الشهيرة بتلك الجملة الكابوسية الخالدة في تاريخ الأدب الحديث: «إذ أفاق غريغوري سامسا ذات صباح من أحلام مزعجة وجد نفسه وقد تحول على سريره إلى حشرة عملاقة» (24). وفي الاقتباس السينمائي جسد دفوراك الحشرة بصريا في هيئة صرصور ميكانيكي ضخم. لكن ذلك التجسيد البصري كان هو بالتحديد والضبط ما اعترض عليه كافكا نفسه في حياته؛ حيث إنه أثناء العمل على نشر «المسخ» ضمن مجموعة من الأعمال القصصية القليلة التي رأت النور أثناء حياته، تعاون كافكا مع المصمم والرسام أتومار ستاركي Ottomar Starke، وقد أراد هذا وضع رسمة لغلاف الكتاب. لكن كافكا كان ضد الفكرة بصورة قاطعة، فاحتج: «ليس ذلك! من فضلك، ليس ذلك!... لا ينبغي رسم الحشرة نفسها، بل إنه لا ينبغي إبانتها حتى من مسافة». (25) تلك «المسافة» التي يتكلم عنها كافكا هي بالضبط المسافة الحرجة: إنها الـ«أعماق [التي] لا تسبر أغوارها» التي حذر تاركوفسكي السينما من محاولة مد الجسور نحوها. وهكذا فإن «صرْصرة» (من «الصرصور») «حشرة» كافكا ليست معالجة تفتقد إلى الخيال الخلاق فحسب، ولكنها أيضا ترقى إلى درجة من اللامبالاة برغبة عبر عنها الكاتب بصورة صريحة.
لكن بينما تبرر حالة دفوراك المؤسفة تصلب فليني، فإن الموافقة غير المشروطة على وجهة نظره ستقود لا محالة إلى وضع قمعي يتوقف فيه الحوار بين الأدب والسينما في الإمكانات الزاخرة التي يمكن أن يقدمها أحدهما لإثراء وتعزيز الآخر. وعلاوة على ذلك فإن الفرق بين «التأويل السينمائي» موضوعا في مقابل «التأويل الأدبي» لحدث ما، على النحو الذي أسعى لاكتشافه وعرضه في «الأموات»، لهو علامة إبداعية أبعد ما تكون عن «السخف» الذي يقترحه علينا فليني؛ فالبنية الأدبية لنص جويس متصورة بطريقة لن يتردد تاركوفسكي في وصفها بأنها «مناسبة» للاقتباس السينمائي. والحقيقة أنه حتى في وقت مبكر نسبيا، وهو العام 1968، حاجج بول دين Paul Deane في مقالة تنبؤية بأن «كل التقنيات السينمائية موجودة في «الأموات»» (26). وفي هذا يلاحظ دين أن جويس، في نصه هذا، يعمل ضمن معطيات المشاهد [scenes] والمشاهد المتصلة [sequences] بدلا من الفصول والأجزاء» (27). وهو يجْمل الأمر بصورة دقيقة تتنبأ بفيلم هيوستن قائلا عن قصة جويس إنها «من خلال بنائها بالمشاهد المتصلة، والمشاهد، واللقطات [shots]، وأطوالها البؤرية [focal lengths] المختلفة، واسترجاعات الماضي [flashbacks]، واستشرافات المستقبل [flashforwards]، والقطع البيني [intercutting]، والتركيز الناعم [soft focus]، والمزج [dissolve]، و[استخدام] عدة زوايا للرؤية، والتقطيع [cutting]، والتغييرات السريعة في حجم اللقطة [zooms]، فإن جويس، سواء كان واعيا أو لا واعيا، قد استخدم الأدوات السينمائية الرئيسة» (28).
---------------------
تتواصل أرقام الحواشي من الحلقات السابقة:
(22): Andrea Tarkovsky, Sculpting in Time: Reflections on the Cinema, trans., Kitty Hunter-Blair (London: The Bodley Head, 1986), 15-16.
(23): Federico Fellini, Fellini on Fellini, ed., Carla Jean Miller (Frenso: The Press at California State University, 1988), 28.
(24): Franz Kafka, “The Metamorphosis,” The Penal Colony: Stories and Pieces, trans., Willa and Edwin Muir (New York: Schocken Books, 1976), 67.
(25): Ronald Hayman, Kafka: A Biography (New York: Oxford University Press, 1982), 203.
(26): Paul Deane, “Motion Picture Techniques in James Joyce’s ‘The Dead,’” James Joyce Quarterly 3 (1968-69): 231.
:(27) نفس المصدر السابق، 231--2.
(28): نفس المصدر السابق، 236.
عبدالله حبيب كاتب وشاعر عماني