في عام ١٩٧٠، رأيت الأستاذ أنيس منصور لأول مرة في حياتي حينما كان يتجول في معرض القاهرة للكتاب، الذي كان يُقام على أرض المعارض بالجزيرة على نيل القاهرة «مكان دار الأوبرا حاليًا» وكنت في مقتبل الشباب، طالبا في المرحلة الجامعية، وكان بصحبته الأساتذة محمود أمين العالم وثروت أباظة وتوفيق الحكيم، وكانوا يتفقدون منافذ بيع الكتب، وقد تملكتني الشجاعة حينما اقتربت منهم، وتوجهت إليهم بسؤال محدد: ما الكتب التي تنصحونني بشرائها؟ وقدمت إليهم نفسي بعد أن سألني أنيس منصور: أنت طالب؟ أجبته: نعم، أنا طالب جامعي أدرس التاريخ في السنة الأولى الجامعية. فقال: ماذا تريد أن تقرأ؟ أجبته: أنا أدرس التاريخ إلا أنني أحب قراءة الرواية وتاريخ الفكر وشغوف بالمسرح الذي اكتفي منه بمشاهدة ما يُعرض فقط من أعمال على المسرح القومي ومسرح الجيب ومسرح الجمهورية من أعمال متنوعة.
لم يتدخل في الحوار باقي الأساتذة، إلا أنهم كانوا متابعين للحوار معي، وقد راح الأستاذ أنيس يجيب عن سؤالي: عليك أن تقرأ كل ما يقع في يدك من كتب، اقرأ في كل ما تحب، في الرواية والسير الذاتية والفلسفة والتاريخ، اقرأ كل ما يقع تحت يدك حتى ولو كان ما تقرأه مجرد قصاصة ورق من صحيفة ما، بما في ذلك أدب الأطفال. فضحك الأستاذ توفيق الحكيم بطريقته الساخرة وقد تدخل في الحوار قائلا: اقرأ ما تحب المهم أن تقرأ، فكل المعارف الإنسانية وحدة متكاملة، لا يمكن الفصل بينها، المهم يا ابني أن تقرأ فالقراءة متعة. لا تنتظر شيئا من القراءة إلا أن تشعر بالسعادة وبمحبة كل ما تقرأ.
تذكرت هذه الواقعة بعد أن قرأت مقالًا للصديق الدكتور سعيد توفيق، نشر في جريدة «عُمان» منذ أسابيع، تحت عنوان: «لماذا نكتب؟»، وهو سؤال فلسفي يستحق أن يسبقه سؤال آخر: لماذا نقرأ؟ وبعد مرور أكثر من خمسين عامًا على لقائي بهؤلاء الأساتذة الكبار، وجدت نفسي أتذكر هذا الحوار وتلك النصيحة التي قالها لي أنيس منصور وتوفيق الحكيم، ورغم أنني لم أتخذها برنامجا لقراءاتي، إلا أنني وجدت نفسي وطوال فترة حياتي وبلا قصد ماضيا على هذا الطريق، شغوفا بالقراءة في تاريخ الفكر والرواية والسير الذاتية لمفكرين وساسة وفنانين وعلماء، بقدر ربما يفوق قراءاتي في التاريخ، حينما تبين لي قدر استفادتي من لقاءاتي وحواراتي وحضور المؤتمرات والمنتديات الفكرية والحوارات المختلفة في كافة صنوف المعرفة، وأن جميعها لا تقل أهمية عما قرأت من كتب في حياتي.
إذا كانت الثقافة في أدق تعريف لها -كما أعتقد- هي نمط حياة بكل تفاصيلها بما في ذلك إعمال القانون واحترام الآخر أيان كان رأيه ومعتقده واحترام المرأة والعلاقة الإنسانية بين الناس وجودة العمل.. إلخ، لكن الثقافة في أعظم تعريف لها هي أن يكون الإنسان إنسانا، وهو أمر لا يتحقق لسبب واحد، وإنما تتشكل الثقافة من تفاعل الإنسان مع الحياة، وشغفه بالاستماع والمشاهدة والاستفادة بكل من يلقاهم الإنسان في حياته، حتى ولو كانت مجرد لقاءات عابرة، وفي هذا السياق أسترجع مسيرة تجربتي مع كل من عرفتهم أو استمعت إليهم في كل مناحي الحياة، ولعل مقولة توفيق الحكيم التي سبق وأن أشرت إليها، هي كلمة جامعة مانعة شاملة «الثقافة وحدة متكاملة».
تتكون ثقافة الإنسان بطريقة عمليّة أكثر من خلال كل من التقي بهم الإنسان في حياته، حتى لو كانوا من خلفيات فكرية أيديولوجية مختلفة، من تيار اليسار وحتى أصحاب الأيديولوجيات الدينية والمذهبية، مسلمون ومسيحيون وحتى من غير المنتمين إلى أي دين، التقيت واستمعت وتحاورت مع كثير من هؤلاء، لكن في النهاية أن يظل الإنسان صاحب قراره في اختياراته، شريطة أن يظل إنسانًا يفيض محبة وتسامحًا وتقبلا لكل الأفكار حتى لو لم يكن مؤمنًا بها.
إذا كانت الثقافة هي محصلة ما يكتسبه الإنسان في حياته من مختلف صنوف المعارف الفكرية والفنية، لكن تظل الفنون هي روح أي ثقافة، وقلبها النابض في الموسيقى والغناء والفن التشكيلي ومختلف الفنون الأخرى، فجميعها تعظَّم من قيم الجمال والإنسانية، وتنعكس بشكل مباشر على كل أنماط الحياة، وكل هذا لا يتحقق إلا بالمشاهدة والقراءة والاستماع إلى كل الآراء في كل صنوف الثقافة والفنون.
اللافت للنظر أنني في هذه المرحلة من حياتي أتذكر أشياء مضى عليها سنوات طوال، لكن جميعها قد أكسبتني كل ما أمتلكه في حياتي من معارف، وربما أتذكر لقاءات جمعتني بأدباء وشعراء وفنانين، من خلال حوارات وأفكار تسربت إلى وجداني، وربما أفادتني أكثر مما قرأت في حياتي، وأتذكر لقاء جمعني بالشاعر والفنان صلاح جاهين، حينما كان أحد أصدقائه من المخرجين الأمريكيين يعد فيلما تسجيليًا عن أم كلثوم عقب وفاتها (٣ فبراير ١٩٧٥)، وقد وجه لي سؤالا عن شعوري بعد رحيل هذه الفنانة الكبيرة، وكنت طالبا في الدراسات العليا، وأعترف أنني في هذه المرحلة من حياتي لم أكن مغرما بعد بأم كلثوم! فقد كنت شغوفًا أكثر بعبدالحليم حافظ وفيروز ونجاة الصغيرة وغيرهم، وقد صرحت برأيي هذا خلال التصوير، لكن ما لفت نظري هو السؤال ذاته الذي وجهه المخرج للأستاذ صلاح جاهين، لقد قمت أتابع بشغف ما يقوله الأستاذ حينما قال: لقد ولدت طفلًا صغيرًا وكانت أمي تحملني بين يديها في الصباح وهي تفتح شباك غرفتي، حيث توجد شجرة وارفة تحمل زهورًا ذات ألوان جميلة، ثم تحملني في المساء وهي تغلق النافذة ذاتها التي أسعد فيها بمشاهدة هذه الشجرة الجميلة قبل نومي، وبعد هذا العمر الطويل وقد صرت شيخًا كبيرا كيف لك أن تتخيل أن أفتح النافذة ذاتها وقد اجتثت الشجرة من جذورها؟
لقد انبهرت بهذه الإجابة، وتملكني شعور جارف بالرغبة في إعادة الاستماع إلى أم كلثوم، ومنذ هذا الوقت البعيد لم تنقطع صلتي بسماع أم كلثوم، ليس بصوتها الشجي فقط، وإنما بالكلمات الرائعة والموسيقى العبقرية، وجميعها تفاصيل يصعب أن تقرأها في كتاب، إنما تشاهدها وتستمع إليها وجميعها تفاصيل تشكل ثقافتي التي لا أدين لها بكل ما قرأت فقط من كتب أو من استمعت إليهم أو حاورتهم، بل الفضل في ذلك كله يرجع إلى كل ما شاهدته عبر أسفاري، وحواراتي وتجاربي في الحياة، ويبقى السؤال: هل يمكن أن نفصل القراءة عن الاستماع أو المشاهدة أو عبر كل ما يمر بالإنسان من تجارب في حياته؟
د. محمد صابر عرب أستاذ التاريخ بجامعة الأزهر ووزير الثقافة المصرية سابقا ورئيس مجلس إدارة الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية سابقا.
لم يتدخل في الحوار باقي الأساتذة، إلا أنهم كانوا متابعين للحوار معي، وقد راح الأستاذ أنيس يجيب عن سؤالي: عليك أن تقرأ كل ما يقع في يدك من كتب، اقرأ في كل ما تحب، في الرواية والسير الذاتية والفلسفة والتاريخ، اقرأ كل ما يقع تحت يدك حتى ولو كان ما تقرأه مجرد قصاصة ورق من صحيفة ما، بما في ذلك أدب الأطفال. فضحك الأستاذ توفيق الحكيم بطريقته الساخرة وقد تدخل في الحوار قائلا: اقرأ ما تحب المهم أن تقرأ، فكل المعارف الإنسانية وحدة متكاملة، لا يمكن الفصل بينها، المهم يا ابني أن تقرأ فالقراءة متعة. لا تنتظر شيئا من القراءة إلا أن تشعر بالسعادة وبمحبة كل ما تقرأ.
تذكرت هذه الواقعة بعد أن قرأت مقالًا للصديق الدكتور سعيد توفيق، نشر في جريدة «عُمان» منذ أسابيع، تحت عنوان: «لماذا نكتب؟»، وهو سؤال فلسفي يستحق أن يسبقه سؤال آخر: لماذا نقرأ؟ وبعد مرور أكثر من خمسين عامًا على لقائي بهؤلاء الأساتذة الكبار، وجدت نفسي أتذكر هذا الحوار وتلك النصيحة التي قالها لي أنيس منصور وتوفيق الحكيم، ورغم أنني لم أتخذها برنامجا لقراءاتي، إلا أنني وجدت نفسي وطوال فترة حياتي وبلا قصد ماضيا على هذا الطريق، شغوفا بالقراءة في تاريخ الفكر والرواية والسير الذاتية لمفكرين وساسة وفنانين وعلماء، بقدر ربما يفوق قراءاتي في التاريخ، حينما تبين لي قدر استفادتي من لقاءاتي وحواراتي وحضور المؤتمرات والمنتديات الفكرية والحوارات المختلفة في كافة صنوف المعرفة، وأن جميعها لا تقل أهمية عما قرأت من كتب في حياتي.
إذا كانت الثقافة في أدق تعريف لها -كما أعتقد- هي نمط حياة بكل تفاصيلها بما في ذلك إعمال القانون واحترام الآخر أيان كان رأيه ومعتقده واحترام المرأة والعلاقة الإنسانية بين الناس وجودة العمل.. إلخ، لكن الثقافة في أعظم تعريف لها هي أن يكون الإنسان إنسانا، وهو أمر لا يتحقق لسبب واحد، وإنما تتشكل الثقافة من تفاعل الإنسان مع الحياة، وشغفه بالاستماع والمشاهدة والاستفادة بكل من يلقاهم الإنسان في حياته، حتى ولو كانت مجرد لقاءات عابرة، وفي هذا السياق أسترجع مسيرة تجربتي مع كل من عرفتهم أو استمعت إليهم في كل مناحي الحياة، ولعل مقولة توفيق الحكيم التي سبق وأن أشرت إليها، هي كلمة جامعة مانعة شاملة «الثقافة وحدة متكاملة».
تتكون ثقافة الإنسان بطريقة عمليّة أكثر من خلال كل من التقي بهم الإنسان في حياته، حتى لو كانوا من خلفيات فكرية أيديولوجية مختلفة، من تيار اليسار وحتى أصحاب الأيديولوجيات الدينية والمذهبية، مسلمون ومسيحيون وحتى من غير المنتمين إلى أي دين، التقيت واستمعت وتحاورت مع كثير من هؤلاء، لكن في النهاية أن يظل الإنسان صاحب قراره في اختياراته، شريطة أن يظل إنسانًا يفيض محبة وتسامحًا وتقبلا لكل الأفكار حتى لو لم يكن مؤمنًا بها.
إذا كانت الثقافة هي محصلة ما يكتسبه الإنسان في حياته من مختلف صنوف المعارف الفكرية والفنية، لكن تظل الفنون هي روح أي ثقافة، وقلبها النابض في الموسيقى والغناء والفن التشكيلي ومختلف الفنون الأخرى، فجميعها تعظَّم من قيم الجمال والإنسانية، وتنعكس بشكل مباشر على كل أنماط الحياة، وكل هذا لا يتحقق إلا بالمشاهدة والقراءة والاستماع إلى كل الآراء في كل صنوف الثقافة والفنون.
اللافت للنظر أنني في هذه المرحلة من حياتي أتذكر أشياء مضى عليها سنوات طوال، لكن جميعها قد أكسبتني كل ما أمتلكه في حياتي من معارف، وربما أتذكر لقاءات جمعتني بأدباء وشعراء وفنانين، من خلال حوارات وأفكار تسربت إلى وجداني، وربما أفادتني أكثر مما قرأت في حياتي، وأتذكر لقاء جمعني بالشاعر والفنان صلاح جاهين، حينما كان أحد أصدقائه من المخرجين الأمريكيين يعد فيلما تسجيليًا عن أم كلثوم عقب وفاتها (٣ فبراير ١٩٧٥)، وقد وجه لي سؤالا عن شعوري بعد رحيل هذه الفنانة الكبيرة، وكنت طالبا في الدراسات العليا، وأعترف أنني في هذه المرحلة من حياتي لم أكن مغرما بعد بأم كلثوم! فقد كنت شغوفًا أكثر بعبدالحليم حافظ وفيروز ونجاة الصغيرة وغيرهم، وقد صرحت برأيي هذا خلال التصوير، لكن ما لفت نظري هو السؤال ذاته الذي وجهه المخرج للأستاذ صلاح جاهين، لقد قمت أتابع بشغف ما يقوله الأستاذ حينما قال: لقد ولدت طفلًا صغيرًا وكانت أمي تحملني بين يديها في الصباح وهي تفتح شباك غرفتي، حيث توجد شجرة وارفة تحمل زهورًا ذات ألوان جميلة، ثم تحملني في المساء وهي تغلق النافذة ذاتها التي أسعد فيها بمشاهدة هذه الشجرة الجميلة قبل نومي، وبعد هذا العمر الطويل وقد صرت شيخًا كبيرا كيف لك أن تتخيل أن أفتح النافذة ذاتها وقد اجتثت الشجرة من جذورها؟
لقد انبهرت بهذه الإجابة، وتملكني شعور جارف بالرغبة في إعادة الاستماع إلى أم كلثوم، ومنذ هذا الوقت البعيد لم تنقطع صلتي بسماع أم كلثوم، ليس بصوتها الشجي فقط، وإنما بالكلمات الرائعة والموسيقى العبقرية، وجميعها تفاصيل يصعب أن تقرأها في كتاب، إنما تشاهدها وتستمع إليها وجميعها تفاصيل تشكل ثقافتي التي لا أدين لها بكل ما قرأت فقط من كتب أو من استمعت إليهم أو حاورتهم، بل الفضل في ذلك كله يرجع إلى كل ما شاهدته عبر أسفاري، وحواراتي وتجاربي في الحياة، ويبقى السؤال: هل يمكن أن نفصل القراءة عن الاستماع أو المشاهدة أو عبر كل ما يمر بالإنسان من تجارب في حياته؟
د. محمد صابر عرب أستاذ التاريخ بجامعة الأزهر ووزير الثقافة المصرية سابقا ورئيس مجلس إدارة الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية سابقا.