منذ زمن طويل تملكتني رغبة جارفة لأن تطأ قدمي تلك المعجزة الصغيرة التي تركها لنا الأجداد القُدامى، قرية «السوجرة» المحفورة منذ خمسمائة عام في الجبال بدقة مُذهلة.

فهي تتبدى للزائر من بعيد كجزء من حكاية لم تُقرأ بعد، هناك كُنا حيث تصنع البيوت مادتها الأولى من الجبال الصلدة، فيتماهيان ويغدوان شيئا أبديا واحدا وخلابا.

مضينا فوق السلالم الحجرية تتدفق أسئلتنا كشلال لا يهدأ، عن البشر الذين سكنوا هناك منذ مئات السنين، شاقين حياتهم الوعرة فوق حميرهم، مُكتفين بما تجود به الطبيعة، وما تغدق به مهنتيّ الزراعة والرعي من ثمر ولحوم، فوفرة الماء ودرجات الحرارة المعتدلة مهدتا لحياة آمنة.

جيل عقب جيل تشبثوا بعزلتهم الآسرة، فشبّ أبناؤهم على محبة مماثلة. ولذا فأكثر ما أثار انتباهي، كان ذلك الشاب من مواليد التسعينيات: عبدالعزيز بن ناصر الشريقي، الذي ولد وعاش طفولته في «السوجرة»، وقد جرّب كبقية أقرانه الذهاب إلى مدرسة السلطان قابوس بنزوى، بواسطة المروحية والبقاء في السكن الداخلي، لقد تحدث إلينا بشغف عن الثروة التي تركها أجداده.

مضى يُعرفنا على النُزل والإحدى عشرة غرفة بتقسيماتها بالغة الجمال والرقة، لقد بقيت الأشياء على سابق عهدها، وعليك ألا تتعجب أن يكون أحد جدران البيت من جسد الجبل، يمكنك أن تتحسس نتوءاته جوار سريرك بدهشة لا تقاوم! لقد شاهدنا غرفة الجدّة ببابها الصغير الذي يُشبه الأبواب في حكايات الأقزام الخرافية!

تستمدُ القرية اسمها من اسم شجرة ظلية برية كانت تنمو في الأودية والعيون، اسمها «السوجرة»، يُحكى بأنّ الأودية جرفتها إلى وادي بني خروص، فاستقرت هناك، بينما استقر اسمها هنا!

قبل عام ٢٠٠٦ لم يكن ثمّة شارع ولا كهرباء، فانتقلت آخر عائلة من القرية عام ٢٠١٤، بسبب صعوبة وصول الخدمات، وكان يمكن لهذا الرحيل أن يكتب نهاية القصّة، لكن الإخوة الخمسة وابن عمهم والأحفاد، كانوا على كلمة واحدة: «ضرورة إعادة الحياة إلى المكان بأي صورة ممكنة!».

وكعادة أغلب المشاريع من هذا النوع، اعتمدوا على أنفسهم في صيانة وترميم المكان، فقد بدأ العمل منذ ٢٠١٦، وقد حصل العام الماضي على أعلى تقييم من «بوكينج» على مستوى الخليج.

لكن وعلى الجانب الآخر من الجبل الأخضر، كانت قرية وادي بني حبيب القديمة تئنُ في مكانها الموحش والمهجور، تملكتني الحسرة على تلك القرية النازفة عاما بعد عام دون أن يرف لها جفن المسؤولين بالرأفة على انهيارها البطيء، لقد تُركت مُعرضة لكل عوامل التهاوي والاندثار، ونحن نتغنى بزمن تنويع الاقتصاد!

والسؤال: لماذا ننتظر صوت الدوي! لماذا لا تُنزع ملكيات الأماكن التي تمثلُ إرثا وطنيا لحمايتها؟ لماذا يُترك الأمر بأيدي الأفراد ونزاعاتهم أو إمكانياتهم؟!

فمشاريع من هذا النوع تتطلب عملا مضنيا ومالا وفيرا، وبالتالي مردودا ثقافيا مثمرا لا سيما في مكان ضاج بالحيوية مثل الجبل الأخضر، المُهيأ بقدرة إلهية ليكون محطة استراتيجية في خريطة التحول السياحي، فكل شيء فيه مغرٍ بالصعود، درجة الحرارة شتاء تصل إلى سالب خمسة وفي الصيف قد لا تتجاوز ٢٨ درجة.

الأفلاج المنحدرة من العيون والهندسة المعمارية البارعة، المدرجات الزراعية التي تكتب قصّة تكيف الإنسان مع شقاء العيش لتنمو بساتين الورد والرمان والخوخ والمشمش وكروم العنب والجوز.

يمكن للزائر أن يحظى بتجربة عيش حياة كاملة لبشر غادروا الدنيا تاركين لغز مرورهم الغامض لمخيلتنا الخصبة، تجربة المشي في الوديان والكهوف وتأمل النجوم ليلا، والأكثر غنى أن يتعرف الزائر على روحه وصوته الداخلي هربا من ضجيج المدن وفوضى التكنولوجيا واستعبادها لنا.

ورغم أننا في شهر مايو الملتهب، إلا أنّ الظلال الإلهية أخذت تحفنا من كل صوب، وقد ذكرتني ببيت شعر لأحمد شوقي دأبتُ على تحفيظه لابنتي: «كم في الخمائل وهي بعض بناتها/ من ذات خلخال وذات سوار».