ليس لرياح السياسة اتجاهات واحدة تسير فيها، ولا لإبحارها مرسى واحدة ترسو عليها؛ إذ المصالح هي محمولها الذي تحمله فتمتطي له ما يناسب من المطايا، ولكنها أيضا (المصالح أعني) وقود السياسة الذي يحرك آلتها فلا يكون لها شبهة وجود من دونه. ولأن السياسة بهذه المثابة، فإن حركتها تتأرجح بين عاقـلية الفعل وغرائـزيـته، بين كيسه ورعونته؛ وهما - على افتراقهما والتضاد- لا يجتمعان إلا في السياسة أو قـل وحدها السياسة تسخرهـما فترجح كـفة هذا على ذاك عند الاقتضاء وتبعا للحاجات، وإن كان المعظم من مياهها يجري في المجرى غير العاقل، فتتولد من ذلك مشكلات تزداد تعقيدا واستفحالا كلما قوربت بالأمزجة والأهواء فيحتاج - حينها - إلى فك خيوطها وحل عـقدها بالعقل والعقل وحده.
هكذا كانت السياسة، تحتاج دائما إلى حالة عاقلة - أو إلى لحظة العقل - تردها عن شططها وعن تيهها الذي فيه تهمع. قد تأتي الحالة العاقلة من الفاعل السياسي نفسه في لحظة من الرشد يـزن فيها الأشياء بميزان الحكمة، فيحرر فعـله من الشوائب، لكنه يحتاج - في هذه الحال - إلى خصم عاقل أو لحظة عاقلة لدى الخصم... وقلما كان ذلك ممكنا؛ وقد تأتي من خارج صديق حريص على الأخوة والجوار والمصالح المشتركة، فترى الذي في الخارج يأتيها من طريق إسداء النصح لمن يبغي نصحه، أو من طريق انتداب النفس لأداء دور الوساطة البناءة التي تتغيا رأب الصدع وإصلاح ذات البين، فلا يـكـل ولا يمـل وإن لاقى من الصعاب والعثرات الكثير إلى أن يظفر بما سخـر له الجهد من أهداف وبذل فيه عزيز المساعي.
والحق أنه لولا هذه المسكة من العقل لكانت السياسة جحيما لا يطاق ولـما هي اختلفت عن الحرب في شيء؛ إذ كثيرا ما لا تـفـرد نزاعات المصالح مكانا للعقل في السياسة حين تنقاد الأخيرة بالأهواء والغرائز وتركب لنفسها من الوسائل والأساليب ما ليس يحسن في ميزان العقل والحكمة وأحيانا ما يتعارض حتى ومنطق المصالح الذي يقضي بعدم إغلاق الأبواب والمنافذ. ولعله من الحظ الحسن للعقل وللسياسة معا أنه يأتي على السياسة حين من الدهر تنكفئ فيه عن تيهها وتـفيء إلى العقل. والغالب على أوبتها تلك من مجاهلها أن تقع حين يدرك أصحابها أن أقصر سبيل إلى حفظ المصالح وتأمين النفس من الأخطار هو الإصغاء إلى نداء العقل وما يمليه من ضرورات الحوار وتسوية المنازعات بالوسائل السلمية، وتعزيز ذلك بالتعاون المشترك.
حين نعاين، اليوم، كيف تنـحل عـقد كثيرة وأزمات شديدة في السياسات الإقليمية والعربية، وفي العلاقات العربية- العربية والعلاقات العربية بدول الجوار الإقليمي (خاصة دول الدائرة الحضارية الإسلامية) - بعد أن كانت قد استفحلت في الماضي القريب إلى الحد الذي خيل إلى الأكثر منا أن طريقها إلى التسوية مقفل تماما - ندرك أن ذلك التذليل ما أمكن أمره إلا بتحكيم العقل وبتدخـل محمود من العقلاء. ذلك ما ينطبق، مثلا، على الانفـراجة الإقليمية الكبرى التي أطلقها الاتفاق السعودي- الإيراني، برعاية الصين، على تسوية الأزمات بين البلدين الكبيرين في الدائرة العربية- الإسلامية، والتي تولدت منها - بالتـبعة - نتائج سياسية في غاية الأهمية على الكثير من المشكلات والساحات العربية: على صعيد الأزمة اليمنية، وعلى صعيد العلاقات السعودية- السورية واحتمال عودة سورية إلى اجتماعات جامعة الدول العربية و، مستقبلا، على صعيد الأزمة الداخلية اللبنانية.
لن نخطئ التقدير حين ننـوه، مثل غيرنا، بما كان للصين من دور سياسي حاسم في هندسة الاتفاق وإخراجه، ثم إحاطته بالرعاية: ليس فقط من باب تقديم الضمانات بعدم انتهاكه، بل من باب حمايته من خطر مـن قد يتربصون به في العالم لما فيه من كبير إضرار بمصالحهم التقليدية؛ هذه التي لا يستقيم لها أمـر - عندهم - إلا من طريق الإيقاع بين العرب، أو بين العرب وجوارهم الإسلامي! ولكن الاتفاق هذا، وما نجم منه من عظيم الثمار السياسية، ما كان يمكنه أن يبصر النور لمجرد أن دولة عظمى (=الصين) شاءت ذلك وسعت إليه وفيه، بل لأن إرادة الوصول إليه نضجت لدى طرفيه، ثم لدى حلفائهما، مثلما أنضجتها - سلفا - مساعي عربية حثيثة جرت، منذ سنوات، بعيدا عن الأضواء وجلبة الإعلام. نعم، ما كان لهذه الانفراجة أن تكون بقرار صيني إلا لأن قابلية ذاتية لها نشأت وعبدت لها الطريق. وليس يمكن لأي تقدير للموقف أن يكون موضوعيا ومنصفا إن لم يأخذ في الحسبان الدور الفاعل الذي نهضت به سياسات سلطنة عُمان في التمكين لهذا الاتفاق ولتلك الانفراجة، ولما تولـد منهما من مبادرات لتسوية منازعات عربية أخرى.
حرصت السياسة العُمانية، دائما، على التزام موقف الحياد الإيجابي في كل المنازعات السياسية العربية التي حصلت في العقود الأخيرة، فلم تنخرط فيها ولا دعمت فريقا على حساب آخر محتفظة لنفسها، في الوقت عينه، بالمكان المناسب الذي يسمح لها بأن تكون الوسيط النزيه في فك الاشتباك السياسي. والأرجح أن عُمان ما نظرت إلى دورها العربي والإقليمي انطلاقا من فرضية الوساطة، لأنه لا وساطة في مصلحة قومية وإسلامية: التعايش والاستقرار ونزع فتيل الصراع؛ إذ هي في هذا منحازة إلى أمتها وليست محايدة. هذا المنوال السياسي الذي انتهجته سلطنة عمان تجاه محيطها العربي والإسلامي هو عينه الذي قاربت به، طويلا، معضلات سوء العلاقات العربية- الإيرانية، خاصة في الأعوام الأخيرة من تفاقم أحوالها. ولقد سعت في تجسير الفجوة بين المتنازعين وفي حمل الرسائل السياسية بينهم، ورعاية حوارات في الظل من غير أن تسمح للأضواء أن تـفسد هـدأة الدور. ولقد يكفي ما قامت به من جهود - وما بـرحت تقوم بها حتى الآن - لبناء أجواء حوار جاد بين فريقي الحرب اليمنية ليكشف عن نوع تلك السياسة العاقلة الساعية في نزع الألغام وتبديد الصراع والاحتقان بين الإخوة في الشعب الواحد أو في الأمة الواحدة.
حين نصحو، اليوم، على اتفاق واعـد بإنهاء النزاع السياسي بين طهران والرياض، وبإنهاء الحرب اليمنية وإعادة إعمار اليمن، وبعودة سورية إلى موقعها الطبيعي والتاريخي في المنظومة العربية، وبتسوية الأزمة الداخلية اللبنانية، المتمادية منذ خريف عام 2019، فإننا نصحو على حقيقة سياسية مريحة كانت السياسة العُمانية قد مهدت لميلادها منذ وقت مبكـر.
هكذا كانت السياسة، تحتاج دائما إلى حالة عاقلة - أو إلى لحظة العقل - تردها عن شططها وعن تيهها الذي فيه تهمع. قد تأتي الحالة العاقلة من الفاعل السياسي نفسه في لحظة من الرشد يـزن فيها الأشياء بميزان الحكمة، فيحرر فعـله من الشوائب، لكنه يحتاج - في هذه الحال - إلى خصم عاقل أو لحظة عاقلة لدى الخصم... وقلما كان ذلك ممكنا؛ وقد تأتي من خارج صديق حريص على الأخوة والجوار والمصالح المشتركة، فترى الذي في الخارج يأتيها من طريق إسداء النصح لمن يبغي نصحه، أو من طريق انتداب النفس لأداء دور الوساطة البناءة التي تتغيا رأب الصدع وإصلاح ذات البين، فلا يـكـل ولا يمـل وإن لاقى من الصعاب والعثرات الكثير إلى أن يظفر بما سخـر له الجهد من أهداف وبذل فيه عزيز المساعي.
والحق أنه لولا هذه المسكة من العقل لكانت السياسة جحيما لا يطاق ولـما هي اختلفت عن الحرب في شيء؛ إذ كثيرا ما لا تـفـرد نزاعات المصالح مكانا للعقل في السياسة حين تنقاد الأخيرة بالأهواء والغرائز وتركب لنفسها من الوسائل والأساليب ما ليس يحسن في ميزان العقل والحكمة وأحيانا ما يتعارض حتى ومنطق المصالح الذي يقضي بعدم إغلاق الأبواب والمنافذ. ولعله من الحظ الحسن للعقل وللسياسة معا أنه يأتي على السياسة حين من الدهر تنكفئ فيه عن تيهها وتـفيء إلى العقل. والغالب على أوبتها تلك من مجاهلها أن تقع حين يدرك أصحابها أن أقصر سبيل إلى حفظ المصالح وتأمين النفس من الأخطار هو الإصغاء إلى نداء العقل وما يمليه من ضرورات الحوار وتسوية المنازعات بالوسائل السلمية، وتعزيز ذلك بالتعاون المشترك.
حين نعاين، اليوم، كيف تنـحل عـقد كثيرة وأزمات شديدة في السياسات الإقليمية والعربية، وفي العلاقات العربية- العربية والعلاقات العربية بدول الجوار الإقليمي (خاصة دول الدائرة الحضارية الإسلامية) - بعد أن كانت قد استفحلت في الماضي القريب إلى الحد الذي خيل إلى الأكثر منا أن طريقها إلى التسوية مقفل تماما - ندرك أن ذلك التذليل ما أمكن أمره إلا بتحكيم العقل وبتدخـل محمود من العقلاء. ذلك ما ينطبق، مثلا، على الانفـراجة الإقليمية الكبرى التي أطلقها الاتفاق السعودي- الإيراني، برعاية الصين، على تسوية الأزمات بين البلدين الكبيرين في الدائرة العربية- الإسلامية، والتي تولدت منها - بالتـبعة - نتائج سياسية في غاية الأهمية على الكثير من المشكلات والساحات العربية: على صعيد الأزمة اليمنية، وعلى صعيد العلاقات السعودية- السورية واحتمال عودة سورية إلى اجتماعات جامعة الدول العربية و، مستقبلا، على صعيد الأزمة الداخلية اللبنانية.
لن نخطئ التقدير حين ننـوه، مثل غيرنا، بما كان للصين من دور سياسي حاسم في هندسة الاتفاق وإخراجه، ثم إحاطته بالرعاية: ليس فقط من باب تقديم الضمانات بعدم انتهاكه، بل من باب حمايته من خطر مـن قد يتربصون به في العالم لما فيه من كبير إضرار بمصالحهم التقليدية؛ هذه التي لا يستقيم لها أمـر - عندهم - إلا من طريق الإيقاع بين العرب، أو بين العرب وجوارهم الإسلامي! ولكن الاتفاق هذا، وما نجم منه من عظيم الثمار السياسية، ما كان يمكنه أن يبصر النور لمجرد أن دولة عظمى (=الصين) شاءت ذلك وسعت إليه وفيه، بل لأن إرادة الوصول إليه نضجت لدى طرفيه، ثم لدى حلفائهما، مثلما أنضجتها - سلفا - مساعي عربية حثيثة جرت، منذ سنوات، بعيدا عن الأضواء وجلبة الإعلام. نعم، ما كان لهذه الانفراجة أن تكون بقرار صيني إلا لأن قابلية ذاتية لها نشأت وعبدت لها الطريق. وليس يمكن لأي تقدير للموقف أن يكون موضوعيا ومنصفا إن لم يأخذ في الحسبان الدور الفاعل الذي نهضت به سياسات سلطنة عُمان في التمكين لهذا الاتفاق ولتلك الانفراجة، ولما تولـد منهما من مبادرات لتسوية منازعات عربية أخرى.
حرصت السياسة العُمانية، دائما، على التزام موقف الحياد الإيجابي في كل المنازعات السياسية العربية التي حصلت في العقود الأخيرة، فلم تنخرط فيها ولا دعمت فريقا على حساب آخر محتفظة لنفسها، في الوقت عينه، بالمكان المناسب الذي يسمح لها بأن تكون الوسيط النزيه في فك الاشتباك السياسي. والأرجح أن عُمان ما نظرت إلى دورها العربي والإقليمي انطلاقا من فرضية الوساطة، لأنه لا وساطة في مصلحة قومية وإسلامية: التعايش والاستقرار ونزع فتيل الصراع؛ إذ هي في هذا منحازة إلى أمتها وليست محايدة. هذا المنوال السياسي الذي انتهجته سلطنة عمان تجاه محيطها العربي والإسلامي هو عينه الذي قاربت به، طويلا، معضلات سوء العلاقات العربية- الإيرانية، خاصة في الأعوام الأخيرة من تفاقم أحوالها. ولقد سعت في تجسير الفجوة بين المتنازعين وفي حمل الرسائل السياسية بينهم، ورعاية حوارات في الظل من غير أن تسمح للأضواء أن تـفسد هـدأة الدور. ولقد يكفي ما قامت به من جهود - وما بـرحت تقوم بها حتى الآن - لبناء أجواء حوار جاد بين فريقي الحرب اليمنية ليكشف عن نوع تلك السياسة العاقلة الساعية في نزع الألغام وتبديد الصراع والاحتقان بين الإخوة في الشعب الواحد أو في الأمة الواحدة.
حين نصحو، اليوم، على اتفاق واعـد بإنهاء النزاع السياسي بين طهران والرياض، وبإنهاء الحرب اليمنية وإعادة إعمار اليمن، وبعودة سورية إلى موقعها الطبيعي والتاريخي في المنظومة العربية، وبتسوية الأزمة الداخلية اللبنانية، المتمادية منذ خريف عام 2019، فإننا نصحو على حقيقة سياسية مريحة كانت السياسة العُمانية قد مهدت لميلادها منذ وقت مبكـر.