يُثَبَّتُ مفهوم التنوع كعملية إجرائية «تقنية» على أبعاد محددة (تنوع في بعده الثقافي - من ضمنه الديني - تنوع في بعده الاجتماعي، تنوع في بعده السياسي، تنوع في بعده الاقتصادي) وما يندرج تحت هذه الأبعاد من مفاهيم ومسميات فرعية، تشكل أهمية خاصة عند مناقشة هذا النوع من الأطروحات، والتنوع موضوع يأخذ أهمية خاصة في كل فترة زمنية، ولذلك هو يستحوذ على مناقشات مستمرة، نظرا لما تشهده الساحات في هذه الأبعاد كلها من حركة دؤوبة، وقلقلة، ومرتبكة، تُقوَّضُ كل الحسابات التي توضع لها، وتنحي كل الخطط التي تجهز لها، وتربك كل البرامج التي تعد لها، ويحدث كل ذلك لأنها مرتبطة بحياة الإنسان في معيشته، وفي آرائه، وفي رؤاه، وفي مواقفه، وفي مقارناته، وفي معتقداته، وفي قوته في مجابهة ما يتهاوى إليه من كل صوب وحدب، يقلق راحته، ويربك قناعاته، في وقت لا يزال الإنسان فيه يأخذ تموضعه في مربعه الأول نظرا لهذا الكم الهائل مما يصل إليه، بإرادته في بعض الأحيان، وبغير إرادته في كثير من الأحيان، في الوقت الذي يطالب به من قبل الآخر، أن يقبل، وأن يستوعب، وأن يرضى، وأن يوافق، بل وأن يُوقِّع ليكون ذلك كله دليل على رضاه، بغض النظر عن قناعته، هذه الصورة في بعدها الإجرائي «التقني» أما ما يظهر بعد ذلك من نتائج فهذه قصة أخرى، قد يتمكن الفرد أن يكتبها في حينها، وقد لا يتمكن حيث يكتبها من يأتي من بعده (سيرة غيرية) كما هو حال الأجيال عندما تتناسخ موروثاتها جيل بعد جيل، وما ترصده من نتائج أعمالها الخاصة بها والمرتبطة بزمنها هي، ويلزم الإشارة هنا أيضا في هذه الصورة الإجرائية على أن الـ»أنا الخاصة» المشار إليها في هذا النقاش، تتجاوز الذاتية الفردية، وتذهب إلى الهوية؛ سواء في إطارها المحدود عند كل فرد، أو إطارها الواسع الذي يشترك فيه كل أبناء المجتمع، ولأن الهوية هي في الأصل معمولة الذات الإنسانية قبل كل شيء، فستظل الإشارة إليها هنا في هذه المناقشة بـ«الأنا الذاتية» لعمق المعنى الذي يشير إليه، وذلك لسبب بسيط، وهو أن من يتخلى عن هويته - أي كان عنوانها - فإن هذه الهوية المتخلى عنها لم تتوغل في ذاته الصادقة الأمينة، وإنما كانت مجرد وسيلة لاستجلاب منافع مؤقتة، ومتى تحققت هذه المنافع أو لم تتحقق، فإنه لا ضرورة لأن تبقى هذه الهوية، وليبحث عن هوية أخرى ذات منافع أكبر، وبالتالي فـ«الأنا» هنا ليست تلك الأنا البغيضة «الأنانية».

السؤال المطروح هنا أيضا: هل هناك توافق وتناغم بين الأنا «الذاتية الخاصة» وبين هذا التنوع الواسع في هذه الأبعاد كلها، أم أن الأنا هنا تكون ضمن سياق المجموع، ويجب التسليم لما يذهب إليه المجموع؛ بغض النظر عن مستوى القناعة التي يؤمن بها الفرد نفسه؟ والسؤال الآخر: في ظل ما يشاهد، ويعايش، على الواقع من نتائج هذا التنوع - وهي نتائج تحتاج إلى كثير من المراجعة - كيف يمكن للأنا «الذاتية الخاصة» أن تنحاز لذاتيتها، خوفا من التأثيرات السلبية التي تطرحها هذه النتائج من أفكار، وما قد يتبناها الآخر كمناهج؛ لا يستبعد أن تعمم «كونيا» بقوة فرض الإرادة، وليس خيارا «بروتوكوليا» كما هو المعتاد في العلاقات الدبلوماسية، مع أن الرفض والقبول أكثر من يتبناه؛ في حالة تدويله؛ المؤسسة الرسمية وليس الفرد، بإمكانياته المتواضعة؟ السؤال الثالث: لا يزال ينظر إلى التنوع؛ في أبعاده المختلفة؛ على أنه ذو شحنتين (موجبة/ سالبة) محببة الأولى؛ طبعا؛ بحكم نتائجها؛ ومرفوضة الثانية، أو متخوف منها، وذلك أيضا لنتائجها المعروفة، ولكن مع هذا التناقض الشكلي والموضوعي في آن واحد، هل يمكن تعظيم الموجب منها، وتقليل الشحنات السالبة في الأخرى، والسؤال هنا؛ تحديدا؛ بيد من ذلك؟ حيث تتشعب المسؤولية هنا أكثر، فبقدر مسؤولية المؤسسة الرسمية في تعظيم الفوائد الناتجة من التنوع من خلال إيجاد الأرضية الآمنة للتوافق، والتكامل، والتعاون بين مكونات هذا التنوع، ينظر إلى الفرد أيضا بذات الأمل في المساعدة في هذا التوافق والتكامل والتعاون، لأن في أي ممارسة من أي من الطرفين غير ذلك تكون النتائج وخيمة، ويدفع ثمنها الوطن بكل حمولته الحضارية والإنسانية، واليوم هناك أوطان كثيرة تعيش هذا التنازع لانعدام هذه الأرضية السوية والآمنة في احتضان أبعاد التنوع المختلفة.

يعي الجميع أن هناك ذاتا جامعة شاملة للوطن ككل، وهذه الذات هي التي يجب أن تنصهر فيها جميع الذوات، ولا يكون للفردية ذات البعد المتحيز الذي يعرقل مشاريع الوطن الكبرى أي موطئ قدم ظاهر، ووفقا لهذه القناعة والحقيقة في نفس الوقت فإن أي تنوع يطرأ على مجموع التنوع الموجود في الوطن الواحد؛ فإن التنوع الزائر ستكون له صور عدة؛ منها: تنوع مختلف اختلافا نوعيا وكميا في كل صوره، بدءا من الممارسات السلوكية، إلى القناعات الذاتية، إلى محاولة التأثير في التنوع الأصل الذي تحتويه الأوطان «الأصل».

تنوع يحمل ثقافات الأم «الأصل» وبالتالي؛ يقينا؛ لن يتوافق مع ثقافة الوطن البديل، وبالتالي فجبهات الصراع محتملة وبنسبة كبيرة جدا بين كلا التنوعين، مما يؤدي إلى إرباك مجموعات القيم في الوطن البديل؛ عاجلا أو آجلا.

تنوع مضطرب، وغير متجانس لأنه من بيئات مختلفة، وثقافات مختلفة، وقيم مختلفة، وبالتالي لن يستطيع التأقلم حتى لو تجاوز السن المحددة لعمر الأجيال، وهي الأربعين (40) عاما، وقد يفضل العودة إلى حيث الأصل، لصعوبة الاندماج السريع، حتى يأخذ الزمن دورته المعتادة من التأثير والتأثر.

وفي المقابل؛ وفي خضم هذا التنوع غير المتماثل، وغير المتجانس، والموجود بكثرة العدد «الكمي» والعدد «النوعي» سيعيش التنوع في الوطن المستضيف حالات من الاضطراب غير المستقرة، ومع مرور الأيام ستحدث الكثير من التشوهات مما قد يغربه عن واقعه، ويقدمه للآخر في صورة تبعث على الشفقة، حتى وإن كانت هناك محاولات بجهد رسمي، للتقليل من هذا التشوه، حفاظا على تماسك الوطن، فستظل تأثيرات مجموع المعالجات محدودة جدا، بسبب تأخر تحقق القناعات عند الأفراد، الذين؛ أغلبهم سيظلون مرتهنين بحلم العودة إلى أوطانهم الأصل، قد لا تلحق بها الأجيال المتلاحقة التي تنمو بسرعة الريح، والتي هي الأخرى تعيد تشكيل تنوعاتها المختلفة انعكاسا لواقع البيئة الممارس، مع الأخذ في الاعتبار حالات التأثير والتأثر الذي تفرضه وسائل التواصل الحديثة.

اليوم تطلق استغاثات من دول وكيانات سياسية مختلفة، الهدف منها التقليل من تأثيرات التنوعات المتداخلة التي تعيشها كل دول العالم، فقيرها وغنيها على حد سواء، ولأن الحلول ليست يسيرة ولا هي جاهزة، فإن المشكلة ستظل قائمة، وستتكبد تداعياتها الأجيال المتتالية، حتى تصل كل الأجيال على سطح الكرة الأرضية على نسق واحد من التنوع، وذلك مرتهن على سرعة وقوة التأثيرات التي توفرها وسائل التواصل القائمة، وهي الوسائل المرشحة للزيادة في التأثير، وفي السرعة، وفي محبة الناس لها وتبنيهم لبرامجها المختلفة، وعلى الأجيال القديمة «المنسحبة» ألا تحرق أعصابها كثيرا، فهذا واقع فارض نفسه بقوة الوسيلة شئنا أم أبينا، وما نلمسه في مختلف التقاطعات في هذه التنوعات القائمة أو الزائرة «الوافدة» خير دليل على ذلك، سمه صراعا، أو حكم القوي على الضعيف، تحكم الوسيلة، ذائقة الأجيال؛ تبقى كل الأسماء مشروعة، وفي ذلك ربما قد يفكر البعض أن الأوطان هي التي سوف تدفع الثمن، وذلك لما سوف تعانيه من التشوهات الحضارية، والتي هي أرصدتها المهمة في الواقع، ومع التسليم لهذه الصورة الحاصلة والمتوقع اتساع رقعتها، إلا أنه في المقابل لا يمكن أن تحاصر الأجيال في نموها لترتهن على صورة واحدة لمسيرة حياتها النابضة بالحيوية والتدافع، والتقاتل.