تعطينا الحياة نصف الحقيقة، أما النصف الباقي فإنّ الوعي مجبول على تشكيله، كلّ حسب قدراته وأفكاره المنبثقة من الحاجات المجتمعية، والوعي المتنامي عبر الزمان، هكذا بدأ اختبار البروفايل للقدرات الإبداعية، والمطبق في نسخته الثانية للكشف عن الطلبة الموهوبين من أجل تحقيق الغايات السامية لرعايتهم والأخذ بموهبتهم إلى بر الأمان، ليعود الأمر على نحو نفعي كغراس من بذرة إبداعية.

وكما لا تستقيم الحياة بلا توازن فطري، فإن تصنيف البشر من أجل توزيع أكثر جودة للمهام، فإن الطلبة الخاضعين لاختبار البروفايل عكفوا على تصنيف الفئات بتعليلات فرضية، وتجميعها على أن تكون شكلاً لجذر واحد، والذي يحوي في طيّاته تركيز بؤرة المقياس على تلك القدرات الذهنية التي تنبئ بموهبة حقيقية؛ إذا ما تم الأخذ بيدها فإنها تتحوّل إلى موهبة جديرة لأن تكون مدرسة فكرية أو فنية في مجالها، تقود التغيير ولا تنقاد تابعة له.

تصورات ذهنية لإكمال الرسم هي البداية لتشكيل الأنماط ومحاولة فهمها وتفسيرها، والذي يكون مفتتحا لأشياء أكثر عمقا، كالاطلاع على الخوارزميات واستيعاب أنماط سيرورة الحياة، على نحو أكثر وعيا يخلو من المغالطات الفكرية.

وبتقهقر رجعي لقراءة المشهد الإبداعي وفق أفق منظور، وعلى نحو أكثر شمولية وبتتبّع مسارات التطور الحادث في شأن رعاية الموهوبين؛ فإني أعود بذلك إلى المعنى الضمني والبدايات الأولى جدا حيث المنطلق الإنساني هو عتبة الباب الأولى، وبتسويغات تحمل التساؤل كأداة فلسفية معرفية أولى، وحيث إن التساؤل يحمل فحوى الإجابة في باطن لفظه، والسؤال نصف الإجابة، أو بتعبير آخر وكما قال الكاتب «سير فرانسيس باكون»: السؤال الجريء نصف الحكمة، وبدون الحاجة إلى تبنّي فكرة معارضة، كحجّة رجل القشّ الواهية، إنما اتخاذ مسار يسير بالتوازي مع كل ما هو مبذول ومحقّق ومأمول من واقع رعاية الموهوبين.

إن إضفاء الألقاب من قبيل المفاضلة بين الناس ليكون هناك تمييز في التقدير؛ لهو من قبيل المقارنة ما بين السماء والأرض بأيهما تصحّ الحياة أكثر؟ وحيث إنه لا مجال للاختيار فإن كليهما في المنظومة ذاتها لتكتمل الحياة، كذلك شأن تصنيف الناس بمستويات تستجدي التقدير، إلا أنه ورغم ذلك فمن مقتضى الحال الحاجة الماسة لتلك التصنيفات، وتلك الغربلة الموزونة ليكون لكلّ منا موقعه المناسب، بما تكتمل معه المنظومة المجتمعية، بنسق محدد وبتتابع تواتري، وليس من قبيل التصنيف والتأطير الذي لا يدخل في دائرة إدراكه، فإنه ليس من العدل التمايز العنصري، إلا أنه ليس من العدل المساواة أيضا بحيث تسير الأشياء بالموازين ذاتها، بما يخالف مرونة الكون وانتظامه.

ومن تلك الحاجات المنبثقة من التنامي المجتمعي تلك التصنيفات التي تعين على أداء المهام التي تندرج جميعها وتتّسع لقدرات البشر كافة كلّ حسب قدراته، باعتبار التمايز سنّة كونية، وكما قيل في الاختلاف ائتلاف، وما ذلك التشابه سوى مرادف للتكرار الذي يلغي الوجود في الندرة، وكما عبّر عن ذلك أحد الفلاسفة بقوله: حتى أولئك الذين لا يفعلون شيئا هم في الحقيقة يؤدون أدوارا ما في الحياة، فجاءت الأعمال تتلاءم مع تلك الذكاءات المتنوعة التي يتمتّع بها الإنسان لا ريب، ومن العدل أن يتم تحقيق ذلك بالتمايز والتباين وليس بالتماثل والتكرار، فإن الاختلاف ثراء كما وصفه الكاتب السعودي «محمد الرطيان».

ولأن روزنامة التفكير كانت منذ البدء تتبّع مسار المبدعين، بداية من صناعة الفكرة كمدخل لاختصار الرحلة الإبداعية وفق تأرجح جدلي، يحقق أقصى ما يمكن تحقيقه من مبادئ وتصورات للعملية الإبداعية وفق تجلّيات لغوية.

وإن تحدّثنا على نحو يحمل أبعاد العدل واتساع مفهومه ومعناه، فإنه يمكننا القول إن مؤشرات الموهبة بعدد عقول الناس، فإن التنظيم يكون بذلك يأخذ طابعا عائما يتّسم بالحريّة والشمول، لنجده يقودنا إلى نقطة البدء حيث الجميع سواسية، ولكي لا يفلت الخيط، أصبح لذلك التمايز من يعتني بشأن تتبّع مساراته بداية من مقياس ذلك التمايز باختبارات الذكاء، وتطبيقات الموهبة والإبداع إلى أمر آخر يعنى بتعليمهم وتفريدهم منذ الصغر وسنوات التعليم الأولى، لتتنامى الموهبة معهم وصولا إلى محطات ترسو عليها الموهبة، ليكون مكان العمل متلائما مع قدراتهم، وإن كان كل ذلك كان يحدث على نحو تلقائي غير مقنن بسجلات وتجارب موثقة، وحيث إن التدوين هو ما يزيد من تراكم الخبرات وتجويدها على مر السنوات، فإن لسلطنة عمان تجربة رائدة في الكشف عن الطلبة الموهوبين.

انطلق برنامج ثروة من العام السابق وهو الآن في دورته الثانية، يستهدف الطلبة الموهوبين وفق مؤشرات عالمية يؤخذ بها، كمؤشر التحصيل الدراسي والإنجاز الفعلي للموهبة الملموسة، وذلك عبر مقياس البروفايل للقدرات الإبداعية، الذي تم تطويره وتقنينه على البيئة العمانية،بإشراف فريق بحثي من جامعة السلطان قابوس، يقيس القدرات التخيّلية عبر قياس الذاكرة التصورية، التي تتبدّى على شكل تصوّر رمزي مرسوم، ويقيس كذلك الطلاقة الفكرية، والسرعة في توليد الأفكار وتصنيفها، عبر مجموعات تربط بينها عبارات وصفية، بالإضافة إلى الاستعانة بنماذج التقدير السلوكية التي تتم تعبئتها من قبل المعلم وولي الأمر، يتم ذلك وفق مراحل عمل تسير وفق دليل تنفيذي، يمر على مراحل التقصّي والترشيح والتوعية بالبرنامج ، ومن ثم تكوين فرق العمل، ليحصل بعدها الطلبة الموهوبون على امتيازات تحتضن موهبتهم الإبداعية كالبرامج الإثرائية.

ولأن آخر القول مجبول بأوله، والنتيجة تأتي حسب المسار التوجهي الأول منذ وضع الأهداف الأولى، والتوجهات التي تسوق العمل، فإنه لمن العدل كذلك أن تخرج روزنامة التفكير أخيرا بجملة توصيات كقراءة للمشهد ببعد وزاوية أكثر شمولية، يمكنني القول إنه رغم وجود القدرات الإبداعية حولنا إلا أنها تظل عند البعض كامنة يصعب الكشف عنها، أو كما يقال حسب التعبير الرائج والعبارة المجازية: «الفيل في الغرفة»، لكن لا أحد يراه، وهو من المصطلحات الرمزية المؤثرة لتلك الأشياء الموجودة بيننا لكننا لا نراها كحال تلك القدرات الكامنة، فهناك فئة إلى الآن لم تشرق شمس مؤشرات الموهبة لديها، بل على العكس من ذلك قد تلتف حولهم الصعوبات والنقائص واضحة جليّة، وتبقى الموهبة دفينة ككنز وسرّ كوني لم يكتشف بعد ولم تُستنفد طاقاته.

ففي حين تبلغ الموهبة مبكّرا لدى البعض؛ فإن آخرين يأخذون وقتا أطول لتنضج دواخلهم، لتتجلّى الموهبة بعدها بأشكال أكثر إبهارا وتفرّدا، لنقول بذلك: لكل إنسان مرحلته الخاصة من الموهبة، والتي لم تكشف في الطفولة لا بدّ أن تظهر في مراحل متقدّمة، وبعد أن نجد البعض قد وصل إلى محطة الموهبة، فإن الآخرين بحاجة إلى محطّات تفصيليّة أكثر تنقلهم من السابقة للأخرى للوصول إلى محطّة الموهبة أخيرًا عبر معينات تعليمية وتحفيزية، وبينما البعض نجده منشغلا بجذوة الحماس منقادا فطريا بحب التنافس للوصول؛ نجد البعض بخلاف ذلك على التمام فيكون متخذا طابعا يتّسم بصفة الراحة، ليتشكّل ذلك الشيء بداخله ببطء وتأنٍّ، وكما أننا بحاجة إلى التركيز على الجوانب الإبداعية التي يبديها الطالب، فنحن بحاجة إلى قدر مساوٍ لتجاهل تلك الصعوبات التي تأتي مقترنة مع الموهبة كوجه آخر لها.

وإن كانت دورة الحياة تطال المنظومة الكونية بالكامل، فلكل الكائنات دورة حياتها، حتى بات للنوم دورته أيضا، وتقلبات المناخ والبدايات والنهايات دورتها أيضا، فإن إسقاط ذلك على عقل الإنسان يمكّننا من القول إن للعقل دورته أيضا من هدوء وركود إلى تركيز ذهني وإنتاج فكري ليعود مجددا لمرحلة الراحة والتعافي.

ومن أحد أسباب التأخر الفكري أننا نلحق بمن سبقنا ظنّا منا أنه لا طريق آخر سوى اللحاق به؛ في حين أنه يمكننا صناعة ثيمتنا الابتكارية المميزة، فوضع مؤشرات وصول قد تُشعر البعض بصعوبة الطريق وطولها، إلا أن إعطاء المرونة الفكرية حيث تتجلّى فيها الحرية الفكرية، التي تكون من السمات الفطرية للمبدعين، والمادة الأولية لأفكارهم الإبداعية، وهذا ما يبرر بمنطق بزوغ الموهبة بعد مراحل التعليم، ولا يخفى كيف أن الحرّية الفكرية وامتلاكها لدى المبدع الحقيقي قد تكون صفة يُعتدّ بها، لإدراج الخيارات في كل جوانب العملية التعليمية، كأن يمتلك اختيارات تحديد مساراته التعليمية، وفرصه الانتقالية ضمن بنود العملية التعليمية، ليكون بذلك الفيل الموجود في الغرفة ظاهرا للعيان أمام الجميع وعلى نحو لا يمكن تجاهله.