منعت تبعية دول أوروبا للولايات المتحدة في قرارها السياسي (تلك الدول) من بناء علاقات سياسية صحية وإيجابية مع القوى الكبرى الأخرى في العالم (الصين وروسيا على وجه خاص). عن ذلك كشفت الأزمة الأوكرانية واصطفاف العواصم الأوروبية خلف واشنطن وسياساتها: المعبأة ضد روسيا والصين وكل قوة تزاحمها على دور القيادة الدولية؛ حتى لو كانت أوروبا نفسها! والحق أن أوروبا لم تخفق في تنمية علاقاتها بأقطاب جدد فقط - نظير فشلها في ذلك في حقبة الحرب الباردة - بل أخفقت حتى في استثمار علاقاتها ببلدان الجنوب التي كانت، يوما، تحت سلطانها العسكري والسياسي، وأشرفت - هي نفسها - على تكوين نخبها وتأهيلها... وأوربتها!

لم تحرز أوروبا نجاحات ملموسة في ميدان تصويب علاقاتها بقسم كبير من بلدان الجنوب ما زال يدور- بدرجات متفاوتة - في فلكها. يتعلق الأمر في هذه الملاحظة، على وجه التحديد، بمن كان من دول أوروبا في عداد القوى الاستعمارية، ومن كان من بلدان الجنوب في حكم مستعمراتها القديمة. ومع أن جلاء قواتها العسكرية عن تلك المستعمرات وقع منذ عقود (بين الأربعينيات والسبعينيات من القرن الماضي)، إلا أن ذلك ما ترجم نفسه بعد في شكل سياسة تسلم، عمليا، ببطلان استمرار هيمنة أوروبا على البلدان التي انتزعت استقلالها من دولها؛ بل الدارج في سياساتها التصرف بمنطق من لا زالت وصايته و«حمايته» سارية المفعول حتى يوم الناس هذا! وقد ولـد ذلك - وما بـرح يولـد - مشكلات لا حصر لها في علاقات أوروبا بقسم كبير من العالم، وأظهر تلك المشكلات جميعا مشكلة انعدام الثـقة في أوروبا من قبـل من كانوا عرضة لسياساتها المهيمنة. وهي مشكلة تدفع دول أوروبا أكلافـها من مركزها في العالم ومن نفوذها في الجنوب.

ما يزال من الصعوبة أن يقال، بقدر من الاطمئنان: إن أوروبا تحررت من ميراثها الاستعماري، عقـليا ونفسيا، على الرغم من أن الأجيال السياسية التي تحكمها - منذ نصف قرن - لم تعـش الحقبة الاستعمارية، ولا تكـون وعيها فيها. والحق أن هذا تفصيل صغير في الموضوع؛ لأن الثقافة الاستعمارية أبعد مدى في الزمان من زمن استعماري عابـر، وتأثيراتها في مجتمعاتها يستمر حتى بعد ارتفاع الواقعة الاستعمارية. ولهذا مبانيه التي تفسره، وأولها أنها ثقافة تتغذى من موروث ثقافي غربي استعـلائي، مسكون بفكرة التـفـوق الحضاري والثـقافي والديني. بل إن هـذا المـوروث - الذي هو القاع الثقافي للغرب الاستعماري أو بنيته الثقافية التحتية والعميقة - هو ما قاد «الرجل الأبيض» إلى استعمار العالم الذي يقع خارج دياره. وما أغنانا عن القول إن مثل هذه الذهنية لا تتبدد في عقود فيما هي من نتاج قرون خلت.

حين أجـبرت دول الاستعمار الأوروبي (بريطانيا، وفرنسا، وهولندا، وإيطاليا، وإسبانيا، وبلجيكا) على رحيل قواها من مستعمراتها القديمة في آسيا وفي أفريقيا - إما تحت وطأة ضربات قوى حركات التحـرر الوطني أو نتيجة الضغط الأمريكي عليها لوراثة «أملاكها» الاستعمارية - لم تكن قد طـوت تاريخها الاستعماري البغيض، بل حمـلت على ذلك حملا. وآي ذلك أنها أكرهت نخب مستعمراتها على أن توقع معها على اتفاقات تعادل، في حساب الأشياء، استمرار الاستعمار (من قبيل عشرات البنود التي تنص على تمكين دول أوروبا من امتيازات اقتصادية هائلة في مستعمراتها القديمة مثل الحق الحصري في التنقيب عن الثروات المعدنية؛ والأولوية في الاستثمارات؛ والارتباط بالنظام المالي والنقدي لهذا البلد الأوروبي أو ذاك؛ والإشراف على تكوين الجيش وضباطه واقتناء الأسلحة منها بشكل حصري؛ وتمتيع لغاتها (خاصة الفرنسية) بمكانة خاصة في النظام التعليمي والإداري والاقتصادي، بل فرضها كلغة رسمية على بعض دول أفريقيا؛ فيما لم يكـتـف قسم من الدول الاستعمارية بذلك فأجـبر - من غير حياء - بلدانا أفريقية على التوقيع على اتفاقات تتضمن بنودا تطالب البلدان المستقـلة بدفع تعويضات لها عن إنفاقها على مشروعات البنية التحتـية خلال حقبة الاحتلال... إلخ)! وفي مرات عديدة، بعد جلاء الاستعمار، شقت نخب عدة عصا الطاعة على المستعمر فجنحت لتطبيق سياسات وطنية استقلالية وتحررية، لكن دول أوروبا واجهتها بأساليب عدة (حروب عليها، وانقلابات عسكرية، وتفجير حروب أهلية...) ملحقة بها وبشعوبها أشد العقاب! وطوال حقبة ما بعد الاستعمار، لم تتزحزح دول أوروبا عن موقفها القاضي بأن «رسالتها» في المستعمرات كانت «حضارية»؛ لذلك ظلت ترفض الاعتذار عن الحقبة الاستعمارية وعن جرائمها في المستعمرات!!!

وليس من التـزيّـد في القول إن المشاعر العنصرية التي يحملها جمهور عريض من مواطني بلدان أوروبا، تجاه المهاجرين من أصول عربية وأفريقية وآسيوية، والتي تتغذى منها حركات اليمين العنصري المتطرف فيها (= المطالبة بطرد المهاجرين وإعادتهم إلى مواطنهم!) سوى ذلك الامتداد السلس لتلك الثقافة الاستعلائية المركزية الأوروبية التي أنجبت الاستعمار. والأطـم من طامة هذه العنصرية تجاه مهاجرين - قانونيين في الغالب وسريين أيضا - أنها تفصح عن نفسها حتى إزاء من صاروا مواطنين أوروبيين مجـنسين يفـتـرض بأنهم يتمتعون بالحقوق عينها التي يتمتع بها المواطنون «الأصليون»! الأمر الذي يستفاد منه أن ثقافة المواطنة لم تجترح لنفسها مكانا بعد إلى جانب الثقافة المصابة بنزعة التمركز الذاتي الشوڤينية: ثقافة البيض الأوروبيين. وهذا دليل إضافي جديد على أن أزمة العلاقة بالآخر (الأوروبي، الغربي) أزمة ثقافـية، في المقام الأول، حتى وإن هي تتمظهر، في الغالب، في شكل سياسي منها.

قـد نسأل: ولم نـقـد أوروبا، بالذات، في هذا الباب؟ نرد: لأن الاستعمار، بالتعريف، ظاهرة أوروبية: ولـد فيها، وترعرع فيها ومنها انطلق ليغزو العالم. وأمريكا - سيقال - أليست كذلك؟ نجيب: نعم، ولكنها - هي أيضا - أوروبية المحتـد والمصدر، وأقامها أوروبيون في قارة أخرى خارج قارتهم و، بالتالي، سترث من أوروبا ثقافتها وتقاليد الاستعلاء والتفـوق وثقافة القـوة والعنف؛ أي كل الموارد التي صنعت أمريكا الحديثة. وما هكذا كانت سـير أمم ودول كبرى - تضاهي الغرب اليوم في القـوة (مثل الصين والهند وروسيا) - في علاقتها بالعالم وبدول الجنوب خاصـة.