تغدو الحياة أصعب كل يوم مع هذا التطور التقني، وعجلة الأتمتة المستمرة التي تدهس الوظائف التي لم نكن نتخيل اختفاءها يوما. وتبدو مجابهة الحياة اليومية للرائي، كالوحش الآلي ذي الأذرع اللانهائية كما في سلسلة أفلام الماتريكس «The Matrix» وهو يلتهم الكائن البشري المدفوع بالرغبة في العيش والعنفوان والحب والمشاعر الإنسانية الحية التي لا يمكن أتمتتها بتاتا. وما بين متفائل ومتشائم من هذا التطور المتسارع بوتيرة تحفز الذاكرة لنسيان ما كان قبل ساعات حدثا بالغ الأهمية وفتحا علميا للمجمع الإنساني ككل؛ يجد الفرد نفسه في مواجهة شرسة وطاحنة أمام خياراته الآنية والمستقبلية على السواء، وهو ما يؤثر على حالته النفسية والذهنية والجسدية جميعها، فيلتهمه التيه وتغدو الضبابية مسيطرة على المشهد. ولا يعني هذا أن من يشعر بهذا التيه هو إنسان فاقد للإيمان أو بعيد عنه، لكنها الغريزة البشرية التي تدفعنا دفعا للتفكير في الغد المجهول.

لو قُيِّض للمرء أن ينظر في سير العظماء ممن تركوا أثرهم الخالد في صفحات التاريخ، لما وجدهم نشازا عن عظماء اليوم الذين قد لا نشعر بهم أو نعرفهم بتلك المكانة السامقة؛ إلا بعد وفاتهم أو بعد وقت طويل، وقد لا ندرك ذلك في حياتنا أصلا!.

كتبت قبل مدة مقالا في جريدة عمان بعنوان «رمنسة البؤس»، ودعاني بعض الأصدقاء والقراء الأعزاء لكتابة جزء ثان من ذلك المقال، لكننا لو ابتعدنا قليلا ونظرنا إلى الحياة اليومية وهموم الناس، لوجدنا أن مصدر هذا البؤس -النفسي على الأقل- أو أحد مصادره تتمثل في الوفرة!. نعم، الوفرة خير للمجمع الإنساني ولكنه خير منوط بالشجاعة في مجابهتها وتوجيهها التوجيه السليم الذي يحقق السعادة للفرد، كُلٌّ بذاته. لست أعني الوفرة المالية رغم أهميتها بطبيعة الحال، إنما الوفرة في كل شيء تقريبا. فلو أخذنا على سبيل المثال الكتب والمعرفة، لوجدنا أن السابقين من العلماء والعباقرة فضلا عن عامة الناس، لا يملكون هذا الكم الهائل من الخيارات المتاحة؛ فلو حصل أحدهم على كتاب، فلن ينتقل إلى الكتاب الذي يليه حتى يحوي ما فيه. وليس منبع هذا الأمرِ الطريقةَ أو المنهج العلمي فحسب، إنما ندرة الخيارات كذلك، وهي التي تجبر المرء على التكرار حتى يكاد يحفظ الكتاب نصا عن ظهر قلب.

نستطيع أن نطلق على هذه الوفرة اسم «الوفرة السامة»، رغم أن الوفرة في معناها الكلي لا تحتمل سوى الخير. ورغم أننا نعايش هذا الأمر ونتحدث عنه في حياتنا اليومية -دون وعي غالبا- إلا أننا نستنكر أن تكون الوفرة سببا في هذا الشقاء النفسي. من الأمثلة التي تتكرر في كل بيت تقريبا، خصوصا في تلك البيوت التي يكون أقمارها وأعمدتها كبار السن، نجدهم يذمون الصغار في عدم رغبتهم بأكل الوجبة المقدمة للغداء أو العشاء، واشتراطهم وجود خيارين فأكثر في كل وجبة، وهو ما لم يكن ممكنا حتى وقت قريب.

ما علاقة القرارات المصيرية والعيش بشجاعة بهذا كله؟ العلاقة وطيدة وترابطية تماما، فالمرء الذي لا يحدد هدفه من الحياة وما يريد بلوغه، سيكون متذبذبا أمام هذا الكم اللانهائي من الخيارات، وهو ما يتيح لدوَّامة التيه العنيفة ابتلاعه فلا يخرج منها إلا إلى قبره إن لم يتدارك الأمر. تتطلب مواجهة النفس ورغباتها شجاعة منقطعة النظير، يقول الإنسان «أستطيع الجلوس وحيدا بلا أي أداة أو تقنية وأفكر في حياتي مسيرا ومصيرا»، وما تلبث أن تتساقط هذه الفكرة التنظيرية الجميلة أمام التطبيق. فكل قرار يتخذه المرء، هو قرار مصيري يحدد الوجهة النهائية له، وبينما تكون بعض تلك القرارات واضحة سهلة، تكون نظيراتها مشوبة بالمرارة والصعوبة التي تتطلب صبرا ومداومة لاتخاذها وإتمامها. أشبِّه اتخاذ القرارات المصيرية ومجابهة المرارة اليومية بإطعام الأطفال؛ لا يحب الأطفال غالبا تناول الخُضر والفواكه، ولكنها بالغة الأهمية لتنمية الطفل وتكوينه الجسدي، وهو ما يدركه الآباء ويأباه صغارهم. وكما يقول المتنبي

وإذا لم يكُن من الموت بُدٌّ

فمن العجز أن تموت جبانا