في سبيل الوصول إلى نهضة حضارية متكاملة فإن مجتمعاتنا العربية في حاجة إلى العناية بالمعارف الإنسانية والاجتماعية والفنية، وهي المعارف التي تؤسس لبناء مواطن على أسس معرفية تجعله أكثر انتماء وتذوقا للفنون والآدب بمختلف صنوفها، فضلا عن أن هذه المعارف تحث على التفكير العلمي، وتضاعف من انتماء الشباب لأوطانهم.
تعد المعارف الإنسانية بمثابة البنية المؤسسة لكل النهضات التي تحققت في نهضات الدول في أوروبا واليابان وصولا إلى الولايات المتحدة الأمريكية بحكم أن الإنسان هو قوام هذه الحضارة، والعناية بفكره ووجدانه هما الدعامتان المؤسستان للتقدم، وفي تاريخنا العربي الحديث سبقت المعارف الإنسانية والاجتماعية غيرها من المعارف الأخرى منذ بدايات القرن التاسع عشر، حينما انفتح العرب على الغرب، سواء في الترجمة أو البعثات العلمية التي عرفت طريقها إلى كثير من دول أوروبا، وهو ما أحدث حالة من الاستنارة الفكرية بطريقة عقلانية رشيدة،حققت نتائجها في أساليب التفكير والسلوك والقيم ومكانة الفرد في المجتمع، والنظرة إلى الحياة، كل ذلك قد انعكس بدرجة متفاوتة على كتابات المفكرين والتنويريين العرب، ابتداء من رفاعة الطهطاوي والكواكبي وفرح إنطون وأديب إسحاق ومحمد عبده وغيرهم كثيرون.
سبقت العناية بالعقل والتفكير العلمي وإعادة اكتشاف الإنسان بمكوناته الوجدانية أية معارف أخرى، وتجسد ذلك في كتابات الفلاسفة والمفكرين الذين انتصروا للعقل، وطالبوا بحرية الحوار، والإيمان بحق الإنسان في أن يعبر عن رأيه، والعمل على نشر السعادة في الأرض من خلال إعمال القانون والعناية بالتعليم. وهو ما أحدث صدى واسعا بين جيل الرواد المؤسسين خلال القرن التاسع عشر، لذا كانت العناية بالثقافات الإنسانية بمثابة المناخ العام الذي خرجت من رحمه كل النهضات الفكرية والمعرفية.
بدأ احتكاك العرب بالغرب مع بدايات القرن التاسع عشر، وهو احتكاك بدأ عدائيًا، تفاوتت فيه ردود الفعل العربية من دولة إلى أخرى، ففي مصر مثلا لم تستغرق الحملة الفرنسية أكثر من ثلاث سنوات ( ١٧٩٨-١٨٠)، لكن الآثار الثقافية والفكرية التي نجمت عنها كانت شديدة التأثير، وخصوصا بين النخبة المثقفة، وكان التأثير عميقا على المستويين العلمي والسياسي، وفي الوقت الذي لم تحقق الحملة أهدافها السياسية المنشودة في مصر كانت نتائج أخرى إيجابية قد تركت آثارها على كل مناحي الحياة المصرية، وخصوصا في مفهوم الوطن بمعناه السياسي والاجتماعي، وهي نقطة تحول بدت واضحة خلال مقاومة الحملة الفرنسية على خلفية وطنية، حينما تولد من هذا الحراك مفهومًا جديدًا وهو «مصر للمصريين»، ولم تأخذ الحملة الفرنسية لدى من قاموا بها طابعا دينيا بحكم مفهوم الحرية الذي تبناه الفرنسيون مع نهاية القرن الثامن عشر، بينما كانت الحملة الفرنسية على الجزائر ١٨٣٠م، حملة دينية ذات طابع أيديولوجي كاثوليكي، لذا اصطحبت معها رجال دين، بينما في مصر استقدم بونابرت علماء في شتى صنوف المعارف العلمية.
إذا كنا نتطلع إلى نهضة علمية في وطننا العربي يتبوأ فيها العرب موقعهم اللائق، وهو ما نلاحظه من العناية بتشييد الجامعات ومراكز البحث العلمي وابتعاث الدارسين إلى أرقى جامعات العالم. كل ذلك مهم جدا ويستحق الإشادة، لكن الملاحظ أن المعارف الإنسانية لا تحظى بنفس القدر من العناية بالمعارف التجريبية، فالمعارف التجريبية نشيد بها مشروعات حضارية ومختبرات علمية تخدم التنمية، لكن تبقى إدارة هذه المؤسسات وبناء الإنسان بوجدانه وفكره وثقافته هي في مقدمة العوامل التي يُعول عليها في نهضات الأمم.
لا تزال حركة الترجمة محدودة للغاية، ولا تزال دراسة الفنون والآداب قاصرة إلى حد كبير، كما أن المعارف التاريخية والفلسفية والاجتماعية لم تؤسس بعد لمجتمع يتسم بالوعي، وإعمال حرية النقد وشيوع ثقافة القراءة، فضلا عن افتقاد هذه العلوم لرؤية منهجية متكاملة في مجال النقد وإعمال العقل، لهذا كله لم تحظ هذه المعارف بالاهتمام والرعاية رغم وجود آلاف الباحثين في مختلف جامعاتنا العربية لكن محصلتهم العلمية محدودة للغاية، والكثير من القائمين على هذه المعارف يفتقدون إلى التكوين العلمي الصحيح.
في حياتنا المعاصرة نماذج واضحة لأشخاص تخصصوا في العلوم التجريبية، وقد مس بعضهم غواية القراءة والفنون، لذا تميزوا عن أقرانهم ممن أخذهم التخصص الدقيق بعيدا عن هذه المجالات.
إذا أردنا نهضة حضارية متكاملة علينا النظر برؤية شاملة لوحدة المعرفة، ولدينا تجارب كثيرة في دول سبقتنا، لدرجة انه من الصعب إن تجد جامعة كبيرة إلا والمعارف التاريخية والفلسفية والفنية أحد مقرراتها الأساسية، إيمانًا بوحدة المعارف بمختلف تخصصاتها، طالما أنها تستهدف العقل الجمعي لكل المتلقين للخدمات التعليمية. من المهم إعادة النظر في معظم برامجنا التعليمية، فلم تعد المعارف الإنسانية والاجتماعية والفنية ترفا، وإنما هي ضرورة إذا كنا ننشد بناءً مواطن قادر على المشاركة الفعالة في بناء حضارة حديثة، فلسنا بصدد بناء ماكينات اصطناعية، وإنما بصدد بناء عقول لديها القدرة على النقد والاختيار والمشاركة في بناء مجتمع إنساني حديث، وهي ذات القضية التي احتلت مكانة مناسبة في معظم جامعات العالم، وكانت الدرس الأول لقيام كل النهضات الأوروبية المعاصرة.
د. محمد صابر عرب أستاذ التاريخ بجامعة الأزهر ووزير الثقافة المصرية سابقا ورئيس مجلس إدارة الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية سابقا.
تعد المعارف الإنسانية بمثابة البنية المؤسسة لكل النهضات التي تحققت في نهضات الدول في أوروبا واليابان وصولا إلى الولايات المتحدة الأمريكية بحكم أن الإنسان هو قوام هذه الحضارة، والعناية بفكره ووجدانه هما الدعامتان المؤسستان للتقدم، وفي تاريخنا العربي الحديث سبقت المعارف الإنسانية والاجتماعية غيرها من المعارف الأخرى منذ بدايات القرن التاسع عشر، حينما انفتح العرب على الغرب، سواء في الترجمة أو البعثات العلمية التي عرفت طريقها إلى كثير من دول أوروبا، وهو ما أحدث حالة من الاستنارة الفكرية بطريقة عقلانية رشيدة،حققت نتائجها في أساليب التفكير والسلوك والقيم ومكانة الفرد في المجتمع، والنظرة إلى الحياة، كل ذلك قد انعكس بدرجة متفاوتة على كتابات المفكرين والتنويريين العرب، ابتداء من رفاعة الطهطاوي والكواكبي وفرح إنطون وأديب إسحاق ومحمد عبده وغيرهم كثيرون.
سبقت العناية بالعقل والتفكير العلمي وإعادة اكتشاف الإنسان بمكوناته الوجدانية أية معارف أخرى، وتجسد ذلك في كتابات الفلاسفة والمفكرين الذين انتصروا للعقل، وطالبوا بحرية الحوار، والإيمان بحق الإنسان في أن يعبر عن رأيه، والعمل على نشر السعادة في الأرض من خلال إعمال القانون والعناية بالتعليم. وهو ما أحدث صدى واسعا بين جيل الرواد المؤسسين خلال القرن التاسع عشر، لذا كانت العناية بالثقافات الإنسانية بمثابة المناخ العام الذي خرجت من رحمه كل النهضات الفكرية والمعرفية.
بدأ احتكاك العرب بالغرب مع بدايات القرن التاسع عشر، وهو احتكاك بدأ عدائيًا، تفاوتت فيه ردود الفعل العربية من دولة إلى أخرى، ففي مصر مثلا لم تستغرق الحملة الفرنسية أكثر من ثلاث سنوات ( ١٧٩٨-١٨٠)، لكن الآثار الثقافية والفكرية التي نجمت عنها كانت شديدة التأثير، وخصوصا بين النخبة المثقفة، وكان التأثير عميقا على المستويين العلمي والسياسي، وفي الوقت الذي لم تحقق الحملة أهدافها السياسية المنشودة في مصر كانت نتائج أخرى إيجابية قد تركت آثارها على كل مناحي الحياة المصرية، وخصوصا في مفهوم الوطن بمعناه السياسي والاجتماعي، وهي نقطة تحول بدت واضحة خلال مقاومة الحملة الفرنسية على خلفية وطنية، حينما تولد من هذا الحراك مفهومًا جديدًا وهو «مصر للمصريين»، ولم تأخذ الحملة الفرنسية لدى من قاموا بها طابعا دينيا بحكم مفهوم الحرية الذي تبناه الفرنسيون مع نهاية القرن الثامن عشر، بينما كانت الحملة الفرنسية على الجزائر ١٨٣٠م، حملة دينية ذات طابع أيديولوجي كاثوليكي، لذا اصطحبت معها رجال دين، بينما في مصر استقدم بونابرت علماء في شتى صنوف المعارف العلمية.
إذا كنا نتطلع إلى نهضة علمية في وطننا العربي يتبوأ فيها العرب موقعهم اللائق، وهو ما نلاحظه من العناية بتشييد الجامعات ومراكز البحث العلمي وابتعاث الدارسين إلى أرقى جامعات العالم. كل ذلك مهم جدا ويستحق الإشادة، لكن الملاحظ أن المعارف الإنسانية لا تحظى بنفس القدر من العناية بالمعارف التجريبية، فالمعارف التجريبية نشيد بها مشروعات حضارية ومختبرات علمية تخدم التنمية، لكن تبقى إدارة هذه المؤسسات وبناء الإنسان بوجدانه وفكره وثقافته هي في مقدمة العوامل التي يُعول عليها في نهضات الأمم.
لا تزال حركة الترجمة محدودة للغاية، ولا تزال دراسة الفنون والآداب قاصرة إلى حد كبير، كما أن المعارف التاريخية والفلسفية والاجتماعية لم تؤسس بعد لمجتمع يتسم بالوعي، وإعمال حرية النقد وشيوع ثقافة القراءة، فضلا عن افتقاد هذه العلوم لرؤية منهجية متكاملة في مجال النقد وإعمال العقل، لهذا كله لم تحظ هذه المعارف بالاهتمام والرعاية رغم وجود آلاف الباحثين في مختلف جامعاتنا العربية لكن محصلتهم العلمية محدودة للغاية، والكثير من القائمين على هذه المعارف يفتقدون إلى التكوين العلمي الصحيح.
في حياتنا المعاصرة نماذج واضحة لأشخاص تخصصوا في العلوم التجريبية، وقد مس بعضهم غواية القراءة والفنون، لذا تميزوا عن أقرانهم ممن أخذهم التخصص الدقيق بعيدا عن هذه المجالات.
إذا أردنا نهضة حضارية متكاملة علينا النظر برؤية شاملة لوحدة المعرفة، ولدينا تجارب كثيرة في دول سبقتنا، لدرجة انه من الصعب إن تجد جامعة كبيرة إلا والمعارف التاريخية والفلسفية والفنية أحد مقرراتها الأساسية، إيمانًا بوحدة المعارف بمختلف تخصصاتها، طالما أنها تستهدف العقل الجمعي لكل المتلقين للخدمات التعليمية. من المهم إعادة النظر في معظم برامجنا التعليمية، فلم تعد المعارف الإنسانية والاجتماعية والفنية ترفا، وإنما هي ضرورة إذا كنا ننشد بناءً مواطن قادر على المشاركة الفعالة في بناء حضارة حديثة، فلسنا بصدد بناء ماكينات اصطناعية، وإنما بصدد بناء عقول لديها القدرة على النقد والاختيار والمشاركة في بناء مجتمع إنساني حديث، وهي ذات القضية التي احتلت مكانة مناسبة في معظم جامعات العالم، وكانت الدرس الأول لقيام كل النهضات الأوروبية المعاصرة.
د. محمد صابر عرب أستاذ التاريخ بجامعة الأزهر ووزير الثقافة المصرية سابقا ورئيس مجلس إدارة الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية سابقا.