بهدوء بالغ، مرّ بنا يوم الكتاب العالمي الذي وافق الثالث والعشرين من أبريل وهو اليوم الذي اختارته منظمة اليونسكو عام 1995م لكي يحتفى بالكتاب، والتأكيد على أهميّته، والحثّ على القراءة، وتقدير المؤلفين، ولم تتوقّف أهداف هذا اليوم عند هذا الحدّ، بل تجاوزت المناسبة ذلك إلى الدفاع عن حقوقهم، وهو الأمر الذي أكّد عليه اليوم العالمي للملكية الفكرية الذي حلّ بعد ثلاثة أيّام من يوم الكتاب العالمي، أي في السادس والعشرين منه.

ولولا تغريدات البعض لما عرفنا باليوم العالمي للكتاب، الذي أختير، لأنّه يوافق ذكرى وفاة عدد من كبار أدباء العالم، مثل: وليم شكسبير و‌ميجيل دي سرفانتس، وآخرين وولادة فلاديمير نابوكوف، ولم يكن السبب في مروره العابر انشغال الناس بمناسبة أخرى عزيزة وهي العيد، فغطّت عليه، بل لأنّ الكتاب لم يعد كما كان في السنوات الخوالي، ولم تعد القراءة تتربّع على عرش المتعة، وارتفاع منسوب السعادة، وتحسين المزاج، كما أكّدت مؤسسة الاستشارات الاستراتيجية الأمريكية «كيلتون غلوبل» في استطلاع رأي قامت به، فأمزجة الناس اختلفتْ، ووجدتْ ضالّتها في وسائل أخرى، وحتى المشتغلون في صناعة الكتاب، صاروا يشكون في معارض الكتب، من ضعف الإقبال على الشراء، ومنافسة الكتب الإلكترونية للورقيّة، وتراجع القراءة، أمّا المؤلفون الشباب فلهم معاناتهم، وهم يشكون من عدم وجود دعم لطباعة كتبهم، لذا يضطرّون لطباعة كتبهم على حسابهم الشخصي، وإهدائها للمعارف والأصدقاء، حتى المؤلّفون الذين بلغوا من العمر عتيّا، لهم معاناتهم، وهي من نوع آخر، فهم يشكون من سطو الناشرين على كتبهم، وإهدار حقوقهم عند طباعتها دون إذن مسبق، والحال يطال الراحلين منهم، ففي حوار مرئي أجريناه مع المهندس غيلان، النجل الأكبر للشاعر الرائد بدر شاكر السيّاب، تحدّث بمرارة عن دور النشر التي تعيد طباعة أعمال والده الشعريّة دون إذن من أسرته، أمّا القرّاء، فهم يشكون من ارتفاع أسعار الكتب، وبين هذا، وذاك، فقد الكتاب بريقه، وتكدّست الكتب على رفوف المكتبات، وقلّ الدعم المؤسّساتي للطباعة، وكثرت المخطوطات المدسوسة في أدراج المؤلّفين، وتراجعت حركة نشر الكتاب، وصار الكثيرون يتّجهون للنشر الإلكتروني، أو الطباعة بصيغة البي دي إف، فهي غير مكلفة، وسهلة الإرسال الذي لا يستغرق سوى ثوانٍ قليلة، عبر البريد الإلكتروني، أو مواقع وسائل التواصل الاجتماعي المتعدّدة، رغم أنّ هذا النوع من النشر يبقى مفتقرا للشرعيّة التي تجعل المؤسسات الأكاديمية التي تعتمده مراجع في الدراسات، فهذه الكتب تفتقر للرقم الدولي، والمعلومات الكافية التي يحتاج إليها الباحثون في توثيق مراجعهم (اسم دار النشر، سنة الطباعة، المكان..الخ..) والأهم من ذلك لا يوجد للكتاب الإلكتروني حيّز في المكتبات العامّة والشخصيّة، سوى المكتبات الإلكترونية، ولا تقام لمؤلّفيها حفلات توقيع، كما أنّ وسائل الإعلام لم تضع بأجندتها بعد الكتب المنشورة إلكترونيا في دوائر اهتمامها إلّا تلك التي تُطبع ورقيا وتنشر إلكترونيا من باب زيادة الخير، وهو ما تفعله حاليا دور نشر عديدة، فتضرب عصفورين بحجر واحد، إذا ما أبعدت عن بالها الجانب التجاري الذي سيتضّرر حتما من نشر الكتاب إلكترونيا.

ولكن هل يمكننا تخيّل العالم بدون كتاب؟ وهل صرنا نفتقر إلى قارئ نهم مثل الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس الذي يقول: «لطالما تخيلت الجنّة على هيئة مكتبة»؟ والكتاب، بالنسبة له، ليس ورقا، وسطورا، وحبرا، وغلافا سميكا، بل «علبة شوكولاتة» كما وصفه لألبيرتو مانجويل الذي كان يقرأ لبورخس بعد أن فقد نظره، وهل ستختفي فرحة العثور على الكتاب، تلك الفرحة التي كانت كفيلة بأن تجعل يومنا سعيدا، وهي تعادل فرحة العثور على كنز، كما يقول ابن الجوزي، وهو ثروة بنظر الكاتب هنري ميلر الذي يقول: «عندما تمتلك كتابا ذا عقلٍ، وروح، تغتني، فالكتاب ليس فقط صديقا، بل يصنع لكَ أصدقاء»؟

وهل اختفى نموذج الشاعر واللغوي عبدالله بن الخشابِ الذي اشترى كتبا من سوق الورّاقين، ولم يَجدْ لديه المال الكافي، «فباعَ بيته ليسدّد قيمة كتبه»؟

هل أن الكتاب لم يعد خير جليس؟

يطمئننا الكاتب واسيني الأعرج بقوله: إن الكتاب «كبنية ذهنية ما يزال موجوداً، فرغم وجود التطور التكنولوجي إلا أننا نحتاج إلى الشعور بأننا بصدد قراءة شيء اسمه الكتاب، فالعالم في نهاية المطاف هو بين دفتي كتاب».

وستظلّ صحبتنا مع الكتاب مستمرّة، لا يعكّر صفوها شيئا، لكن تأخذ صيغا جديدة تتماشى مع طبيعة العصر، وإيقاعه، ومن هذا المنظور، فالكتاب لم يعد مادّة جامدة، بل يمتلك من الحيويّة ما يجعله يصل محتواه إليك من خلال عدّة وسائل، وسيظلّ معينا معرفيّا، وزادا ثقافيّا، ومصدرا جماليا، وسيظلّ اليوم العالمي للكتاب مناسبة عزيزة لها مكانها ومكانتها، في قلوبنا، وإن مرّت بنا على استحياء، لأسباب عديدة أشرنا إلى بعضها في هذا المقال.