راقني كتاب أردت أن أعرضه في هذا العمود وأشارك القارئ متعة الحوار معه، بسبب من أسلوبه وطريقة كتابته وما لامسه صاحبه من مواضيع مهجورة في العادة، وهو كتاب «حياة الكتب السريّة: ليلة قرأ فرانكشتاين دون كيخوت» للكاتب الإسباني، والباحث اللسانيّ سانتياجو بوسيتجيّو، ولكن سرعان ما عزفت عن ذلك، إذ وجدت أنّ حياة الكتب السريّة العربيّة أعمق وأدلّ، وأنّ الهوامش التي صحبت الكتاب العربيّ والكاتب العربيّ يمكن أن تثير أشجانا وأن تسيل أقلاما. لقد روى سانتياغو بوستجيّو في كتابه هوامش تخصّ آثارا عالميّة مهمة في التاريخ الأوروبيّ، ومخفيّ كتّاب لم يظهر على سطح سيرهم، بطريقة قصصيّة لافتة وجاذبة للقارئ، وددت لو أنّ كاتبا عربيا انصرف بنفس الطريقة إلى قصّ حكاية كتب قُبرت أو أعمال لم يوفّ أصحابها ما يستحقّونه من منزلة، أو كتّاب أهملهم التاريخ أو أهمل قسما من أفعالهم وآثارهم.

في هذا الكتاب عوالم يخوضها الكاتب، ويعْرض لما هو مكتوم في تاريخ الكتاب والكتّاب، بأسلوب فيه من تخييل التفاصيل ما يجعل السرد محقّقا لمعرفة المعلومة التي يروم الكاتب إيصالها ولمتعة القصّة التي يرمي إلى تحقيقها. ورد في الاستهلال أنّ الأمر في هذا الكتاب يتعلّق «بسفر عظيم، رغم قصره، يهدف إلى جعْل ما يتوارى خلف الكتب ظاهرا للعيان: المؤلّفون وسيرهم ونزواتهم وسمات نبوغهم وأحيانا حالات بؤسهم، وكلّ ما تضمره الكتب في طيّاتها من تساؤلات»، ومن ذلك كيف اهتدى «زينودوتس» جامع أشعار «هوميروس» إلى اختراع أداة منهجيّة في الترتيب والتنظيم ما زلنا لحدّ اليوم نجريها، وهي الترتيب الألفبائي، ومن ذلك أيضا حكاية مدينة أثْرت الأدب العالميّ وهي «دبلن» التي أنجبت «أوسكار وايلد» صاحب العملين الشهيرين «يمكنني مقاومة كل شيء باستثناء الإغراء» و«في الاختبارات، يسأل الأغبياء عن أشياء لا يملك العلماء أجوبة عنها»، و«بيرنارد شو» صاحب جائزة نوبل 1925 و«صامويل بيكيت» الذي حصل على نوبل سنة 1969 ورائد المسرح العبثي خاصّة في مسرحيّته «في انتظار غودو» و«جيمس جويس» صاحب «عوليس» و«أهالي دبلن»، و«لبرام ستوكر» الذي صنع الحكاية الخالدة «دراكولا»، و«يليام بتلر ييتس»، «شاعر الأساطير الإيرلندية» والمتوّج بنوبل 1923، ويتوسّع الكاتب في عرْض ما أنجبته هذه المدينة من أدباء أثّروا في الأدب الكونيّ، لينهي الفصل بقوْل «آن إنريغت»: «في باقي المدن، يخرج الناس الأذكياء ويغتنون. وفي دبلن، يمكث النّاس الأذكياء في منازلهم ويقرؤون». ويواصل الكاتب بنفس النسق مثيرا الشكّ في نسبة أعمال شكسبير إليه، ومتحدّثا عن تأثّر الكاتبة ماري شيلي بقراءة دون كيخوت في كتابة قصّتها فرانكشتاين، وعن دور النشر وأثرها في تعطيل كاتب مبدع أو تيسير ذلك، تتعطّل الرواية الأولى لـ«جين أوستن»، «انطباعات أولى» ولن تنشر إلاّ بعد ستّ عشرة سنة، بعد أن التقت ناشرا قدّر منزلتها وأدرك أنّها «كاتبة كبيرة»، والعكس في حالة الكاتبة «ج. ك. رولينغ»، إذ إنّ وجود «أليس نيوتن» ذات الثماني سنوات ابنة ناشر السلسلة الشهيرة «هاري بوتر»، قد يسّر طريق نشر الرواية، وساهمت القارئة الصغيرة في تنبيه أبيها الناشر «باري كونينغام» صاحب دار بلومزبري للنشر إلى قيمة القصّة. وعن كتابة «سرفانتس» لعمله الخالد «دون كيخوت» في سجن في إشبيليّة 1597، وعن وقصّة «أنطوان دو سانت أكزوبيري» الطيّار في كتابته لـ«الأمير الصغير»، وعن كتابة «آرثر كونان دويل» لشخصيّة روائيّة احتلّت مكانة الخلود صحبة شخصيّات كونيّة تنقّلت من عوالم التخييل إلى واقع الحياة، وهي شخصيّة «شارلوك هولمز»، وعن خلود «دوستويفسكي»، إلى غير ذلك ممّا وددت أن أعرضه وأن أتحدّث فيه من مواضيع وأساليب ميّزت هذا الكتاب، ولكنّ الأسئلة التي أضجرتني تحوم كلّها حول حاجة القارئ العربيّ لمثل هذا التاريخ الذي لا يعتني به التاريخ الرسميّ ولا يتتبّعه المبدعون إلاّ في مشافهة القول، نحتاج نميمة في الكتابة شبيهة بالكتابة النمائميّة التي اختطّها سانتياجو بوستيجيّو في تفاعله مع الكتب والكتّاب، دون تزلّف أو رياء أو كبر وخيلاء، ببساطة القارئ ووضوح ما يفكّر فيه وما يتأتّاه من هواجس. كلّ هذا حفّزني على أن أتساءل، ألم تكن لابن رشد في رحلة منْع كتبه عربيّا وغربيّا قصّة مهجورة على مبدع عربيّ أن يتقصّاها، كيف ارتبطت الفلسفة الرشديّة بالإكوينيّة، وهذا توما الأكويني الذي تربّى أرستقراطيّا، يأخذ الفلسفة يوم كانت الفلسفة تنْقل عن ابن رشد في مؤسّسات إيطاليّة تخصّصت في الترجمة عن العربيّة، وكان توما الأكويني في دراسته للاهوت في نابولي يتردّد على أساتذة كان قطبهم ابن رشد، وكانت كتبه هي مدار أحاديثهم، ميخائيل اسكت الذي انصرف إلى ترجمة مؤلفات ابن رشد إلى اللغة اللاتينية؛ ويعقوب الأناضولي الذي تخصّص في ترجمة مؤلفات هذا الفيلسوف إلى اللغة العبرية، وبطرس الأيرلندي الأرسطي الذي يحتاج إلى تلقّي المعلّم الثاني حتّى يفهم المعلّم الأوّل. كلّ هؤلاء وغيرهم كثر، أثّروا في التكوين المعرفيّ لتوما الأكويني اللاهوتي الفيلسوف الذي سيقف موقف الضدّ من أطروحات ابن رشد؟ ألم تكن لألف ليلة وليلة رحلة عذاب، من التحريم إلى التجريم، إلى التقلّب عبر ردهات المحاكم، وحكايات عن الحكايات الألف قد تفوق إن تتبّعنا تاريخها وهوامشها ما تضمّنه المتن الليليّ الألف من سحريّة وغرائبيّة؟ وإلاّ فكيف يمكن أن نتعقّل أن يتنقّل كتاب «ألف ليلة وليلة» بعد قرون من تلقّيه في صور مختلفة في ممرّات المحاكم، ليكون الكتاب الأشهر الذي يحاكم في غياب صاحب له يذْكر؟ لقد كانت سنة 1985 سنة كبْت الكتب، والعمل على قبْر عدد منها، وخاصّة «ألف ليلة وليلة»، وقبل ذلك كانت محاولة قبْر كتاب «إحياء علوم الدين» للغزالي، وكتاب «الفتوحات المكيّة» لابن عربي. لقد اتّهم كتاب «ألف ليلة وليلة» بأنّه كتاب فاضح يسيء إلى الأخلاق ويضرّ النشء، وطالب وكيل النيابة بالقاهرة -بعد أن حجز الكتاب من قبل شرطة الآداب- بإحراق الكتاب في ميدان عامّ، تكرارا لمحرقة كتب ابن رشد، الأمر الذي دفع العديد من العلماء المستنيرين إلى التصدّي -دون جدوى- لهذا الفعل، ومنهم المحقّق الأشهر عبد السلام هارون الذي قال: «لا تعتدوا على التراث التاريخيّ فتثيروا سخريّة هذا العالم»، ومنهم أيضا ضريعه في التحقيق محمود شاكر، ومهدي علاّم الذي قال أيضا: «إنّ ما نصنعه هذه الأيّام بكتاب ألف ليلة وليلة يخجلنا أمام الأجيال القادمة». فهل من مبدع في هذه الأرض يروي لنا أو يقصّ علينا بأسلوب مرغّب التاريخ السريّ لهذه المآسي، والارتحال السحريّ لكتب ابن رشد، وقصص تآليف التوحيدي، ورحلة العذاب في صراع الكتّاب، وما للمدن من آثار؟

محمد زرّوق ناقد وأكاديمي تونسي