مضى الغيم فوق رؤوسنا -ونحن نصعد الجبل الأخضر- كندف من الثلج أو كقطع من المارشميلو السائحة. لم يكن لأحدنا أن يتخيل أنّ تلك الدقائق التي تفصل بين أعلى الجبل وأسفله، ستوفر ما يربو على عشر درجات من الحرارة، وكأننا رسمنا «شخطا» فانتقلنا إلى بلد آخر.

ستؤكد لنا مزارع الورد الشاسعة التي تطاولنا في قرية «سيق» وتلك الممرات الحجرية الآسرة بين حقول الرمان، أنّنا نمضي إلى تجربة مغايرة، بينما صوت أسمهان يومض في رأسي وهي تغني: «يا ورد من يشتريك».

وليس على سبيل المبالغة لو قلنا بأنّ «المصورين» في عُمان، أيقظوا رغبتنا بخوض النزهة، ولستُ أبالغ أيضا لو قلتُ بأنّ سنتيّ كورونا على قسوتهما البائنة، حرّضتا فينا فتنة منقطعة النظير للتجوال الكاشف، لا سيما مع نشاط «جروبات الهايكنج» في شتى مناطق سلطنة عمان.

لقد تحول دأب كُثر ممن نعرف، من سباق محموم لوضع أختام العالم على جوازات أسفارهم، إلى وضع علامات سياحية محلية مخفية ومتوارية عنا في سبات فطرتها الأولى، ضمن أجندة خياراتهم.

لكن، لماذا لم تُكتب قصّة جامعي الورد؟ لماذا لم تدون القصص الشعبية التي تداولها الناس في الجبل المعزول؟ فماذا يريد الناس أكثر من قصص ساحرة تُعيد ربطهم بالأمكنة؟!

لقد تعلم أجدادنا الأوائل ببراعة متفانية كيف تنمو علاقتهم بحقول الورد، تلك المهارة الخاصة في القطف الباكر عندما يكون الورد مبللا بالندى قبل أن تغضنه الشمس.

ولم أكن لأتصور أنّ كيلوين من الورد المحمدي لن يخرج إلا ٣٠٠ مل من ماء الورد فقط. لقد قدرتُ عمل أولئك الصابرين على موجات الدخان الصاعدة من حطب التين، من أجل عملية تقطير ينتج عنها أجود أنواع ماء الورد. ذلك الانتظار المحفوف بالبهجة، فالصانعُ يمكثُ جوار فخار الورد الذي يصطلي بالنيران، في عملية بالغة الدقة، وفي كل ثلاث ساعات مضنية يقبض بين يديه على قطرات من معجزته الأثيرة.

أبهرني حرص الأهالي الشديد على ألا تسقط وردة أو تفنى، قال لي أحدهم عندما أسقطت ابنتي يارا إحداها بالخطأ: «إنها رزقنا!».

عندما دخلنا المصنع اليدوي، أبهجني بقاء المهنة بأيدي العُمانيين إذ لم تختطفها بعد أيدي الوافدين كما جرت العادة. وعندما سألتُ صاحب المصنع، قال بأنّه ورث المهنة عن أجداده، فقفز السؤال الأكثر حدّة: هل سيرثها أبناؤه منه؟!

يُزرع الورد في شهر مارس وينتهي قطافه في شهر مايو، ويقال بأنّ هنالك حوالي 5 آلاف شجيرة ورد في الجبل. هنالك أيضا الزيتون والعنب والتين والمشمش والكمثرى والتفاح والدراق والرمان والجوز، وأكاد أجزم بأنّ تقطير النباتات العطرية، يمكن أن يُحدث نقلة اقتصادية سياحية بصورة خلابة فوق توقعاتنا، وينعشُ الاستثمار وفرص توظيف العُمانيين، قبل أن تنقرض هذه المهنة كغيرها!

هنالك أيضا تجربة صناعة العصي من أشجار العتم، والعلعلان، واستخراج زيت الزيتون الطبيعي النقي، هنالك حياة برية كاملة كشجرة البوت، والآس، والجعدة. هنالك فسحة لعشاق الهايكنج في الطرق التي تربط الجبل الأخضر مع نزوى وإزكي ونخل والعوابي، ويمكن لمغامرة من نوع آخر أن تشق ولعها في الكهوف الغامضة.

إلا أن «جروبات الهايكنج» الناشئة، على أهمية ما تصنع من فرق، تبدو غالبا غير مُتسلحة بالثقافة والمعرفة التاريخية الكافية لإعطاء الأمكنة قصصها المتوهجة! ولا أدري إن كانت هنالك جهة تشرف عليها، وتلزمها بقوانين أولويات السلامة!

ثمّة تحسن في بيوت الضيافة والمقاهي، لكنه ضئيل قياسا بما قد يصنعه الجبل الأخضر من متعة بصرية وروحية، لا سيما وأنّه بالإمكان تنظيم فعاليات شتوية وصيفية. لكن إذا كانت دورات المياه النظيفة مُتعسرة حتى هذه اللحظة، فكيف لنا أن نحلم بصناعة ترفيه المغامرات بمعايير عالمية؟!

هدى حمد كاتبة عمانية ومديرة تحرير مجلة نزوى