هل يمكن القول: إن الأدب العربي المعاصر يشهد اليوم رِدَّة سياسية في علاقته بالمجتمع والشأن العام، فضلا عن القضايا القومية الأساسية والمسائل المتصلة بأفكار الحرية والعدالة الاجتماعية التي تتحول مع الوقت إلى شعارات جف دمها من كثرة الاستخدام المنبري؟ هذا سؤال تنظيري أفتحه على هذه اللحظة الرمادية من التاريخ الأدبي لهذه اللغة في هذا المكان من العالم، دون أن يخلو السؤال من قسوة التعميم ومن عمائه أحيانا وفي الوقت نفسه؛ كحال أي مَدخل تنظيري يتطلب قدرا عادلا من التعميم لينظر في سمة عامة من سمات الكتابة في دفتر حقبة معينة من الزمن.
تشهد سوق الكتابة ظاهرة من الظواهر الفردانية التي تتفاقم في الكتابة الأدبية الجديدة وعبر أجيال متعاقبة من الكتَّاب، ظاهرة يمكن وصفها بالاعتزال الأدبي للسياسة نتيجة لليأس أو التعالي، أو نتيجة للرهاب اللغوي الذي كرسه التعليم في التعاطي مع السياسة. أتحدث هنا عن «الأدب المتخلي» الذي أتمنى أن أسدد له التعريف بما يحيط بمعناه. فهو ذلك النوع من الكتابة الأدبية المتخمة بالمطلقات السائلة بلا ملمس أو اتجاه وبلا تفضيلات، والخالية من أي نبرة رفض أو احتجاج. لا تنبع من انتماءات فكرية واضحة، ولا مجال للبحث فيها عن التحولات السياسية لكاتبها. مموهة الملامح متماهية الحدود. مزيج من المكونات التي يعسر علينا أن نعثر فيها على طابع محلي لكاتبها أو على أثر للشخص العابر داخل هذه الكتابة... كتابة ساكتة في نهاية المطاف تصعد إلى السطح بطبقة طافية من الكتَّاب!
يبقى أن أول ما يتخلى عنه الأدب المتخلي هي تلك التعالقات والأواصر الرفيعة بين الشخصي والعام عندما يشف انحياز الكاتب إلى الذات، إلى التجربة الداخلية (الروحية إن صح التعبير) المنقطعة عن مدارها الخارجي؛ بمعنى أن تصبح الذات كونا سابحا في السديم، محوره أنا الكاتب الذي يبحث عن فرادته الأدبية داخل عزلة نفسية لا يعكر صفاءها الدم المسفوك على شاشات الأخبار ولا يثير حساسيتها غبار الشوارع. ولكن قد تسأم هذه الذات المفردة من ترددات الصمت في صوتها الأحادي ومن ضحالة شؤونها الفردية الحصرية فتلجأ أحيانا لمحاورة السماء بلغة عرفانية فتتحول معها إلى تجربة صوفية تطفو على اليابسة. ولا يقتصر التخلي في هذا النوع من الأدب على أن يكون تخليا داخل النص فحسب، بل هو انعكاس لتخلي الكاتب على الصعيد الشخصي في سائر ما يتصل بهويته العلنية التي يتبناها، وفي خياراته ومواقفه خارج عالم الكتابة، النموذج الذي يجب أن نراوده بالسؤال الضروري: ما معنى أن تكون كاتبا بلا خط سياسي؟
يضمر هذا النوع من الأدب حساسية عالية من فكرة الأدب الملتزم أو الالتزام في الأدب، متخذا شعارا وجيها من حيث المبدأ لكنه ليس أكثر من تمويه عائم ومخاتل بل ومتناقض حين تحين الممارسة. شعار يشارك في ترديده فنانون ومبدعون آخرون في محاججات كهذه: الفن للفن، والأدب للأدب، وأن الكتابة لا تغير سوى الكتابة... إلخ. على راسي، لكننا بحاجة إلى أكثر من «لكن» في هذا السياق...
أؤمن بالمقولة التي ترى أن مسعى الأدب الحقيقي هو تغيير الأدب نفسه؛ ما يعني أن أي نوع آخر من أنواع التغيير السياسي أو الاجتماعي قد يأتي كنتيجة عرضية أو جانبية لحركة الأدب وتفاعله مع بقية العناصر. لكن المشكلة تكمن في المغالاة في تبني هذا المبدأ. فما أؤمن به أيضا هو أن الحياة، بما هي عليه من حُلم وحقيقة، هي المادة الخام للأدب وللعمل الفني عموما. وهنا علينا أن ننتبه إلى أن واحدا من أهم أسباب فقر الشعرية العربية اليوم يأتي من جراء استنزاف تربة الكتابة بكتابة جديدة بعد أخرى؛ شعر يقلد الشعر ويغض الطرف عن تحولات الحياة خارج النشيد الأصلي. يمكنني هنا أن أستعين بالشاعر الفرنسي بول كلوديل حين قال: «لم تكن الكلمات هي التي صنعت الأوديسة، بل العكس».
هي فردانية مبعثها التعالي على الواقع أو القنوط منه، أو الخوف من المهمة المتخيلة للأدب في التغيير بتفعيل خصائصه التثويرية. يذكر محمد شاهين في مقدمة كتاب «أماكن الفكر» عن إدوَارد سعيد لمؤلفه تُمثي بْرِنْ أن المفكر الراحل ظل مترددا في كتابة الرواية حتى آخر حياته، خشية أن تعجز الرواية عن مجابهة الواقع إيجابيا كما اعتاد سعيد في ممارسته للكتابة الفكرية والنقدية، إلى أن انتهى إلى التخلي عن فكرة كتابة الرواية نهائيا.
«المفكر يكبح سرد الروائي
والفيلسوف يُشرِّح ورد المغني».
(محمود درويش في قصيدته «طباق» الرثائية لإدوَارد سعيد).
يشهد الأدب العربي انسحابا تدريجيا عن مواقع كتابية تتقاطع مع الشأن العام، تلك المواقع التي كان يشغلها بسبر عوالمها الطبقية من خلال الكتابة عنها بحبر الجرح الإنساني المشترك تحت تأثير الواقعية الاشتراكية التي أخذت تتبلور كتيار أدبي شبه رسمي في البلدان الاشتراكية، مستمدة تقاليدها من إرث مكسيم غوركي وروايته «الأم». ففي الرواية العربية قدمت الواقعية الاشتراكية نماذج أساسية لمستها في قراءاتي الأولى لغسان كنفاني وحنا مينه. أما في الشعر فغالبا ما كان تأثيرها سلبيا.
لطالما كانت العلاقة بين الأدب والسياسة علاقة تبادلية خطرة تحيلنا باستمرار إلى العلاقة المعقدة بين المثقف من جهة والسلطة التي هي بؤرة النشاط السياسي من جهة أخرى. وستظل السياسة تسبق الأدب إلى موقع الحدث، كما تسبق الصحافة والتاريخ. لكن الشاعرة الإيرانية سولماز شريف توجز العلاقة بين الشعري والسياسي بالقول:
«كل قصيدة فعل.
كل فعل عمل سياسي.
ولذا فكل القصائد سياسية».
سالم الرحبي شاعر وكاتب
تشهد سوق الكتابة ظاهرة من الظواهر الفردانية التي تتفاقم في الكتابة الأدبية الجديدة وعبر أجيال متعاقبة من الكتَّاب، ظاهرة يمكن وصفها بالاعتزال الأدبي للسياسة نتيجة لليأس أو التعالي، أو نتيجة للرهاب اللغوي الذي كرسه التعليم في التعاطي مع السياسة. أتحدث هنا عن «الأدب المتخلي» الذي أتمنى أن أسدد له التعريف بما يحيط بمعناه. فهو ذلك النوع من الكتابة الأدبية المتخمة بالمطلقات السائلة بلا ملمس أو اتجاه وبلا تفضيلات، والخالية من أي نبرة رفض أو احتجاج. لا تنبع من انتماءات فكرية واضحة، ولا مجال للبحث فيها عن التحولات السياسية لكاتبها. مموهة الملامح متماهية الحدود. مزيج من المكونات التي يعسر علينا أن نعثر فيها على طابع محلي لكاتبها أو على أثر للشخص العابر داخل هذه الكتابة... كتابة ساكتة في نهاية المطاف تصعد إلى السطح بطبقة طافية من الكتَّاب!
يبقى أن أول ما يتخلى عنه الأدب المتخلي هي تلك التعالقات والأواصر الرفيعة بين الشخصي والعام عندما يشف انحياز الكاتب إلى الذات، إلى التجربة الداخلية (الروحية إن صح التعبير) المنقطعة عن مدارها الخارجي؛ بمعنى أن تصبح الذات كونا سابحا في السديم، محوره أنا الكاتب الذي يبحث عن فرادته الأدبية داخل عزلة نفسية لا يعكر صفاءها الدم المسفوك على شاشات الأخبار ولا يثير حساسيتها غبار الشوارع. ولكن قد تسأم هذه الذات المفردة من ترددات الصمت في صوتها الأحادي ومن ضحالة شؤونها الفردية الحصرية فتلجأ أحيانا لمحاورة السماء بلغة عرفانية فتتحول معها إلى تجربة صوفية تطفو على اليابسة. ولا يقتصر التخلي في هذا النوع من الأدب على أن يكون تخليا داخل النص فحسب، بل هو انعكاس لتخلي الكاتب على الصعيد الشخصي في سائر ما يتصل بهويته العلنية التي يتبناها، وفي خياراته ومواقفه خارج عالم الكتابة، النموذج الذي يجب أن نراوده بالسؤال الضروري: ما معنى أن تكون كاتبا بلا خط سياسي؟
يضمر هذا النوع من الأدب حساسية عالية من فكرة الأدب الملتزم أو الالتزام في الأدب، متخذا شعارا وجيها من حيث المبدأ لكنه ليس أكثر من تمويه عائم ومخاتل بل ومتناقض حين تحين الممارسة. شعار يشارك في ترديده فنانون ومبدعون آخرون في محاججات كهذه: الفن للفن، والأدب للأدب، وأن الكتابة لا تغير سوى الكتابة... إلخ. على راسي، لكننا بحاجة إلى أكثر من «لكن» في هذا السياق...
أؤمن بالمقولة التي ترى أن مسعى الأدب الحقيقي هو تغيير الأدب نفسه؛ ما يعني أن أي نوع آخر من أنواع التغيير السياسي أو الاجتماعي قد يأتي كنتيجة عرضية أو جانبية لحركة الأدب وتفاعله مع بقية العناصر. لكن المشكلة تكمن في المغالاة في تبني هذا المبدأ. فما أؤمن به أيضا هو أن الحياة، بما هي عليه من حُلم وحقيقة، هي المادة الخام للأدب وللعمل الفني عموما. وهنا علينا أن ننتبه إلى أن واحدا من أهم أسباب فقر الشعرية العربية اليوم يأتي من جراء استنزاف تربة الكتابة بكتابة جديدة بعد أخرى؛ شعر يقلد الشعر ويغض الطرف عن تحولات الحياة خارج النشيد الأصلي. يمكنني هنا أن أستعين بالشاعر الفرنسي بول كلوديل حين قال: «لم تكن الكلمات هي التي صنعت الأوديسة، بل العكس».
هي فردانية مبعثها التعالي على الواقع أو القنوط منه، أو الخوف من المهمة المتخيلة للأدب في التغيير بتفعيل خصائصه التثويرية. يذكر محمد شاهين في مقدمة كتاب «أماكن الفكر» عن إدوَارد سعيد لمؤلفه تُمثي بْرِنْ أن المفكر الراحل ظل مترددا في كتابة الرواية حتى آخر حياته، خشية أن تعجز الرواية عن مجابهة الواقع إيجابيا كما اعتاد سعيد في ممارسته للكتابة الفكرية والنقدية، إلى أن انتهى إلى التخلي عن فكرة كتابة الرواية نهائيا.
«المفكر يكبح سرد الروائي
والفيلسوف يُشرِّح ورد المغني».
(محمود درويش في قصيدته «طباق» الرثائية لإدوَارد سعيد).
يشهد الأدب العربي انسحابا تدريجيا عن مواقع كتابية تتقاطع مع الشأن العام، تلك المواقع التي كان يشغلها بسبر عوالمها الطبقية من خلال الكتابة عنها بحبر الجرح الإنساني المشترك تحت تأثير الواقعية الاشتراكية التي أخذت تتبلور كتيار أدبي شبه رسمي في البلدان الاشتراكية، مستمدة تقاليدها من إرث مكسيم غوركي وروايته «الأم». ففي الرواية العربية قدمت الواقعية الاشتراكية نماذج أساسية لمستها في قراءاتي الأولى لغسان كنفاني وحنا مينه. أما في الشعر فغالبا ما كان تأثيرها سلبيا.
لطالما كانت العلاقة بين الأدب والسياسة علاقة تبادلية خطرة تحيلنا باستمرار إلى العلاقة المعقدة بين المثقف من جهة والسلطة التي هي بؤرة النشاط السياسي من جهة أخرى. وستظل السياسة تسبق الأدب إلى موقع الحدث، كما تسبق الصحافة والتاريخ. لكن الشاعرة الإيرانية سولماز شريف توجز العلاقة بين الشعري والسياسي بالقول:
«كل قصيدة فعل.
كل فعل عمل سياسي.
ولذا فكل القصائد سياسية».
سالم الرحبي شاعر وكاتب